النظام النقدي في ظل اتفاقية بريتون وودز

انعقد مؤتمر "بريتون وودز ب "نيوهاشمير" في الفترة ما بين 1 و 22 جويلية 1944 بحضور حوالي 730 مندوب من 44 دولة مع عضو ملاحظ عن الإتحاد السوفياتي، أين شهد هذا المؤتمر تقديم مقترحين للشكل الجديد للنظام النقدي الدولي.

  1. المقترح الإنجليزي ل"جون ماينارد كينز": تم تقديم هذا المشروع من طرف ممثل المملكة المتحدة جون مينارد كينز بتاريخ 07 افريل 1943 كانت منطلقاته تتمثل في : (6)[1]

    • أن النظام النقدي الجديد يجب أن يكفل عدم تدخل في السياسات الداخلية للدول، إلا ما كان له أثر هام في العلاقات الاقتصادية الدولية، ويشترط أن تكون تلك العلاقات متساوية في المزايا بين الدول، وأن يحقق النظام المصلحة العامة لكل الدول المشاركة.

    • إنشاء مؤسسة مالية ذات مركز عالمي سماها ب " إتحاد المقاصة الدولية " ويكون دورها شبيها بالدور التي تلعبه البنوك المركزية محليا، حيث تتم التسويات المالية من خلال الدفع بالأرصدة بين البنوك المركزية، وذلك من خلال فتح حسابات دائنة ومدينة تتساوى من خلالها أرصدتها في الأخير كما يعتبر أن الرصيد الدائن للبلد العضو يبقى كقرض منه لصالح الإتحاد.

    • اقتراح كينز بأن يرتكز النظام الجديد على عملة أطلق عليها اسم" البانكور "وهي عملة مستقلة مرتبطة بالذهب".

    • اهتمام كينز في مشروعه المقدم بالعرض النقدي أي كمية النقود التي يجب إصدارها والتي أوصى بأن تتم على أساس حجم التجارة الدولية لا على أساس كمية الذهب التي تحوزها الدول، وفي هذا تأيدا منه لمصالح دولته المملكة المتحدة والتي كانت قوية تجاريا آنذاك.

  2. المقترح الأمريكي ل"هاري ديكستر وايت": تولى "هاري ديكستر وايت" وهو مساعد وكيل الخزانة الأمركية بلورة التصور الأمريكي حول مستقبل النظام النقدي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. والذي ارتكز على إنشاء مؤسسات مالية دولية في شكل"صندوق النقد الدولي" و "البنك الدولي للإنشاء والتعمير "، تتولى تنظيم الشؤون النقدية والمالية في الاقتصاد العالمي في إطار قاعدة الصرف-ذهب، يكون فيها الدولار الأمريكي العملة الوحيدة المرتبطة بالذهب، في حين تتحدد قيم باقي العملات الدولية بنسب ثابتة مع الدولار.

    ارتكز عمل مقترح "وايت" على منح صندوق النقد الدولي قروضا للدول الأعضاء التي تعاني من اختلالات مالية ليبرز بذلك على أنه صندوق دعم للاستقرار، إذ تشترك الدول الأعضاء فيما بينها لتجميع موارده المالية من خلال مساهمات مشكلة من الذهب وعملات أجنبية، ويلتزم الصندوق في إطار هذا المقترح بمبادلة العملات الوطنية للدول الأعضاء، والتزامها بشراء أو بيع كميات من الذهب والعملات الأجنبية مع الصندوق بما يمكن من عودة اقتصادياتها لحالتها التوازنية. ويمكن للدول الأعضاء في ظل هذا المقترح التقدم بطلب تغيير مستويات سعر صرفها في ظل العمل على تحقيق استقرار الأهداف الرئيسية المتمثلة في الاستقرار النقدي وتوازن ميزان المدفوعات.

    أما عن تحديد حجم حصص الدول الأعضاء في رأسمال هذا الصندوق وتحديد قوتها التصويتية في إدارة شؤونه، اقترح وايت أن يكون حجم الحصة لأي دولة على أساس حجم ما في حوزة الدولة من ذهب ونقد أجنبي، وحجم دخلها القومي ومدى تقلبات ميزان مدفوعاتها، وهو بهذا الشكل كان يعبر عن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تملك آنذاك أكبر كمية من الذهب العالمي وتنتج أعلى دخل في العالم.

  3. انهيار نظام "بريتون وودز": إن الخصائص التي ارتكز عليها نظام بريتون وودز باعتبار الدولار العملة القيادية الدولية والوحيدة القابلة للتحويل من وإلى الذهب على وجه الخصوص كانت سببا رئيسيا لانهيار هذا النظام. حيث أن هذه الخاصية كانت تستلزم بالضرورة أن يتواجد ميزان المدفوعات الأمريكي في حالة عجز حتى تتوافر بقية الدول على الدولارات التي تمكنها من تسوية مبادلاتها التجارية والمالية خصوصا الدول ذات العملات غير القابلة للتحويل.

    ومن جهة أخرى وفي ظل ارتكاز هذا النظام على خاصية استقرار أسعار صرف العملات الدولية عند مستوى 1 أوقية= 35 دولار فإن ذلك كان يعني أن تواصل عجز ميزان المدفوعات الأمريكي يقابله تواجد الدولار في مستوى أعلى من قيمته الحقيقية، وهو ما يعني وجود تناقض في هذا النظام الذي يجمع بين خاصيتي ضرورة عجز ميزان المدفوعات الأمريكي من جهة وثبات أسعار الصرف من جهة أخرى.

    وقد تميزت السنوات الأولى بعد اتفاقية بريتون وودز بما يسمى "ظاهرة نقص الدولار" نتيجة الطلب المتزايد من الدول المتضررة أساسا من الحرب العالمية الثانية على الدولار لتمويل نفقاتها، لكن الوضع تغير بعد ذلك أين تحول الاقتصاد العالمي مع حلول سنة 1960 إلى "ظاهرة تخمة الدولار" بعد العجز الكبير في ميزان المدفوعات الأمريكي نتيجة تزايد استثماراتها في الخارج ومخلفات حرب الفيتنام، وهو ما انعكس سلبا على المخزون الأمريكي، من الذهب الذي تراجع من حوالي 25 مليار دولار سنة 1950 إلى حوالي 10 مليار دولار سنة 1970 نتيجة لجوء البنوك المركزية الأجنبية لتحويل أصولها من الدولار إلى ذهب كرد فعل لتوقعاتها حول تخفيض قيمة الدولار مع الذهب.

    وقد كانت أولى التحذيرات حول اختلالات نظام بريتون وودز قد أطلقها الإقتصادي "تريفن" الذي أشار إلى أنه وفي ظل تنامي عجز ميزان المدفوعات الأمريكي، فإن هذا النظام يتميز بمعضلة أن الولايات المتحدة

    الأمريكية إما تلجأ لإتباع سياسة نقدية مقيدة للحد من هذا العجز وبالتالي التسبب في "نقص الدولار" والحد من نمو المبادلات الدولية كنتيجة لذلك، أو أن تستمر في سياستها الحالية التي تزيد من تراكم العجز في ميزان مدفوعاتها بما يتسبب في تراجع الثقة في الدولار الأمريكي. وعلى هذا الأساس اقترح على صندوق النقد الدولي تأسيس عملة خاصة به تكون محايدة، تحتفظ بها البنوك المركزية كاحتياطات بديلة للدولار الأمريكي، يكون إصدارها وفق معدلات ثابتة ومستقرة مع نمو الاقتصاد العالمي.

    وتمت الموافقة على اقتراح "تريفين" من قبل صندوق النقد الدولي سنة 1967 من خلال إصدار ما عرف

    ب"حقوق السحب الخاصة" التي اقتصر استعمالها كوحدة حساب لحصص الدول الأعضاء دون تحولها لعملة احتياط ومبادلات دولية من جهة لضغوط أمريكية ومن جهة لتزايد بوادر فشل نظام الصرف الثابت في تلك الفترة، خصوصا ما شهدته نهاية الستينات سنوات 1967 و 1968 من بروز هجمات مضاربة على انخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي مع الذهب، وهو ما دفع البنوك المركزية آنذاك للإعلان عن إنشاء سوق مزدوجة للذهب أين يخصص أحد السوقين لمعاملات الخواص وفق تغيرات العرض والطلب في حين يخصص السوق الثاني للمعاملات الرسمية بين البنوك المركزية والتي تتم على أساس سعر الصرف الدولار مع الذهب المحدد سابقا ب 1أونصة تساوي 35 دولار أمريكي.

    ومع توالي الضغوطات على الدولار الأمريكي الذي أصبح مقوما بأعلى من قيمته الحقيقية، لم تكن عملية تخفيض قيمة الدولار مع الذهب عملية سهلة باعتبارها تتطلب تنسيقا مع الب وك المركزية الأجنبية لتعيد هي الأخرى ربط قيم عملاتها مع الدولار عند مستويات مختلفة ومرتفعة في الغالب، وهو ما رفضته عديد الدول نتيجة تأثيرات ذلك الرفع على تنافسية صادراتها. ومن ثم ففي ظل عدم التوصل لاتفاق قام الرئيس الأمريكي "نيكسون" في 15 أوت 1971 بالإعلان عن وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وفرض ضريبة تقدر ب 10 % على الواردات الأمريكية إلى غاية توصل البنوك المركزية الأجنبية لاتفاق يقضي بإعادة تقييم عملاتها عند مستويات أعلى.

    وفي ديسمبر 1971 تم التوصل لاتفاق بتخفيض قيمة الدولار الأمريكي مع العملات الأجنبية بحوالي 8 % ومعها تم إلغاء ضريبة 10 % مع الإبقاء على إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وتم تخفيض سعر صرف الدولار الأمريكي مع الذهب إلى مستوى 1 أونصة ذهب يساوي 38 دولار أمريكي ثم خفضت مرة أخرى في فيفري 1973 ب 10 % بحكم استمرار هجمات المضاربة على تخفيض قيمة الدولار مع الذهب، التي دفعت في مارس 1973 إلى الإعلان عن التخلي عن نظام الصرف الثابت والتوجه نحو تعويم أسعر الصرف. (7)[2]

  4. التطورات النقدية العالمية بعد انهيار نظام بريتون وودز:

    • يترك في النظام العائم الحر تحديد أسعار الصرف بين العملات إلى قوى السوق، وتتوقف مدى تقلبات سعر الصرف على الكمية المعروضة والمطلوبة من الصرف الأجنبي وكذلك يعتبر التعويم حرا إذا لم تتدخل السلطة النقدية في سوق الصرف من أجل مساندة عملتها الوطنية أو أن تتخذ قرارات اقتصادية مدفوعة باعتبارات تتعلق بسعر صرف عملتها، ولذلك فإن الدولة تكون في غير حاجة إلى الاحتفاظ باحتياطي كبير من العملات الأجنبية طالما أنها لا تتدخل في سوق الصرف. (8)[3]

    • في العام 1974 في الدورة العادية لصندوق النقد الدولي شكلت لجنة مؤقتة لإعداد دراسة حول نظام النقد العالمي، ضمت ممثلين عن مختلف الدول الأعضاء في الصندوق، انحصرت مهمتها في إعداد اقتراحات للتكيف مع مقتضيات الحاضر، وقد عرض هذا الاتفاق في جانفي 1976 في كينغستون ''جمايكا'' بعد المصادقة عليه من قبل 85 % من الدول الأعضاء، والتي تتمتع ب 78.52% من الحجم الإجمالي للحصص في الصندوق، وقد عرف هذا المؤتمر بمؤتمر جمايكا، وفيه تم التعديل الثاني لاتفاقية بريتون وودز، والذي بدأ سريانه ابتداء من أفريل 1978. فاتفاقية جمايكا سمحت للصندوق بالتدخل بشكل فعال من ذي قبل في النظام النقدي العالمي، وفي السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء في الصندوق وخاصة تلك المدينة منها. وبذلك تكون اتفاقية جمايكا قد أدت دور الذهب في النظام النقدي العالمي، وقررت نظاما أكثر مرونة لأسعار الصرف، ودعمت حقوق السحب الخاصة.