رقمنة اللغة العربية
رقمنة اللغة العربية
المحاضرة 2
تأطير: مما لا شك فيه أن اللسانيات الحاسوبية فرع تطبيقي حديث، يستغل ما توفره التكنولوجيا المُتطورة من أجل بلورة برامج وأنظمة لمعالجة اللغات الطبيعية معالجة آلية.
وبما أن اللغة العربية لغة انصهارية، فإنها أسبق من غيرها إلى أن تلج إلى الآلة، بِحُكم التضخم التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم حاليًّا؛ لذلك تمَّ التفكير في جعل اللغة العربية لغة مواكبة للتطور الحضاري والعلمي، وليس هناك وسيلة سوى حوسبتها؛ لِمَا تملكه من خصوصيات تؤهلها لتلِجَ مجتمع الصناعة اللغوية العالمية.
ولعل أول ما وجَّهَنا لاختيار هذا الموضوع هو الوقوف عند أعمال جليلة لبعض العرب - والمغاربة على وجه التحديد - في التنظير والتأسيس للمجال مع إعدادهم لبرامج مختلفة، ومساهمة منا في إبراز جهود المغاربة في هذا الصدد، انشغلت هذه الورقة بموضوع: اللسانيات الحاسوبية: رقمنة اللغة العربية ورهان مجتمع المعرفة، وهو عمل من ضمن مشروع بحث قمنا به بعنوان: "جهود وإسهامات المغاربة في المعالجة الآلية للغة العربية: الدكتور محمد الحناش نموذجًا".
ونأمل أن يكون هذا العمل انطلاقة لمجموعة من الأبحاث في نفس المجال، سواء فيما تعلَّق بالوسائل التعليمية، أو ديداكتيك اللغة العربية، أو في مجال اللسانيات.
تمهيد:
إن اللسانيات منذ عهدها البنيوي لا زالت تشهد تطورات وقفزات علمية كبيرة، تجسَّدَت في انفتاحها على علوم عديدة، مِن قَبيل: علم الاجتماع، وعلم النفس، والهندسة والحاسوب؛ مما أدى إلى تنوع فروعها، ومنها أساسًا اللسانيات الحاسوبية، هذه الأخيرة تمثل ذلك الربط بين اللغة والحاسوب، وللإحاطة بهذا الفرع من اللسانيات التطبيقية، لا بد من معرفته، والوقوف عند تطوراته ومنجزاته.
اللسانيات الحاسوبية: مفهومها، تاريخها، وأهم منجزاتها
مفهوم اللسانيات الحاسوبية:
تتعدَّد تعريفات وتسميات [1] اللسانيات الحاسوبية، ومعها يصعب إعطاء تعريف جامع وشامل لها، لكن ما يمكن أن يجمع بينها هو أنها "دراسة علمية للغة الطبيعية من منظور حاسوبي، وهذه الدراسة لا يمكن أن تتم إلا ببناء برامج حاسوبية لأنظمة اللغات البشرية من خلال تقييس ومحاكاة نظام عمل الدماغ البشري لنظم عمل الحاسب الآلي"[2]، وهناك مَن يعرِّفها بأكثر من ذلك، ويذهب إلى اعتبارها "الدراسة العلمية للنظام اللغوي في سائر مستوياته بمنظار حاسوبي، ويتجلى هدفها في تطبيق النماذج الحاسوبية على الملَكة اللغوية"[3].
وفي هذا الإطار، كانت اللسانيات الحاسوبية ذلك العلم الذي يحاول ربط علاقة بين علمي اللسانيات والمعلوميات، قصد معالجة اللغات الطبيعية معالجة آلية، فجعلت من موضوعها الرئيس تعليم وتعلُّم اللغات كمجال أساس للدراسة والتجريب.
والحاسوب آلة ذكية، تحاكي في قدرتها وظائف الإنسان وقدراته الذهنية؛ لذلك هدفت اللسانيات الحاسوبية إلى "تفسير كيفية اشتغال الذهن البشري في تعامله مع اللغة، معرفة واكتسابًا واستعمالًا"[4]، بمعنى أنه "أصبح في إمكان الحاسوب محاكاة نمط اشتغال العقل الإنساني وتقييسه من خلال لغة صورية خوارزمية أشبه ما تكون باللغة الصناعية، كما أصبح أيضًا مجالًا تطبيقيًّا لاختبار الفرضيات حول الطريقة التي يشتغل بموجبها العقل الإنساني"[5].
وعليه، "فبعد أن كان الحاسوب آلةً ذات قدرة عظيمة في التعامل، وبسرعة فائقة، مع أعقد العمليات الحسابية وأطولها، أصبح في تطبيقات تكنولوجية المعلومات المتقدمة آلة ذكية قادرة على تداول مختلف المعلومات وتحليلها وتداولها"[6].
والعصر الذي نحيا تحت ظلاله هو عصرُ التفجُّر المعرفي، والانتشار الثقافي الخاطف، والعلم، والثقافة، والتكنولوجيا، والاتصال، والمعلوميات، ولقد أحدثت هذه التطورات بأدواتها ووسائلها "تأثيرًا بارزًا على مختلف مناحي الحياة اليومية للأفراد والجماعات، إلى درجة أصبح الكل يستغل نتائجها وتطبيقاتها في إنجاز عمله، وبموجب هذه الظاهرة طرأت تغيرات جذرية على مختلف الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، ومِن ثمة أصبح يعيش على إيقاع الانفجار المعلوماتي"[7]، وبذلك بِتْنا نجد صدى لتقانة الحاسوب في الإدارة، والأبناك، والاقتصاد، والتعليم، واللغة، إلخ، وبهذا، فالحاسوب قدَّم خِدمات مرِنة وسخية وجليلة للإنسان في مجالات عديدة، ويُعَدُّ المجال اللغوي من أبرز تلك المجالات، وهذه الاستفادة تزداد يومًا بعد يوم.
لذلك كان الحاسوب الركيزة الأساسية في هذا الفرع اللساني التطبيقي الحديث المتصل بالذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، باعتبار هذا الأخير يُركز على قواعد المعارف الأعمق والأشمل من قواعد البيانات، واللغة العربية استفادَتْ منه كثيرًا في إنجاز تطبيقات لغوية حققت بها قفزة نوعية؛ مما يفسر أنه لا حل لمُعْضلة اللغة دون اللجوء إلى أساليبِ الذكاء الاصطناعي وهندسة المعرفة، سعيًا إلى عالميتها ووَحْدتها.
"وقد توصلت بحوث الذكاء الاصطناعي إلى أن الوظيفة الأساسية للعقل البشري التي تميزه عن العقل الحيواني، هي مقدرته على إنتاج الأنظمة الرمزية واستعمالها، وعلى رأسها النظام الرمزي اللغوي المستعمل في: التواصل، وتمثيل المعلومة، وتخزين المعرفة، ونقلها، فقامت برامج الحاسوب على هذا الأساس"[8].
وتختلف اللسانيات الحاسوبية عن نظيرتها العامة في نقاط عديدة، وهي - على سبيل الذكر لا الحصر - كما يلي:
أولًا: اللسانيات الحاسوبية فرع تطبيقي صوري اهتم بالتقنيات المعلوماتية والاتصالية،
ثانيًا: تقوم على التخطيط والتنظيم والبرمجة،
ثالثًا: إن المُهتم باللسانيات الحاسوبية ينفتح على العلوم الحديثة والتطورات التكنولوجية والعلمية.
وعمومًا، فإن اللسانيات الحاسوبية تسعى إلى الدراسة العلمية للغات الطبيعية باعتماد أنظمة وبرامج متقدمة ومتطورة، واللغة العربية من بين تلك اللغات، وبهذا الاعتبار فإنها تحويل كل ما يتصل باللغة من صرف ونحو وغيرهما إلى صورة رقمية فرضتها الثقافة الصورية الحديثة، وعليه، يكون المنشغل بهذا المجال العلمي الصوري الحديث يرُومُ إلى صياغة نماذج صورية تحاكي اشتغال المَلَكة اللغوية لدى الفرد.
---------------------------------------
[1] أعطيت مجموعة من المسميات للسانيات الحاسوبية نتيجة اختلاف المنطلقات والمرجعيات والخلفيات، ومن تلك التسميات نذكر - على سبيل المثال - ما يلي: اللغويات المعلوماتية، واللسانيات الحاسوبية، وعلم حساب اللغة.. إلخ.
[2] مهديوي، عمر، (2008)، توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - الجزء الأول، إشراف عبدالغني أبو العزم، جامعة الحسن الثاني - عين الشق - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الدار البيضاء، شعبة اللغة العربية وآدابها - وحدة علوم اللغة العربية والمعجميات، ص. 17.
[3] المرجع والصفحة نفسهما، عن نهاد الموسى، اللغة العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 1، 2000، ص. 53.
[4] اليوبي، بلقاسم، (1999)، اللسانيات الحاسوبية مفهومها و تطوراتها ومجالات تطبيقاتها، (استشراف آفاق جديدة لخدمة اللغة العربية وثقافتها)، مجلة مكناسة، العدد 12، ص. 44.
[5] مهديوي، عمر، (2008)، ص. 5.
[6] نفسه، ص. 2.
[7] نفسه، ص. 4.
[8] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ص - ص. 5 - 6.