المصادر الأساسية:
يعد التشريع مصدرا أساسيا للقانون الدولي الخاص؛ حيث نجد قواعد التنازع عادة في التشريعات الوطنية وتحديدا القانون المدني، وقد سبق وأشرنا إلى أنّ القانون المدني الألماني لسنة 1896م هو أول قانون نظم قواعد التنازع في المواد من 07 حتى 31(9)[1]، وهو ما سار وفقه المشرع الجزائري الذي اعتبر في المادة الأولى من القانون المدني رقم 10-05 أنّ التشريع هو المصدر الأول لهذا القانون والذي نظم من خلاله موضوع تنازع القوانين في المواد من 9 حتى 24، إلى جانب المواد 95 وما بعدها من قانون الحالة المدنية والمتعلقة بالعقود المبرمة خارج الوطن(تعد صحيحة وفق القانون المحلي)، وغيرها من الموضوعات المنطوية تحته؛ سواء في نصوص في باقي القوانين أو عن طريق قوانين وتشريعات خاصة بها.
وكلّ ذلك وفق ما حدده الدستور؛ والذي نص في المادة 29 منه (تعديل 2020م) على أنّ تعمل الدولة على حماية حقوق المواطنين في الخارج ومصالحهم في إطار احترام القانون الدولي والاتفاقيات المبرمة مع بلدان الاستقبال أو الإقامة، وكذا في المادة 50 منه نصت على أن يتمتع كل أجنبي يتواجد فوق التراب الوطني بشكل قانوني بحماية القانون لشخصه وأملاكه.
الاتفاقيات الدولية:
تأتي في المركز الأول من حيث قوة الإلزام للقاضي الوطني حين النظر في نزاع ذو عنصر أجنبي؛ سواء حين تحديد الاختصاص القضائي أو معرفة القانون واجب التطبيق (المادة 21 ق مدني جزائري)، مع ملاحظة أنّ الاتفاقيات قد تتضمن توحيدا لقواعد موضوعية في مجال معين فهي تحل محل التشريع الداخلي للدول الأعضاء وتعتبر بمثابة قانون موحد يقضي على مشكل تنازع القوانين، وقد تتضمن اتفاقا على قواعد موضوعية يحل على أساسها القاضي المشكل المعروض عليه، كما أنّها قد تكون الاتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف ومن أمثلتها:
2-1-الاتفاقيات الثنائية: ومثالها اتفاقيات التعاون القضائي التي أبرمتها الجزائر مع كل من المغرب وتونس وموريتانيا ومصر وفرنسا، حيث تضمنت في معظمها منح رعايا الدولتين المعاملة بالمثل فيما تعلق بالإقامة والتوطن وممارسة الأنشطة المهنية والتجارية، كما تضمنت تطبيق القانون الداخلي للشخص طالب التنفيذ أو قانون البلد المطلوب فيه التنفيذ.
2-2-الاتفاقيات الجماعية: تهدف هاته الاتفاقيات إلى توحيد القواعد الموضوعية في مسائل معينة تتعلق بالعلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبين وقد انظمت الجزائر للعديد منها، ومن أمثلتها اتفاقية باريس لسنة 1883م (معدلة) الخاصة بالملكية الصناعية، واتفاقية فارسوفيا 1929م المتعلقة بتوحيد قواعد النقل الجوي، واتفاقية نيويورك لسنة 1954م الخاصة بالقانون الأساسي لفاقدي الجنسية، واتفاقية بروكسل 1961-1967م المتعلقة بتوحيد بعض قواعد النقل البحري للمسافرين، واتفاقية برن(سويسرا) 1970م الخاصة بتوحيد قواعد النقل عبر السكك الحديدية.
وتهدف الاتفاقيات ككل إلى:
- توحيد قواعد التنازع،
- وضع قواعد موضوعية موحدة تحل النزاعات المتضمنة عنصرا أجنبيا في مسألة ما.
وقد الاتفاقيات دورا كبيرا في حل الإشكالات المطروحة في مجال القانون الدولي الخاص، خاصة فيما تعلق بمجال الأحوال الشخصية.
هذا وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى مسائل مهمة تتعلق بالاتفاقيات الدولية من جهة تفسيرها وقوتها الإلزامية وسموها على القانون؛ ففيما تعلق بتفسيرها في حال وجود نصوص غامضة فقد اختلف الفقهاء في الجهة التي تملك الصلاحية في ذلك، وهل يسمح للقاضي الوطني بذلك خاصة وأنّه أول من يعترضه هذا الغموض كونه المخول بتطبيق القانون؛ والجواب على ذلك بشقين؛ الأول أن الدول التي أبرمت المعاهدات تملك صلاحية تفسيرها، كما أنّ القضاء الدولي يملك هذه الصلاحية بدوره وهو ما نصت عليه المادة 36 من القانون الأساسي لمحكمة العدل الدولية، كما ذهب القضاء في بعض الدول على شاكلة مصر إلى تمكين القاضي من تفسير الاتفاقيات كونها تصبح بمثابة تشريع داخلي بمجرد التوقيع عليها، في حين ذهب رأي فقهي آخر إلى أنّ القاضي يطلب التفسير من حكومته كونّها أدرى بالاتفاقية منه باعتبارها الموقعة عليها(10)[2] .
أمّا بالنسبة لقوتها الإلزامية فقد قضت المحكمة الدائمة للعدل الدولي سنتي 1930-1932م بأنّه لا يجوز للدول الاحتجاج بتشريعها الداخلي للتخلص من التزاماتها الدولية، وأيدت هذا الحكم محكمة العدل الدولية سنة 1951م، وذلك نتيجة الاختلاف بين الدول حول مدى الزامية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية(11)[1].
أمّا فيما تعلق بمسألة سمو الاتفاقية على التشريع الداخلي؛ وتحديدا حالة تعارضها معه فقد اختلف الفقهاء في ذلك (وتبعتهم القوانين في مختلف الدول)، بين من يرى بأنّها تسمو على التشريع الداخلي بما فيه التشريع الأساسي، وبين من يرى بأنّها تسمو على التشريع الداخلي دون الأساسي، والخلاف حول هذه المسألة إنّما يتعلق ويتمحور حول حالة صدور قانون داخلي يتعارض مع أحكام الاتفاقية فهل تستثنى أحكامها أم أنّ القاضي يطبق القانون رغم أنّه يعارض اتفاقية أو معاهدة نافذة وسارية المفعول؟ والراجح في المسألة أنّ القاضي ينحني أمام إرادة مشرعه الداخلي ويطبق القانون وتتحمل الدولة التزاماتها الدولية عن ذلك.
وبالرجوع للتشريع الجزائري نجد أنّ المادة 54 من الدستور الجزائري (تعديل 2020م) قد نصت على أنّ: "المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور تسمو على القانون"، والمقصود بالسمو في هذه المادة هو سموها على القانون لا على الدستور كونه الوثيقة الأسمى في الدولة والتي تتضمن المبادئ العامة التي يقوم عليها كيان الدولة(هناك من يرى العكس)، والتي يجب أن تتماشى جميع القوانين معها وأن تسبح في فلكها وإلّا اعتبرت غير دستورية، كما أنّ المادة 21 من القانون المدني الجزائري نصت على أنّه لا تسري أحكام المواد السابقة إلّا حيث لا يوجد نص على خلاف ذلك، في قانون خاص أو معاهدة دولية نافذة في الجزائر.
العرف الدولي:
يقصد بالعرف مجموعة القواعد القانونية التي تنشأ من اطراد سلوك النّاس على اتباعها على نحو معين زمنا طويلا مع اعتقادهم بإلزامها، وبأنّ مخالفتها توجب توقيع جزاء مادي (وفي هذه الحالة وجود أعراف بين الدول حول مسائل معينة)، وقد تقلص دوره كمصدر للقانون الدولي بسبب تبني معظم الأعراف في معاهدات خاصة بالقانون الدولي الخاص وكذا تقنينها ضمن قوانين داخلية، ومن أهم هذه الأعراف(12)[1][1] :
- تطبيق قانون الإرادة على مضمون العقود ذات العنصر الأجنبي،
- تطبيق قانون محل إبرام العقد على شكله،
- خضوع إجراءات المرافعات لقانون القاضي،
- خضوع الميراث في المنقول لقانون موطن المتوفى،
- تطبيق قانون موقع العقار على العقود المتعلقة به.
مبادئ القانون الدولي الخاص:
أقرها المشرع بموجب المادة 23 مكرر من القانون المدني كمصدر لقواعد التنازع؛ حيث أكدّ فيها على أن تطبق المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص فيما لم يرد بشأنّه نص في المواد الخاصة بتنازع القوانين؛ وبالتالي فهي مصدر خاص بتنازع القوانين دون غيره من مواضيع القانون الدولي الخاص يلجأ إليها القاضي حين لا يسعفه نص في القانون الداخلي أو الاتفاقيات الدولية، وهناك من الفقهاء من يرى بأنّه لا يطبقها إلّا إذا لم يوجد عرف دولي وبالتالي فهي متأخرة عنه في الترتيب، والمبادئ العامة للقانون الدولي الخاص هي تلك المبادئ الأكثر شيوعا في الاستعمال الدولي مثل: تنفيذ العقد الدولي بحسن نية، وتضييق نطاق فسخ العقود في مجال البترول وعقود نقل التكنولوجيا.