الإرسال الأول

مناهج النقد الأدبي السنة 3 ل م د

                                                                     د.محمد الصديق بغورة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المنهج البنيوي

 

 تمهيد:

ماهية المنهج:

ليست المناهج النقدية غايات في حدّ ذاتها، بل أدوات دقيقة منظمة خاضعة للتفكير العلمي الواصف للنص وبيان خصائصه ونظامه وظواهره الفنية والجمالية، وقد يقال إن المنهج النقدي يأتي في المرحلة التالية لإنتاج العمل الفنيّ، وهذا غير دقيق؛ إذ العملية الفنية ليست خالية من الأحكام النقدية الحاضرة على الأقل في الذوق المشكل بفضل نصوص سابقة، ومثالا على ذلك، فإن كل تشطيب يحدث في مراحل تشكّل النص إنما هو ممارسة نقدية مصاحبة للكتابة الفنية. ([1]) فالمسألة المطروحة هنا ليست مسألة أولية الأدب على النقد أو العكس بل هي أن العلاقة بينهما جدلية وأساسية ومتواصلة، وهي أنهما معا متأثران بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لذلك فالنقد طريقة في الحياة زفي التفكير وموقف من الحضارة ككل وهو علامة هامة من علامات حيوية الفكر وطريقة كذلك من أهم الطرق التي يجدد بها الفكر نفسه. ([2]) ولقد كان لأربعة علماء الدور الأساس في حركة النقد السياقي وهم داروين بنظرية النشوء والتطور وماركس صاحب النظرية الجدلية التاريخية وفريزر الذي يضع الأدب في سيرورة السحر والأسطورة  وفرويد صاحب نظرية التحليل النفسي، فضلا عن فكرتين أخريين لكل من جون ديوي صاحب نظرية الاستمرار التي ترى بأن الأدب فاعلية إنسانية يمكن أن تقاس بطريقة عليمية، والسلوكيين الذين يرون بأن الأدب قابل للتحليل. ([3]) وبذلك فإن المناهج السياقية قد تأثرت كثيرا بالروح العلمية الحديثة والفلسفات الاجتماعية والنفسية مما أدى إلى التفكير في إمكانية تحليل النص الأدبي تحليلا علميا ممنهجا واعيا بعدد من الدعامات العلمية والفلسفية بعيدا عن الذاتية والانطباع المتقلب.([4]) وبالرغم من التقدم الذي حصل في عملية التحليل بفضل هذه المناهج، غير أن الانتصار للنص دفع إلى التشكيك فيها بعد أن صارت القضايا التي يثيرها النص في الاجتماع والنفس والتاريخ أهم من الجوانب النصية الفنية الداخلية بالدعوة إلى التركيز على النص وليس على غيره وجعله البؤرة التي تحوم حولها كل التحليلات.   

ظهور المنهج البنيويّ:

جاء المنهج البنيوي استجابة لحاجة ملحة إلى تحليل داخلي مركز على النص، ورفع شعار شهير في هذا المجال هو (النص ولا شيء غير النص، ولا شيء خارج النص) وتأثر في ظهوره بأفكار العالم السويسري اللساني دي سوسير والاتجاه الشكلاني الذي نظر إلى النص على أنه وحدة عضوية يتلاحم فيها الشكل بالمضمون مع استبعاد كل محاولة لربط أي نص أدبي بما هو خارجه من في الواقع كحياة الأديب وواقع الحياة، كما رفض هذا الاتجاه الذي يستأصل العمل الفني أو يحرره من السياقات التي كانت ترى بأن النص معبر عن زمان ومكان وذات مؤلفة، ولقد ظهر هذا التوجه بعد انتهاء الشكلانية الروسية بداية الثلاثينيات واتخذ الجامعات الأميريكية الجنوبية خاصة مركزا له.([5]) فقد كانت النصوص الأدبية ثانوية في المناهج السياقية التاريخية والاجتماعية والنفسية.

وكثيرا ما قدمت التعريفات الخاصة بهذا المنهج بالرغم من أن من الباحثين من يرى بأنه من الصعب تحديده تحديدا دقيقا لأنه ظهر بأشكال متنوعة داخل حركة العلوم المعاصرة لا تسمح بتقديم قاسم مشترك، غير أن التعريف ممكن في حالة تجنب الطرح المثالي، لندرك أولا أن البنية تكتفي بذاتها ولا تتطلب لإدراكها اللجوء إلى أي من العناصر الغريبة عن طبيعتها بالبحث فيها على أنها ذاتية الانضباط، بنية يسعى الناقد إلى اكتشاف نظامها العام الذي يحكمها مما يجعلنا نشعر بامتلاك المحرك الحميم المتحكم في ذلك النظام انطلاقا من ثلاثة مبادئ تحكمها هي:

أ‌-        الجملة أو الشمول  la totalitéوهي كون البنية مشكّلة من عناصر تخضع جميعا لقوانين تميز المجموعة.

ب‌-   التحويلات transformations الكاشفة عن وجود قانون داخلي يحكم البنية، وندرك من هذه الخاصية أن لكل نص نشاطا داخليا لكل عنصر من عناصره يؤدي دورا في البناء لذلك فهو بان لغيره ومبني في الوقت نفسه. ومثلا عن ذلك فالكلمة تكتسب معناها من موقعها داخل غيرها لكن غيرها يسهم في اكتساب معناها. فقولي كتبت بالقلم يكون فيها حرف الباء بمعنى يختلف عن جملة ينجح الطالب بجده. فقد ساهم حرف الجر في بناء معنى معين لكنه اكتسب في كل بنية دلالة مختلفة.

ت‌-   الضبط الذاتي l’autoréglage ، أو بعبارة أدق (الانضباط)، وهو يؤدي إلى الحفاظ عليها وإلى نوع من الانغلاق. ([6])  

ينسب هذا المنهج إلى البنية structure، وبالرغم من تعدد تعريفاته إلا أنه في معناه العام الواسع طريقة بحث في الواقع ليس في الأشياء الفردية بل في العلاقات الرابطة بينها كما يرى ذلك "بياجي"Piaget في كتابه البنيوية 1968 الذي تناول البنيوية في العلوم الإنسانية ورآه منهجا معينا في تحليل الوقائع التي تتم ملاحظتها على أساس أنها كل un ensemble مكون من عناصر متفاعلة وهذا المنهج بحسب "بياجي" أساسي في العلوم الإنسانية.

ولقد ظهر المنهج البنيوي بفرنسا في الستينيات مستفيدا أولا من كتاب تودوروف باللغة الفرنسية "نظرية الأدب" نصوص الشكلانيين الروس" وهو ترجمة لأعمال الشكلانيين، ومتفاعلا مع الروح العلمية التي شهدها العصر.

ويلخص الشعار "النص ولا شيء غير النص" وينطلق من رؤية معينة هي أن العالم كله مكون من بنيات مرئية وغير مرئية، ويقول غريماس مثلا بأن الأساطير جميعا تتميز بوجود البنية ذاتها، ولتوضيح مفهوم مصطلح البنيوية لا بد أولًا من الوقوف على الدلالة اللغوية له، فبالعودة إلى المعاجم اللغوية يتبيَّن أنها تحدّرت من (بَنى يبْني بناءً)، فهي إذن الصورة أو الهيئة التي شُيِّد عليها بناءٌ ما، وكيفية ذلك التركيب (1). ولا يعني ذلك عملية البناء نفسها أو موادها، وإنما كيفية تجميع هذه المواد وتركيبها وتأليفها لنكوّن شيئًا ما جديرا بأداء وظائف معينة.

أما اصطلاحا، فالبنيوية نظر في تصميم الأعمال الأدبية الداخلي بما يشمله من عناصر رئيسة تتضمن كثيرا من الرموز والدلالات، بحيث ينسجم كل عنصر مع عنصر آخَر، ورغم تعدد الآراء التي حاولت تحديد نشأة البنيوية التي يرجع البعض أصولها حتى إلى عهد سقراط، غير أنه يشار إلى فضل أول لسوسير ودراساته اللسانية لكن يتم التأكيد بأن رومان جاكبسون هو أول من استخدمه مصطلحا نقديا عام 1939([7]) ولقد ظهرت البنيوية في مجالات حياتية عديدة، لكن ما يهمنا هنا هو ظهورها في النقد الأدبي. فالمنهج البنيوي لم يظهر في الساحة النقدية الأدبية اللغوية إلا منتصف القرن العشرين(2)، بفرنسا في عقد الستينيات من القرن العشرين، بعدما قام الباحث البلغاري الأصل (تزفيتان تودوروف 1939-2017) بترجمة أعمال الشكلانيّين الروس إلى اللغة الفرنسية (3) في كتابه "نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس"..

مصارد البنيوية وروافدها:

أول مصادر البنيوية وأهمها هي إذن حركة الشكلانيين الروس، التي ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، وقد دعت إلى العناية بقراءة النص الأدبي من الداخل؛ إذ الأدب - من منظورهم - نظام ألْسُنِيًّ ذو وسائط إشارية (سيميولوجية علاماتية) للواقع، وليس انعكاسًا له ولذلك استبعدوا علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع والتاريخ.

أما المصدر الثاني فـهو " (النقد الجديد new cristisism) ([8])الذي ظهر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أمريكا؛ فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنية وفقا لمقولة الشاعر الأميريكي الشهير[عزرا باوند 1885-1972]، وأنّه لا حاجة فيه للمضمون، وإنّما الأهم هو قالب الشعر كما أشار إلى ذلك  الفيلسو الأسكتلندي[ديفيد.هيوم]-David Hume 1711--1776 ([9])، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته كما يرى ذلك الأديب الأميريكي[جون كرو رانسوم]"(4)Jhon Crow Ransom  (1888-1974).

وأما المصدر الثالث فهو ذيوع علم اللسانيات الحديث، الذي يتقاطع مع المدرسة الشكلانية الروسية ([10])، ولعلّ هذا المصدر هو الأهمّ، ولا سيما "ألسُنية دي سوسير" رائد الألسنية البنيوية، بفضل محاضراته (دروس في الألسنية العامّة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بِنية)، إلّا أن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيّته، فقد مهّد لاستقلال النص الأدبي نظامًا لغويًا خاصًّا، كما فرّق بين اللغة والكلام: فـ (اللغة) نتاج المجتمع للملكة الكلامية، وأما (الكلام) فهو حدَث فرديلاى   متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم(5).

وأما المصدر الرابع فهو ما يسمى "حلقة براغ"، وهي حلقة دراسية مكوّنة من ثلة من علماء اللغة في براغ -عاصمة التشيك-، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها "ماتياس" إلا أن المحرّك الرئيس لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسية "ياكبسون" الذي تنقّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلّ بشّر بآرائه، وكان له دَور فعّال في نشر الوعي بالنظرية الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين. ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب سوسير زيته ونسجتْ الشكلية خيوطه وأخذوا يتحدّثون بشكل صريح متماسك عن بنائية اللغة(6)

أعلام النقد البنيوي:

من أعلام النقد البنيوي في الغرب رولان بارت، وتزفيتان تودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم، كما عرّف بروّاد البنيوية في مجالات اختصاصهم: شتراوس الأنثربولوجي، صاحب كتاب (الانثروبولوجيا البنيوية)([11]) وفوكو الابستيمولوجي، ولاكان النفساني، وألتوسير الماركسي.

بنيوية أم بنيويات؟:

اختلفت أشكال البنيوية وتنوعت فمنها البنيوية اللغوية والأدبية الشكلية والبنيوية الأدبية الماركسية التكوينية (التوليدية) لكنها جميعا منطلقة من مجهودين أحدهما سوسير في اللسانيات وثانيهما (رومان جاكبسون) في الشكلانية. ورغم تعدد هذه المناهج إلا أنها تتحد في إبعاد السياقات الخارجية عن إنتاج النصوص.

أسس البنيوية اللغوية:

أ‌-       النسق: وهو مجموعة القوانين التي تربط الكلمات وتؤدي إلى دلالة

ب‌-  الكلام واللغة: أو السمة الفردية والسمة الجماعية؛ فإذا كانت اللغة تعبيرا عن نظاما شاملا يحرص على الثبات فإن الكلام حيوية وتغير وتنوع دال على ذات فردية؛ لذلك فإن التعبير الأدبي يغلب عليه الجانب الكلامي في دلالته الأسلوبية الفردية واللغة في القوانين الصارمة المطبقة معجما وتركيبا، ثم تتدخل الانزياحات لتفصح عن فرادة الأديب.

ج - ثنايئة الدال والمدلول: الدال الصورة صوتية (أو الكتابية المرسومة)والمدلول هو المعنى. والعلاقة بينهما عموما هي اعتباطية نابعة من العرف والاتفاق

2- البنيوية الأدبية الشكلية:

 يرفض هذا المنهج تدخل السياقات في قراءة النص الأدبي ويركز على فهمه بنية مكونة من شبكة علاقات ووحدات وأجزاء صغيرة مترابطة وغاية النقد هي الكشف عن قانون هذه العلاقات وإبراز درجة ترابطها ويقف عند حدود اكتشاف هذه البنية دون الاهتمام بدلالاتها مهملا وظيفة العمل الأدبي والقيم التي يقدمها، بدراسة عدة مستويات نحوية وإيقاعية وأسلوبية ليتم بعد ذلك تقسيم النص وحدات صغيرة، كما يتم اكتشاف عدة علاقات التشابه والتناظر والتضاد والتجاور مع التحليل الصوتي بالاعناية بالوقف والنبر والمقطع أما تركيبيا فتدرس الجمل من حيث طولها ونوعها...

3- البنيوية التكوينية (بنيوية غولدمان Lucien Goldman):

لم يوافق غولدمان على عد النص الأدبي بنية مغلقة منعزلة كل الانعزال عن الواقع والمادة المساهمين في إنتاجه بل عد الأدب تعبيرا عنهما غير أنه يقوم بتحييد صاحب النص عن عملية التحليل ويتم ربط الأدب بالمجتمع ككل وبقية الأنساق الأخرى في البنية التحدتية بما تحويه من صراع بين الطبقات وبذلك فإن هذه البنيوية الغولدمانية ترى للفن وظيفتين : الأولى اجتماعية والثانية جمالية مع تأكيد أولوية الثانية.   

تتميز هذه البنيوية بالتوفيق بين مراعاة أهمية النص أو البنية الداخلية وبين مراعاة الظرفي التاريخية التي ولد فيها النص أي أنها بنيوية تسمح بنوع من العلاقة بين البنية الفوقية الثقافة والأدب والفنون ... والبنية التحتية (الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمادي...) ولا غرابة في هذا الجمع بين الطرفين لأن هذا المنهج ولد في أحضان الماركسية؛ لذا حاول بعض الماركسيين التوفيق بين الطرح الشكلي وبين مبادئ الماركسية المؤمن بأثر البنية التحتية في صياغة الآداب وشتى الفنون الأخرى لذلك فهو يركز على التفسير الماديّ الاجتماعي للأدب.

 

نموذج للتحليل البنيوي:

أروى وصافية لأبي نواس

 

1-    لئن هجرتْكَ بعد الوصل "أرْوى" فلم تهجُرْكَ صافيةٌ عُقارُ
2- فخذها من بنات الكرْم صِرْفاً كعين الديك يعلُوها احمرارُ
3- شراباً، إن تُزوجْهُ بماءِ           تولَّدَ منهما دُرَرٌ كِبار
4- طبيخُ الشمس، لم تطُبخْهُ قِدْرٌ بماءٍ، لا ولم تلذعْهُ نار
5- على أمثالها كانت لكسْرى    أنوشِرْوانَ تَتَّجرُ التِّجارُ
6- إذا المخمورَ باكرها ثلاثاً تطايرَ عن مفاصِله الخُمارُ
7- وهات فغنِّنى بيتي "نُصَيْب"فقد وافاني القَدَحُ المدارُ
"
8- ولولا أن يقال صَبا نُصيبٌ لقلت بنفسِي النشءُ الصِّغار
9- بنفسي كلُّ مهضومٍ حَشاها إذا ظُلِمَتْ، فليس لها انتصارُ!" ([12])

التحليل:

1-    اتجاهات النص([13])

يتكون النص من نسقين، الأول نسق الحبيبة ويضم الشطر الأول من البيت الأول والأبيات السابع والثامن والتاسع، ويتمثل في الحبيبة (أروى) التي تجسد معنى الهجر، أما النسق الثاني فهو نسق الخمرة التي هي موضوع القصيدة وتشمل الشطر الثاني من البيت الأول والأبيات الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس.

وينضم بيتان متضمنان هما للشاعر " نُصيب" في النسق الأول، وهما لا يمثّلان في الظاهر على الأقل جزءاً من نسيج القصيدة العام على الرغم من التقائهما في المعنى العام الذي عرضه النص الأصلي، لكنهما غير منفصلين عن النص لأنهما يصبان في روح النص.

وإذا ما قارنا النسقين كميّا وجدنا أن النسق الأول قد شغل مساحة أصغر، إذ المساحة الأوسع كانت من نصيب النسق الثاني الخاص بالخمرة، وهذا ما يعكس رغبة الشاعر في تهميش الحبيبة الآدمية ونفض اليد منها، ليبقى المجال مفتوحاً أمام الخمرة معشوقته المفضلة.

والمعجم الخمري المهيمن يعزز ذلك([14]): صافية، عقار، بنات الكرم، صرفاً، احمرار، شراباً، تزاوجه بماء، درر كبار، طبيخ الشمس، المخمور، باكرها، ثلاثاً، تطاير من مفاصله، الخمار، القدح، المدار.

والمتكلم في القصيدة هو الشاعر، الذي يوجه الخطاب إلى شخص معيّن ندركه من خلال ضمير المخاطب (هجرتْك/ لم تهجركَ) ، ويمكن تحديده بهجر أروى له، وقد يبدو أن ضمير المخاطب هذا مجرد إجراء فنيّ متناول في تقاليد الشعر العربي القديم، فكثيرا ما يعبر العربي عن ذاته بالضمير أنت. لكن قد يكون الضمير في هذه الحالة حكمة وتوجيها ودعوة عامة إلى تفضيل الخمرة على المرأة، وفي ذلك ريبة من الإنسان واطمئنان من الذات الإنسانية للخمر.

ولقد تعددت الضمائر في النص: منها ضمير المتكلم (الشاعر)، وضمير المخاطب، وضمير الغائبة (الحاضرة/ الخمرة) فضلا عن بيتي نصيب بن رباح([15]) الواردين أغنية من اختيار الشاعر المتكلم أبي نواس) داخل هذا هذا البوح وبالتالي فالمكان الذي قيلت فيه القصيدة هو مجلس شراب وغناء (البيت السابع)، ونتيجة لذلك يمكن عدّ المقطوعة، صوتاً غنائياً، ويتعلق التضمين ظاهرياً بالمرأة وباطنياً بالخمرة، فالهاء في (حشاها) عائدة إلى الخمرة، لذا سيكون تصريح نصيب باستعداده لفداء الجواري الحسان بنفسه، لولا خوفه من تقوّل الناس، وهذا يوافق روايات عدد من الدراسات القديمة لتي أكدت عفة نصيب وتخلقه ورزانته التي وصلت إلى حد كرهه للهجاء([16])

 وفي البيت الأخير رمزية في التصوير الشعري قائمة على تشخيص الخمرة التي بدت على هيئة امرأة فاتنة، في قول نصيب: أفدي بنفسي هذه الأنثى/ الخمرة، الرشيقة، وهو ما يؤيده الشطر الثاني (إذا ظلمت فليس لها انتصار)، وما ظلم الخمرة سوى عدم تخميرها وتعتيقها، وبالتالي فهي إذا لم تعتق فلن يكون لها أنصار ولا انتصار، وتبقى مظلومة ومن القراءة الأولية نسجل الملاحظات التالية:

1-    - يصر الشاعر على خرق قيم مجتمعه الخُلقية، بالتعبير الصريح عن هذا الخرق، وبجرأة وتحد.

2-    يبدو احتفال الشاعر بالخمرة بعيدا عن البراءة والاعتباطية فهو ذو دلالات نجدها في وسطه الاجتماعي والثقافي، وفي تركيبه النفسي، مما يجعل الخمرة ذاتهت كائناً حياً يؤدي دورا بارزا في سيرة الشاعر وتفكيره، غير أنها تتحول لديه إلى رمز لأشياء تتضح بالتحليل.

3-    - اختار أبو نواس للشاعر نصيب بيتين ليبني على منوالهما (البحر الوافر، القافية الراء، والموضوع وطريقة التصوير، التركيب اللغوي) ليصبح لهما دلالة أخرى يفرضها سياق النص، فضلا عن المكان والزمان/ المجلس؛ ففي ذكر نصيب الأسود المنتمي إلى أسرة عبيد إشارة إلى التمرد على النظام الاجتماعي حيث المنظومة الخلقية عنصر من عناصره.

4-    أضاف الشاعر إلى القصيدة تعدداً للأصوات بالمعنى البسيط ([17]) وحقق فيها نوعا من التصاعد ويبدو هذا التعدد الصوتي ذا غاية سياسية هي ممارسة حق الجماعة في التعبير الحر.

5-    - اقتران الخمرة بالغناء يفرض جواً وفضاء مكانياً وزمانياً استثنائيين أشبه بالاحتفالية، وتتحكم فيه طقوس خمرية معروفة في تقاليد الخمريات حيث تتضافر استجابة الحواس مجتمعة من ذوق، واستماع ونظر واستمتاع بالشعر تغنيه الجواري المتخصصة ورقص ففي هذا الفضاء، تحل الغرائز محل العقل، واللاشعور محل الشعور، والذات الفردية المنحلة محل الذات الجماعية / المجتمع الملتزمة، والأصوات محل الأفكار، فكثيرا ما تثار في السامعين المخمورين إحساسات وعواطف حقيقية، صادقة وآنية، وفي هذا السياق تدخل قصيدة أبي نواس وتبرز من خلال اختياره لبيتي الشاعر نُصيب.

المطلع:
يتحدد مفهوم الخطاب منذ البيت الأول: المتكلم /الشاعر والمخاطب/ الشاعر نفسه، فقارئ الأدب العربي لا يحتاج إلى كبير عناء ليدرك أن المخاطب الذي يتجلى في كاف الخطاب، هو الشاعر نفسه فتلك طريقة مألوفة في التعبير يصطلح عليها علماء البلاغة بالتجريد.

وفي النص انزياح يتجلى في استعمال التعبير المجازي: بإسناد الوصل (لم تهجر) إلى الخمرة، ومنه أيضا خلو المطلع من التصريع، لأنه خرق لتقليد شعري عريق. وفيه أيضا بناء على المفارقة في وصل الخمرة المفارق لهجران المرأة "أروى" إذ كيف تهجر العاقلة وتصل غير العاقلة ؟ كما جاء الكلام في صيغة الخبر، غير أن الغرض منه، هنا، يخالف أغراض الخبر الأصلية، أما  الانزياح العروضي فيبدو في البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول) الذي لحقت بتفعيلاته تغييرات لتنويع الإيقاع.

وما يمكن استخلاصه من هذا الابتداء، والذي ينعكس على القصيدة ويتحكم فيها هو المقابلة الآتية:

                                          لا وفاء لأروى/ إخلاص الخمرة.

لكن من هي أروى ؟ لا تذكر القصيدة عنها شيئاً غير أنها هجرت بعد وصل، وحين ننقب في مصادر عن حياة أبي نواس فإننا لا نجد لهذا الاسم ذكراً، غير أننا ندرك أنه اسم عربي، وقد كانت تحمله إحدى جدات الرسول (ص)، ويبدو أن وروده في مطلع القصيدة لم يكن بسبب تقليد معين، بل لدلالة رمزية ما، وإن المقابلة: الخمرة/ أروى التي استخلصناها آنفاً تساعدنا على تحديد الخطوط العامة لهذه الدلالة الرمز في المتقابلات التالية:

أروى:

 

 المرأة - الجنس 

اللذة      

قيم اجتماعية سائدة (الحلال)

 

الخمرة:

 

الشراب اللذة

عدم المشروعية – التمرد على التقاليد والأعراف

الحرام

والنتيجة الأساس التي نصل إليها هي أن الخرق قد اتخذ أشكالاً متنوعة في البيت فكانت لغوية، وبلاغية، وإيقاعية، غير أنه يكتسب في النهاية دلالة أوسع وأشمل وهي: خرق لنظام الاجتماعي الثقافي.
أما في رمزية الصوت فنلاحظ تقارباً بين (الهجر) التي وردت مرتين و(الجهر) المعروف: فقد هجرته إروى أما هو فجهر بما يريد من قلب لقيم عصره، ونجد في التشابه الصوتي والتقارب الدلالي كثيرا من الإشارات الهامة التي ذكرها ابن جني في الخصائص وغيره، وتؤكد بعض الدراسات الحديثة أنه كلما تشابهت البنية اللغوية فإنها تعكس بنية نفسيّة متشابهة منسجمة.

ومما يدعم هذا الرأي ورود حرف الراء المجهور أربع مرات في البيت؛ إحداها في الروي؛ وفي الراء قوة وجهر وانحراف وتكرير([18]).وهذه الوقفة الطويلة عند المطلع لأنه بمثابة المفتاح للولوج إلى القصيدة، وأول ما يقرع السمع وبه يستدل الشاعر على ما عنده، كما يقول ابن رشيق: إن حسن الافتتاح داعية الانشراح.([19])

وتستوقفنا القصيدة في بداية البيت الثاني عبارة "فخذها"، فإذا كانت أداة الربط الفاء استئنافا فإنها عند اتصالها بفعل الأمر هنا، قد أفادت أكثر من ذلك، فالملاحظ أن الضمير (ها) لا يفصله عن المذكور المتقدم سوى الربط والفعل: صافية عقار- (فخُذ)ها - وهذا التجاور لـه دلالته؛ فكأن الشاعر يحث نفسه على تناولها، ويبدو أن الشاعر أسند إلى الخمرة مجموعة من الصفات في الأبيات (2-6): فهي مستخلصة من الكروم وذات جودة، وهي خالصة صافية، يعلوها احمرار، وتتوالد منها فقاقيع عند مزجها بالماء، وهي شراب منحته الشمس نصاعتها ونورها، لم يطبخ في قدر ولم يشو بنار، كريمة راقية عاقرها ملوك الفرس العظام، جيدة تشفي المخمور من ألم الخمار.

وإذا كان هذا الوصف يشمل أحوالاً للخمرة مختلفةً فإن المعجم الشعري يكاد يخلو من الجديد، فبعضها طرق قبل أبي نواس (الأعشى مثلا)والبعض الآخر تردد في قصائد أخرى للشاعر نفسه. ويبدو أن الخواطر التي تبعث عليها اللحظة الحاضرة والترسبات الوجدانية والثقافية تشكل مادة هذه المعاني والصور فتتدفق عن طريق التداعي في بساطة ورقة، ولا يكلف الشاعر نفسه عناء كبيراً في توليدها.

وفي النص حضور لثنائية ضدية (أروى/ الخمرة) ويبدو هذا الحضور قوياً خاصة في الامتداد الرمزي المحوري: ذلك أن الأبيات تتضمن عناصر ومؤشرات تمكننا من إسقاط بعض صفات الخمرة على المرأة؛ إذ الغاية المنشودة لكليهما واحدة: اللذة والمتعة: - فهي من بنات الكرم. لم لا نجوز بنات الكرم، فالدراسة الحديثة تهتم بهذا اللعب اللغوي: تكون لها درر، والدرر واللآلئ أشياء تقترن بالنساء خاصة وما زلالت المرأة توصف بأنها درة مكنونة، وجوهرة مصونة.

- و- الطبيخ يتصل بالمرأة لأنها عادة هي التي تطبخ الطعام وتهيئه:

- وتتسع الدائرة الرمزية في البيت الخامس: فما علاقة الخمرة بكسرى أنو شروان؟ قد نعثر على الجواب حين نتذكر أن من محاسن المرأة حين تنتسب إلى أسرة ذات مكانة رفيعة، والنسب يلعب دوراً هاماً في المجتمع العربي التقليدي، وأبو نواس قد أرقه انحطاط نسبه، لهذا ربما فهو يبرز ما هو محروم منه، بالإحالة إلى كسرى (الفرس). رغم انتمائه زمانيا إلى المجتمع العباسي المسلم.

وبعد أن يصل الشاعر درجة النشوة في نهاية البيت السادس يرغب في تتويج النشوة بالغناء، وبيتا الغناء يمثلان وصفاً حياً لمفعول الخمرة، والملاحظة التي يمكن تسجيلها في هذا الصدد هي في الشكل العام للقصيدة كونها خطابا: ففي الأبيات السابقة يحكي، بينما في الأبيات الثلاثة الأخيرة لا يكتفي بالحكي بل ينقل حالة حاضرة بأجوائها وإيحاءاتها المختلفة، ويمكن عد الشطر الأول من البيت السابع جسراً بين الحالة الأولى والحالة الثانية: المتكلم الخطاب المخاطب

1-- الشاعر الأبيات 1-6+ الشطر الثاني7 الشاعر نفسه، حكي على شكل مناجاة (مونولوج)

2-- الشاعر الشطر الأول 7 المغني

3-- الشاعر(المغني. نصيب) بيتا الشاعر الأموي نصيب

وإذا كان الأمران (هات) و(غنني) يساعدان على الإحالة إلى جو حاضر، عاصره الشاعر الذي أخذ منه السكر فأخذه الغناء والخمرة الدائرة فإن الكلمة المحورية تتمثل في (وافاني) وقد شرحت في الديوان بمعنى (الإدراك)، غير أن معناها في المعجم إعطاءه حقه تاما كاملا، والمعنيان يتكاملان في سياق القصيدة، ونلاحظ محوريتها من خلال بعض السمات الصوتية والإيقاعية التي تميزت بها، فالجهر غالب على حروفها بالإضافة إلى الليونة، وهاتان السمتان تتلاءمان مع حال الخمر، ومن جهة أخرى نلاحظ البطء في الإيقاع بسبب امتداد الصوت والنفس (وَا-فَا) مما يجعل الكلمة تستغرق زمناً أطول.

 الثنائية في القصيدة:

(1)   ثنائية السلب والإيجاب:

(2)   تبدأ القصيدة بمطلع مألوف عند أبي نواس، حيث الدعوة إلى تجاوز البكاء أو الوقوف على الطلل ورفض الاستسلام للحبيبة أو التألم لهجرانها، حيث البديل متمثل دوماً بمعشوقته: الخمرة
عاج الشقي على رسم يسائله   وعجت أسأل عن خمارة البلد
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند  وأشرب على الورد من حمراء كالورد

دع الربع ما للربع فيك نصيب   وما أن سبتني زينب وكعوب
ولكن سبتني البابلية إنها      لمثلي، على طول السنين، سلوب

إن أبعاد هذا التعارض نجد أساسه في التعارض السياسي والحضاري والاجتماعي والثقافي الذي يحمله الواقع نفسه آنذاك.

وإذا عدنا إلى القصيدة نجد التقابل بارزاً بين (أروى) الحبيبة الهاجرة، وبين الخمرة الصافية، يبدو من خلال تركيب شطري البيت الأول أن: الجملة الأولى (لئن هجرتك) جملة مثبتة وبالتالي فهي إيجابية، والجملة الثانية (فلم تهجرك) جملة منفية، وبالتالي فهي سلبية.

ولكن المسألة ستنقلب حينما نمعن في معجم البيت نفسه حيث نجد السلب في الشطر الأول (هجرتك) كفعل يدل على معنى الهجر وهو أمر مرفوض ومؤلم ومحزن وبالتالي فهو سلبي، خاصة وقد أتى بعده ما يقابله ويناقضه ويذكر به (الوصل)

وينقلب معنى الهجر في الشطر الثاني (فلم تهجرك) إلى عكسه بفضل دخول حرف الجزم والقلب (لم) ويصبح مؤدى الفعل هو الوصل والائتلاف واستمرار العلاقة الحميمة وبالتالي الإيجاب. ويتأكد هذا الإيجاب بما يأتي بعد الفعل من صفات: صافية وعقار، وقد استعاض الشاعر بالصفة بدل الموصوف، أي الخمرة، لرسوخ صورة الخمرة وصفاتها في نفس الشاعر.

ويقدم البيت تقابلاً آخر بين زمني الفعلين: هجرتك/ لم تهجرك، يمكن القول نحوياً بأن الفعلين معاً يؤديان نفس المعنى ويرمزان لنفس الزمن (على اعتبار المضارع المجزوم يصبح بمثابة الماضي). لكن السياق يفرق غير ذلك؛ إذ يحتفظ المضارع براهنيته بل وباستمراره مقابل انتهاء وانقضاء (هجرتك) في الزمن الماضي، وهو ما أراد الشاعر إبرازه من ضرورة اعتبار هجر الحبيبة أمراً منقضياً ومنتهياً ويجب نفض اليد منه، والالتفات إلى الحبيبة الأخرى التي لم و (لن) تهجر. ومما يؤكد ذلك أن هذه الحركة الثنائية (ماض/ حاضر) ستصبح ثلاثية مع بداية البيت الثاني الذي يستهل بفعل آخر (فخذها)، لنصبح أمام ثلاثة أفعال متتالية يدل تدرجها زمنيا على تدرج نفسي يعكسه تدرج زمني: (هجرتك) الماضي المنتهي، (لم تهجرك) المضارع المقلوب بالنفي ماضيا لتأكيد الحضور، ثم (فخذها) الأمر؛ أي المرور إلى الفعل، إلى التجاوز. إن ثنائية السلب والإيجاب سرعان ما سيختل التوازن بين طرفيها ليقتصر الثاني على الأول خاصة مع بداية فعل التجاور.

ولا يقف التضاد بين السلبية والإيجابية عند هذا الحد، فإذا كانت المرأة تُسلم حبيبها للفراق، فإن الخمرة لا تدع عاشقها عرضة لهذا الألم بل تطرد عنه كل الشرور:

                               إذا المخمور باكرها ثلاثاً   تطاير من مفاصله الخُمار(*)

ونصبح أمام ذات الخمرة الإيجابية، وأمام ثنائية أخرى تقوم على الضدية: (المرأة-سلب-/ الخمرة-إيجاب). وتنعكس سلبية المرأة وإيجابية الخمرة على زمان النص ومكانه فتشغل المرأة مساحة مكانية ضيقة فلا تتجاوز شطر البيت الواحد، ومن ثم يكون زمن التلفظ قليلاً، أما مساحة الخمرة، فشاسعة تبدأ في الشطر الثاني من البيت الأول وتنتهي مع نهاية البيت السادس. ويظهر من خلال ذلك أن الشاعر ينقل المرأة إلى حيز هامشي. ومما يدل على هامشية المرأة وأهمية الخمرة، أنه عندما يذكر الأولى، يذكرها علماً مجهولاً خالياً من صفات الجمال والآبهة: على أمثالها كانت لكسرى    أنو شروان تتجر التجار
ويظهر جسد المرأة مرة في مطلع القصيدة ثم يندثر، لتحتل الخمرة ما بقي من جسد القصيدة ويغدو فضاءها الجوهري لتبرز في صور تراكمية، أليس هذا دليلاً واضحاً على مكانة الخمرة وحضورها الكلي في وعي النص، وغياب المرأة عن هذا الوعي؟

تحدث أرسطوطاليس (384-322 ق.م) عن المعاني ذكر ما بينهما من تشابه وتضاد يتجليان بفضل المحاورة والجدال([20])، أي أن الشخص يستدعي الفكرة لأنها مشابهة لفكرة سابقة أو مضادة لها، ألا يمكن القول إذن بناء على ذلك، بأن أبا نواس عندما استحضر تجربة المرأة (الوصل والهجر) أحدث في كيانه اضطراباً وأفقدته صوابه وحاول أن يصرف عنه بسرعة هذا الطارق وأن يتناسى الفشل فاستدعى ما يشبه هذه الفكرة وما هو مضاد لها في الوقت نفسه ليعوض بها عما أمضاه من أفكار وذكريات، فعنصر الشبه، بين المرأة والخمرة، أنهما مؤنثان، أما عنصر التناقض فهو أن المرأة مؤلمةأما الخمرة فممتعة فالمرأة عند أبي نواس إذن جنس صاد غائب بينما الخمرة عنده جنس واصل حاضر، لذا فقد آثر الحاضر الواصل وأحبه معرضاً عن الغائب الصاد.

2-- ثنائية الحضور والغياب:

لم يصرح أبو نواس بالخمرة، وأناب عن ذكرها بذكر صفاتها وطقوسها ومفعولها، وكل ذلك يعد أقوى من ذكر المفردة ذاتها، فتشكلت ثنائية: الحضور/ الغياب. وبنية الغياب، في هذه الحال تكون ذات أهمية قد لا تقل عما يكون لبنية الحضور، والبيت الأول في القصيدة هو المحور والأبيات الأخرى شرح وتفسير لهذا البيت المحور، ويشكل الشطر الأول من البيت (بنية توتر) أما الشطر الثاني فهو(بنية الانفتاح والانفراج) والبنية الأولى تؤكدها الثنائية الضدية في لفظتي: هجر/ وصل (السلبي في مقابل الإيجابي) وهي تقابل زمنياً (الآن/ أمس)، والبنية الثانية يؤكدها الشطر الثاني، إذا اجتمعت أداة النفي (لم) وهي السلب الأول وفعل (تهجر) وهي السلب الثاني، واجتماع السلبين يعطي الإيجاب، ويمثل الشطر الثاني الدعوة إلى الخروج من حالة السلب والتوتر إلى حالة الإيجاب والانفراج بعد الضيق والشدة، وتتوزع النص ثلاثة ضمائر :

منها ما يخص الخمرة ومعظمه ضمير الغائب (فخذها (هي) ، شراباً إن تزاوجه(هو)، باكرها(هي)، ومنها ما يخص المخاطب أبأ نواس  نفسه(هجرتك، تهجرك، فخذها). فأنت هنا هو نفسه أنا الشاعر.

والملاحظ أن الضمائر الخاصة بالخمرة والمخاطب احتوتها الأبيات الستة الأولى، في حين أن صوت الشاعر (ضميره) لم يظهر إلا في البيت السابع (وهات فغنني)، فكيف تم هذا الانتقال من المخاطب إلى المتكلم؟ وبما يبرر هذا الانتقال؟ ليست هناك قرينة لفظية تدل على هذا الانتقال من صوت المخاطب إلى صوت المتكلم، مما يتيح لنا القول بتوحد الضميرين أو الصوتين ليصيرا معاً صوت أبي نواس، ولكننا إذا سلمنا أن المتكلم (أبو نواس) لا يطلب الغناء من مخاطبه بل يطلبه من الجواري لأن القدح وافاه والنشوة اكتملت لديه، ندرك إذ ذاك أن المخاطب الذي أوهمنا به أبو نواس في الأبيات السابقة ليس سوى أبي نواس ذاته، فهو الذي هجرته أروى، ويعزي نفسه ويسليها بالانصراف إلى الخمرة، وبذلك نظفر بثنائية جديدة هذه المرة على مستوى الضمير: أنا/ أنت، والتي تستحيل في نهاية الأمر إلى التوحد والانصهار في ضمير واحد هو (أنا)، وبذلك فإن ثنائية (الحضور/ الغياب) المتعلقة بالخمرة الغائب اسمها الحاضر قدْرها، قد استحالت إلى حضور، في حين استحالت ثنائية (أنا/ أنت) إلى صوت واحد هو (أنا) وبذلك يحل الحضور في الأنا وتحل الأنا في الحضور وهذا الحلول هو الذي يعطينا النتيجة التالية (أنا المخمور). ولا عجب أن يكون أبو نواس هو المعني في النص أي هو المخمور؛ ففي عالم الخمرة تتحقق ذاته، فهي بمثابة ينبوع التحولات التي تتقمص الشكل الذي يتطلع إليه هوى الشاعر وجموح خياله، وهذا التحول أوجموح الخيال نجد الشاعر قد مارسه على تشكيل وحدات النص، سواء بلعبة الضمير(أنت الذي يعني أنا) وتحولاته التي مرت معنا أو من خلال المعجم الذي عبر فيه الغياب عن الحضور حتى انصهر الأول في الثاني، أو من خلال التركيب الذي يهيمن فيه أسلوب الإنشاء بشكل لافت للانتباه، فما دلالة هيمنته ؟

الدلالة الأولى جمالية والدلالة الثانية وظيفية، وهدفهما هو خلق التواصل والتفاعل مع المتلقي، فقد ساعد الأسلوب الإنشائي الانفعالي، من حيث الدلالة الأولى، على الخروج من التقريرية المنافية للشعر إلى أسلوب تعالقيّ يضفي على النص سمة الشعرية والإثارة والتأثير عن طريق ما يمكن تسميته (أفق الانتظار المفتوح) ؛ ذلك أن أسلوب الشرط الذي يغطي جزءاً هاماً من فضاء النص يثير في المتلقي رغبة معرفة جوابه، كيف ستكون:

-         إن هجرتك … فلم تهجرك.          شراباً إن تزاوجه بماء… تولد منهما.

-         إذا المخمور باكرها ثلاثاً ... تطاير عن مفاصله الخُمار          لولا أن يقال… لقلت.

فهناك دائماً فجوة أو أفق انتظار مفتوح ينبغي في كل مرة انتظار نتيجته لذا يقوم المتلقي بملء تلك الفجوة بخياله ويغدو منتجا مشاركا للنص.

أما من حيث الدلالة الوظيفية الإيحائية فيمكن أن نستمدها من الأسلوب الإنشائي في البيتين الثالث والسادس، يقول في البيت الثالث: تولد منهما درر كبار    شراباً إن تزاوجه بماء

فقيمة أسلوب الشرط هنا ليست جمالية فحسب بل وظيفية كذلك، ويظهر ذلك من حيث أن الأسلوب دعوة غير مباشرة إلى عدم مزج الخمرة بالماء لأنها جوهر وروح، فلا ينبغي مزج ما هو جوهر بما هو عرَض؛ لأن في ذلك قتلا للجوهر أي للخمرة، فالدرر الكبار المتولدة عن عملية المزج لا ينبغي قراءتها قراءة إيجابية، بدليل أن البيت الرابع، تصريح بأن ما هو روح أي الخمرة لا ينبغي أن يختلط بما هو عرَض (ماء أو نار) وبالتالي فإن طقوس الخمرة التي جرت بها العادة تنأى عن هذا المزج، كما يقول الأعشى:

                               إن التي ناولتني -  فرددتها   قتلتْ، قتلتَ فهاتها لم تقتل ([21])

ويقول أبو نواس في البيت السادس:

                              إذا المخمور باكرها ثلاثاً    تطاير عن مفاصله الخمار

وهو يقوم على أسلوب إنشائي أيضاً، دعامته الشرط وجوابه، ويمكن القول بأن قيمته الجمالية تكمن في أنه أوجز وكثف، وتكمن قيمته الثانية في أنه يكشف عن طقس من طقوس الخمرة وبالتالي فهو تأكيد لجوهر الخمرة التي حاولنا تلمسها في البيت الثالث، فهذا الجوهر الذي ينأى عن أن يمتزج بما هو عرضي، يبدو في هذا البيت هو العلة في الخمار، وهو ذاته العلة في إزالة ورفع ونسخ هذا الخمار، فمن يقوى على الفعل وضده إلا من كان سبباً لذاته ومن أجل ذاته.

3-- ثنائية التوتر والهدوء: إذا تأملنا الأبيات من (1-6) نجد حركتها تسير من توتر قوي إلى هدوء ثم إلى توتر أقل قوة، حيث نجد في البيتين الأول والثاني انكساراً قوياً وصراعاً عنيفاً بين تجربتين تجربة المرأة وتجربة الخمرة، ولهذا تداخلت المرأة مع الخمرة، فأصبحنا أمام ذات الشاعر وذات الخمرة البديل (الشاعر/ الخمرة)، ويمكننا أن نرجع سبب إضفاء صفة المرأة على الخمرة إلى كون الشاعر قد تذكر تجربته الفاشلة مع المرأة فأحدث ذلك في كيانه خلخلة واضطراباً أفقده وعيه فلجأ مباشرة إلى الخمرة، ليضفي عليها صفة الأنوثة، ولكن بعد أن استعاد وعيه عاد إلى وصف الخمرة مجردة من كل تداخل، وهذا ما نلاحظه في البيتين الثالث والرابع، اللذين يذكر فيهما نوعية الخمرة وصفاتها الطبيعية، ويعود التوتر ولكن بشكل أخف في البيتين الخامس والسادس عندما تتداخل الخمرة ثانية بالمرأة (أمثالها، كانت، باكرها، وتتولد عن هذه الحالة ثنائية التوتر/ الهدوء، فالشاعر يتأرجح بين التوتر والهدوء، ولهذا التعبير دلالته الأيقونية، فهو أشبه بحالة المخمور الذي يفقد وعيه وتتداخل لديه الحالات والعناصر وبذلك يخرق العرف اللغوي والتعبير العادي، وهذا ما لاحظناه في الأبيات (1، 2، 5، 6) حين خلع صفة الأنوثة على الخمرة وخاطب ذاته على أن تعدل عن المرأة إلى الخمرة الفاتنة.

تعدد الأصوات: كنا في الأبيات الستة الأولى مع الشاعر وحده ننصت إلى تجاربه ونغماته، ثم تتداخل الأصوات، ونصبح أمام بيتين لشاعر آخر ضمنهما أبو نواس قصيدته هذه، وبذا امتص نصاً آخر، فأصبح يوافق مقصدية الشاعر وينسجم مع رؤيته السابقة، ويظهر من القراءة الأولى للبيتين أنهما يشيران إلى الأنثى، فهل عاد الشاعر مرة أخرى إلى التجربة التي تخلص منها في بداية القصيدة وظلت غائبة على طول الفضاء، فعلام يدل حضور الأنثى مرة أخرى؟ هل الخمرة هي الأخرى لم تحقق للشاعر ما كان ينشده منها؟. قد يكون هذا احتمالاً، فقد أحس الشاعر بأن الخمرة تحقق له رغبته الجنسية والعاطفية بعد أن بلغ في ارتوائه قمة النشوة. فالشاعر مكره إذن على أن يعود إلى الأنثى لأنه بحاجة إليها، ولكنها هذه المرة، ليست تلك المرأة الخائنة التي ذاق منها مرارة الهجر والفراق، بل يعود إلى أنثى يختار منها الطهارة والبراءة، فأين توجد هذه الصفات؟ إنها تتمثل في نظر الشاعر بالنشء الصغار، ولكم تمنى أن يعود إلى ذلك ويغذيه بنفسه ولكن خشي أن يوصم بالصبوة، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن هذه العودة تهدف إلى جنس المرأة بعينه، بل هناك تداخل بين المرأة والخمرة (بنفسي كل مهضوم حشاها) فهذا البيت يحتوي على تورية، تمتاز بالتعمية والمغالطة وعدم الإبانة، فلا تدري أهي الفتاة الصبية أم الخمرة، فهما تتداخلان معاً، لتصبح الفتاة المشتهاة هي الخمرة، بالتالي ونستدل على ذلك بقوله (إذا ظلمت فليس لها انتصار) أليست المظلومة هي الخمرة المطهوة بأشعة الشمس والمحبوسة في الأزقة لغرض تعتيقها، والكل يعمل من أجل ذلك ولا يخلصها أحد من سجنها هذا؛ إذ كلما طال أمد سجنها صارت معتقة.

مستوى الإضمار:

الفحص المتأني والمفتت للآليات التي تتحكم في النص، يظهره كخانة اجتمعت فيها كل أسباب المتعة من خمر ونساء وغناء، وشاهد عيان نطق بلسان هذا الجو كونه شريكاً. وأول ما يشد الانتباه هو الحركة الدائرة التي تحكم بنية النص في وحداته الثلاث: خمر - نساء -غناء، كون تلك الوحدات السطح الذي يغطي الوحدة الرابعة التي لا تدل على نفسها وإنما تظل حاضرة طوال الوقت، وهي وحدة المتكلم الذي هو الشاعر، وتشكل هذه الوحدات الأربع، بنية واحدة دائرية لا يمكن فهم إحداها إلا باستحضار الأخريات.

تشكل المرأة بداية النص ونهايته؛ فهي أول من يطل من كوّة النص، وآخر من يسدل الستار خلفه، أما الخمرة فالقصيدة تدور حولها، ولم ترد المرأة في الشطر الأول إلاّ مدخلاً لعالمها، والبيت الأخير حديث عن المرأة والخمرة في الوقت نفسه، أما وحدة الغناء فلم تقتصر على بيتي نصيب فقط، بل إن القطعة كلها مقطوعة موسيقية وضعت لتُغنى، كما يتأكد حضور الشاعر في كل لفظة من القصيدة حتى في بيتي نصيب، بل إن استعمال الضمير أنت (لئن هجرتك) يجعل المتلقي يدخل في لعبة الخطاب فيصبح جزءاً منه، وأول إحساس تبثه القطعة في القارئ، هو أنها لا يمكن تحليلها ما لم نستحضر الجو الخمريّ الذي تتناوله، حيث يبدو النص كله كأس خمر، وكل بيت رشفة منه، ومثلما يتريث الشارب بين رشفة وأخرى، يجد القارئ نفسه ملزماً بتأمل كلّ بيت قبل أن يجتازه إلى البيت الموالي، ونحس مع القراءة بسريان المتعة الفنية في النفس كما يحس الشارب بدبيب الخمرة في بدنه، وقد نخشى على أنفسنا نهاية الشعر كما يتحسر الشارب على فراغ كأسه، وتشعرك القصيدة بنشوة أشبه بما يُشعر به الكأس شاربه، فما إن تفرغ من أبياته حتى ترغب في معاودته.

هذه النشوة تحكمه الحركة الدائرية في النص، وهي حركة مماثلة لتناوب الشراب دائريا، وهذا ما يشير إليه شعراء الخمريات كثيرا كما في قول أبي نواس ذاته:

                            تُدار علينا الراح في عسجدية  حبتها بأنواع التصاوير فارس([22])

 بحيث لا تجعلنا نحس بالنهاية ولا البداية، فالجسم استحال إلى امتداد متواصل لاستقبال النبيذ، وتتهيأ الأذن لتتيح للموسيقى النفاذ إلى أعماق النفس، ويمتد البصر ليحوز أكبر صورة من هذا الجو، هذه اللحظة الحاسمة في القصيدة تربط قول أبي نواس بما قاله غيره، فيتحقق الربط بين قناتين: أذن/ موسيقى، فم/ خمرة، عين/ ساقي ومغن، إنها اللحظة التي تسبق الالتحام، التحام الروح بالجسد، الخارج بالداخل، لحظة تتحقق فيها جميع الرغبات في تزامن وانسجام.

واسم (نصيب) لا يستدعي في النفس اسم الشاعر الإسلامي بقدر ما يوحي بالقسمة العادلة التي تحققت لجسم وروح، فيتحدث بيتاه عن انتصار للعدل، وهذا العدل ينهض في هيكل القصيدة، وينبثق من لفظها، وهو الغائب عن الحياة النواسية، وغيابه هو الداعي إلى بناء هذه القصيدة، أليس جور المرأة الهاجرة هو الذي دفعه إلى الخمرة وإلى التعبير عن هذا الجور، وكلا الشاعرين عانا من الحيف الاجتماعي، فعبرا عنه بطريقة فنية، يبحث أبو نواس عن توازن لنفسيته عند النساء فلم يجده ويعاني نصيب أكثر مما يعاني أبو نواس، إذ لاحق له في العدل وهو عبد، وتحقيقه للعدل يجر عليه أقاويل الناس بالصبوة، وكله انحراف عما رسمه المجتمع، هذا بالإضافة إلى أن كليهما يحسان بالاغتراب، فهما في بيئة غير بيئتيهما، لا تحقق لهما الانسجام والطموح والرغبة في معايشتها.

الموسيقى الشعرية:

القصيدة  من بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول) ، وبالرغم من محاولة ربط البحر بموضوعه كما نجد ذلك في محاولات حازم القرطاجني، حين حدد لبعض البحور أغراضاً معينة، غير أن ما يهمنا هو مدى مواءمة البحر عمليا للمعاني التي طرقها الشاعر، وهذا يعني أن المسألة خاصة بأدوات الشاعر وليس بالبحر في حد ذاته.  والوافر ثلاث تفعيلات اثنتان مفاعلتن والثالثة فعولن، أي أن البيت مكون من ثلاث نقرات إيقاعية، تليها نقرتان في كل تفعيلة، أما التفعيلة الأخيرة فمكونة من نقرتين تليها نقرة واحدة، وهذا إيقاعيا يعني انتقال القصيدة من نشاط الحركة إلى نشاط أقل، وقد يكون ذلك موائما لحالة السكر والعربدة التي تنتهي بالهدوء بعد زوال أثر الشراب، ويبدو التنوع على المستوى الموسيقي، مرتبطا بحالة الانتشاء أيضا، والتباين في العواطف التي يشكوها الشاعر؛ فهناك تفعيلتان متماثلتان، تخالفهما التفعيلة الثالثة، وهو مما يخفف من رتابة الإيقاع وهنا لا بد من توكيد التكامل الحاصل بين الإطار الخارجي، وبين الإطار الداخلي المتوزع بين الألفاظ والمعاني.

أما قافية القصيدة فرائية، والراء من الحروف المجهورة، وقد يطرح التساؤل عن مدى ملاءمتها لغرض تشكل اللذة إحدى خصائصه، وبالتالي فإن الحروف المهموسة تبدو أقرب إلى طبيعته، والراء هي الحرف أو الصوت المركز في القصيدة، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك، تكرر حرف الراء في البيت الأول أربع مرات، وكذلك في الأبيات الثاني والثالث والخامس والسادس، وتكرر مرتين في البيت الرابع، وجاء مرة واحدة في الأبيات السابع والثامن والتاسع؛ ومعنى ذلك أن عدد تكرار الراء يبلغ ثلاثاً وعشرين مرة، فيتكرر صوت الراء بشكل ملفت للنظر بالإضافة إلى كونه قافية القصيدة. وإذا كانت قواعد الشعر تحتم تكرار القافية، فإن ذلك ليس مطروحاً بالنسبة لباقي أبياتها، والملاحظ أنه سرعان ما يتخلى عن سلطته الفنية في الأبيات الثلاثة الأخيرة لفائدة حروف أخرى أغلبها مهموسة.

ونلاحظ أن أربعة عشر شطراً من مجموع ثمانية عشر شطر تأتي القافية مردفة بألف لازمة، ورويها راء مضمومة، والمقطوعة غير مصرعة، وإيقاع البيت قبل أن تفرغ شحنته تتصدى له ألف التأسيس فتكون بذلك صخرة تتجمع حولها كل ما في قرارة نفس الشاعر، وليبث بعده في انسياب يظل ممدوداً مع الروي الذي هو حرف جهري ووصله بالواو استمرار لتلك الشحنة ولزخم العواطف التي تتباين وتتعارض في نفس صاحبها.

وتتكون القافية في أغلبها من أسماء، والأسماء بدلالتها على الثبات تشير إلى هاجس يؤرق الشاعر وصفة الوفاء التي يبحث عنها، فبثها في شعره.

وإذا تركنا الإطار الخارجي وتسلسللنا مع الألفاظ داخل النص نلاحظ أن حروف المد تشكل جزءاً هاماً من الإطار الدلالي، خاصة الألف التي تتكرر أكثر من ثلاثين مرة، بينما الواو والياء لم تتكررا إلاّ ثماني مرات. وهذه المدات بالألف التي تكاثرت في القصيدة هي في انتصابها واستقامتها أقدر على رسم الذات المتعاظمة في كبريائها وتحديها، فعوض الاستعطاف الذي كنا ننتظره بعد الشطر الأول من المطلع وجدنا نفساً أبية تتحاشى الخنوع والخضوع وتتنكر للذات برغم اللوعة والاشتياق، وإنما العجز من خليلته قد وجهه نحو رجولته يستنهضها، فظل شامخاً، وما ألف الأرداف إلاّ تذكير وتنبيه يفجر رغبته في الإحساس بالرجولة. ويظهر ذلك في قلة الواوات والياءات التي تدل على فتور العزم فقد تجنبها الشاعر، كما أن خاصية الاستطالة في المدات توحي بفترات الاستراحة وجمع النفس، فتقطع النفس من مد إلى آخر هو تقطع على مستوى آخر، هو مستوى الأفكار والعواطف، أضف إلى ذلك أنها تلعب دور الوقف مع استطالة صوتها كي يفهم السامع ما يلقى إليه، فلو جاءت الأفكار منسابة على وتيرة واحدة لكانت عنواناً على وضوح الرؤية لدى الشاعر وحسمه لمشاكله والاستقرار على رأي معين لكن التوزع الذي خضع له جاء ظاهرياً في النص وما يؤكد قصدية الشاعر الغنائية تركيزه على صوت الراء المتميز بين الرخاوة والشدة، والمتفرد بصفة التكرار الصوتي، وإيراد هذا الصوت في مقاطع وحركات طويلة على امتداد مساحة النص، فإذا لاحظنا في كتب الأخبار أن الإنسان العربي القديم كان مما يستملحه في الجارية المغنية اللثغ أدركنا دلالة صوت الراء، وخاصة إذا نطقتها الجارية ملثوغة أي (غينا) مما يوحي بالمزيد من الدلال والإيقاع البطيء والتأثير التخديري، والنشوة الشعورية واللاشعورية.

ولذا سيطر صوت الراء على فضاء النص وفضاء المجلس في لحظة يكون العقل فيها في حالة غيبوبة تاركاً للعواطف الحرية في التحرك والتصرف والتعبير، ويؤيد هذا الرأي احتمال وقوع النبر القوي على الكلمات التي تحمل حرف الراء وخاصة القافية، وهذا التركيز الصوتي على حرف الراء، وهذا التركيز النبري، أثر على نظام الجملة نفسها في النص فغلب عليه النمط التالي: (فعل+مفعول به+ فاعل). وهو نمط مقتبس من بيتي نصيب، حيث يترك الفاعل دائماً إلى آخر الجملة أو البيت، لينتهي المعنى ويستحوذ على (النبر القوي) وتتصدر في نفس الوقت دلالة السياق.

وتصدم حاستي السمع والبصر حروف توزعت عبر فضاء النص فبالإضافة إلى الراء والألف يتردد حرف الهاء خمس عشرة مرة، وحرف الصاد تسع مرات، وحرف السين خمس مرات. وعلى الرغم من أن حرف النون يتردد أكثر من ثماني عشرة مرة إلاّ أن وظيفته لم تكن لتخدم مقصدية الشاعر ولا المتلقي، بل الذي يخدم رغبة الشاعر في التنفيس والانفراج بعد الضيق والشدة هو حروف الهاء والصاد والسين، ومعظم هذه الحروف مرتبطة بما يدل على هذه الرغبة من التنفيس والانفراج من ضيق الهجر، ويؤكد السياق هذه الرغبة، فقد ورد حرف الهاء غالباً ضميراً عائداً على الخمرة وهي مصدر الانفراج (خذها، يعلوها، أمثالها)، وحرفا الصاد والسين بما أنهما من الحروف المهموسة يخدمان هذه المقصدية، فالهمس خال من الشدة ولا تعقيد فيه، هذا بالإضافة إلى أن الأصوات المشبعة بالمد أغلبها ورد مفتوحاً (صافية، شراباً.. الخ) وهذا الانفتاح دليل على الرغبة في الخروج من حالة التوتر، أما المقاطع التي تتكون منها الوحدات المعجمية للقصيدة، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام: طويلة ومتوسطة وقصيرة، والملاحظ هو كثرة المقاطع الطويلة التي تبدو مناسبة لبعد القصيدة الدلالي؛ فعالم اللذة ينزع إلى بطء الإيقاع كلاما وحركات ، ويتحرر الإنسان من هوية الزمان الذي يأخذ شكلاً مطلقاً لا نهائياً، والسهر يمتد إلى الصباح، كل هذه العوامل والعناصر تخضع لمد على مستوى الواقع، فلا غرابة إذن إذا وجدنا مداً على مستوى اللغة الشعرية.

إلاّ أن هذا الربط قد يفقد مشروعيته لأن بعض القصائد الشعرية التي تتخذ عوالم اللذة موضوعاً لها قد تسيطر عليها مقاطع غير طويلة، ومع ذلك فإن القصيدة التي بين أيدينا تعكس الفكرة السابقة إلى حد كبير نظراً لعدة عوامل، أهمها: إنه يؤكد بداية شرب الخمرة، ويتضمن دعوة للغناء وهو طقس مصاحب لها.

 ويتضمن البيت مقاطع طويلة من خلال الكلمات التالية: (هات، فغنني، وافاني، المدار) ولا شك أن الإنشاد لو تم عن طريق الشاعر فسيمنح البيت إيقاعاً بطيئاً خصوصاً وأن الدلالة التي يحيل عليها تفرض ذلك، كما أن التلفظ بالمقطع الطويل يستغرق زمناً أطول من التلفظ بالمقطع المتوسط أو القصير، وقد يعترض على تأويل المقاطع الطويلة بدعوى أن وجودها اعتباطي ومحايد، والجواب على ذلك هو أن الخطاب الشعري على الرغم من خرقه الدلالي واللغوي والصرفي، تحكمه قوانين عروضية وغير عروضية، ووظيفة التحليل هو الكشف عنها، وتبقى عملية التأويل مشروعة على أساس يستند إلى مؤشرات تدعمه وتكشف عن انسجامه.

أما تركيبيا، فتنقسم الأفعال إلى لازمة ومتعدية وترتبط بالعناصر المشكلة للصورة الشعرية وبشكل خاص بالخمرة، وحضورها متواز ومتعادل تقريباً، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك بوضوح، والملاحظ أن الضمائر في الأفعال كلها متصلة تقريباً، فما هي دلالة ذلك؟ أهو الرغبو في الوصل أم توكيد للصلة الحميمة بالخمرة ؟ سنكتفي بالبيت الأول، فالملاحظ أن الشاعر يفصل بين الفعل والفاعل بكلمتين هما (بعد الوصل) فهناك حيز مكاني إذن بين الفعل والفاعل، وهذا يؤكد أن هجر أروى لا يحظى باهتمام خاص من الشاعر ولم يعطه أهمية في البيت وفي كل القصيدة، ويأتي الشطر الثاني على العكس من الشطر الأول، حيث نجد الفعل متلوّاً بالفاعل مباشرة (فلم تهجرك صافية عقار) وهذا القرب يترجم العلاقة الحميمة التي بين الشاعر والخمرة، وإذا أحدثنا تغييراً في الشطر الأول، فإن المعنى يتغير فلو قلنا (لئن هجرتك أروى بعد الوصل) فإن النتيجة التداولية المترتبة على ذلك ستكون مختلفة وعليه فإن الاقتراب اهتمام والقصيدة تؤكد ذلك، إذ الاهتمام انصب على الخمرة وبالمقابل همشت المرأة .

ومن خلال حقلين دلاليين رئيسيين يمكن استخراجهما من النص، نسجل منذ البداية تقابل الحقلين وتعارضهما، الحقل الأول اروى (المرأة) والثاني الخمرة (صافية عقار)، فأروى تمثل الخيانة منذ البيت الأول بينما تمثل الخمرة في البيت الأول (الوفاء) لم تهجرك و (الصفاء) صرفاً، وفي البيت الثاني تمثل (الأنوثة) بنات الكرم و (الجمال) يعلوها احمرار، وفي البيت الثالث (النفع) شراباً و(الندرة) درر كبار، وفي البيت الرابع (الطبيعة) طبيخ الشمس. وفي البيت الخامس (الرفعة) كسرى أنوشروان، و (القيمة العالية) تتجر التجار، وفي البيت السادس (الدواء) تطاير من مفاصله الخمار، وفي البيت السابع (الغناء والشاعر والمغني والشعر) فغنني بيتي نصيب، وفي البيت الثامن (الفداء) بنفسي، وفي البيت التاسع (الإنصار) إذ اظلمت فليس لها انتصار.

ومن خلال هذه القراءة نخرج بالنتائج التالية:

- الصمت شبه المطلق عن أروى، وبالتالي يبقى الحقل المتعلق بها خالياً أو مقتصراً على صفة واحدة (الهجر بعد الوصل) أي الخيانة.

- الغنى شبه المطلق لحقل الخمرة.

- نخرج بقراءات متعددة نحددها بمستويات ثلاثة:

أ-مستوى المعنى الضمني:

تشمل كل لغة عدة أدوات يستعين بها الكاتب لإضفاء الغموض أو افتراض ما لم يعبر عنه صراحة، فغالباً ما يرغب الكاتب في قول أشياء دون تحمل مسؤولية ذلك القول، يريد إبلاغ رسالة، وينفي في الوقت نفسه نية ذلك التبليغ، ونجد في كل مجتمع محرمات لا يجوز التصريح بها، فيلجأ الكاتب إلى حمايتها بالصمت، أي بالقول الصامت.

ب-مستوى المعنى الكامن:

هناك معان تنبعث عن اللاوعي دون تدخل إرادة الكاتب أو المتكلم أحياناً، فيرصدها المحلل ويبرزها إلى الوعي في تحليله.

حـ-مستوى المعنى الخفي:

تلك المعاني التي لا يحتوي عليها النص الظاهر للخطاب، ونحتاج إلى مفتاح لتأويله خارج النص، كما في نصوص الأساطير.

وهكذا يمكن حصر المعنى الضمني للنصوص من خلال ما يتفرع عنه حقل الخمرة وانطلاقاً من تناقض شطري البيت الأول:    العقار لم تهجرك=الوفاء    -    أروى الهجر=الخيانة

انطلاقاً من هذه المعادلة يمكن تحديد أروى كاسم علم (كرمز) للمرأة داخل المجتمع، يمكن التوصل إلى صفاتها التي لم يبح بها الشاعر صراحة، ولكنه أباح بها ضمنياً من خلال المعادلة المذكورة:

لم تهجرك الخمرة

 الوفاء            الصفاء           الأنوثة الأصيلة الجمال

اللانفعية                  

هجرتك المرأة

 الخيانة     الخبث      الأنوثة المزورة

القبح

النفعية

 

-  وبعد فقد تشكل النص الذي هو بنية أساس تقدم لنا موقف الشاعر وشعوره المباشر من المرأة والخمرة، بل من العصر واللهو، مجسدا ذلك في بنيتين فرعيتين متصلتين ببعضهما إحداهما الخمرة وما تقدمه من متعة بالحضور والمرأة وما تسببه من ألم بالغياب، وقد توسل الشاعر إلى ذلك بعدد من الآليات المعجمية والأسلوبية والتصويرية والإيقاعية تضافرت جميعها لتقدم تجربة شعرية شديدة الصلة بذات الشاعر ورؤاه ومواقفه من الحياة والعصر والوجود.



[1]  يرى عامر رضا من جامعة الجزائر أن العمل الفنيّ سابق على العمل النقدي فاصلا بين العملين الفني والنقدي.

[2]  محي الدين صبحي، النقد الأدبي بين الأسطورة والعلم، الدار العربية للكتاب، ليبيا، ص5

[3]  ينظر ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ج1، ترجمة إحسان عباس، محمد ويوسف نجم، مؤسسة فرانكلين القاهرة، ص ص 15 -16

[4]  محمد عروس، النقد السياقي أسئلته: المنهجية وأسسه الفلسفية، مجلة إشكالات في الأدب واللغة، مجلد 08، عدد01، سنة 2019  

[5]  ينظر: آن جفرسون وديفيد روبي، النظرية الأدبية الحديثة ترجمة سمير سعيد، ص138صالح هويدي، النقد الأدبي الحديث قضاياه ومناهجه، ليبيا، ص104    

[6] جون بياجي، البنيوية، ترجمة عارف منيمنة وبشير أوبري، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط4، 1985، ص ص 8-13

[7]  يمنى العيد، معرفة النص، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1985، ص27

[8] أطلق هذا المصطلح على الحركة الشكلانية النقدية التي عرفت في منتصف القرن العشرين وهي مؤسسة على القراءة المغلقة خاصة للشعر للكشف عن قيام عناصر النص بوظائفها بإراداتها المستقلة وما ينتج عن ذلك من أبعاد جمالية.

[9] معروف بكتابه لخص فلسفته عام 1940: تقصٍّ في فهم الإنسان. understanding  An enquiry concerning human

[10] حركة نقدية نشأت في روسيا واشتهرت بين 1915-1930 من أبرز ممثليها شلوفسكي(1893-1984). تؤمن الشكلانية بانفصال الأدب عن غيره وتسعى إلى دراسته من الداخل وعلمنة دراسة الأدب ممهدة بذلك لظهور نظرية الأدب. 

[11]  ألف هذا الكتاب  anthropologie structuraleسنة 1958، بمناسبة مرور قرن على ولادة "دوركايم". ينظر: الانثروبولوجيا البنيوية، ترجمة مصطفى صالح، وزارة الثقافة دمشق، 1977

[12]  ينظر ديوان ابي نواس، تحقيق محمود أفندي واصف، ط1، المطبعة العمومية مصر 1898، ص 293

[13]  يناقش هذا المقال تحليلا بنيويا بقلم المرحوم عمر محمد الطالب من الموصل العراقية، ينظر على النات: مجلة الأدب العربي)

[14]  الهيمنة مصطلح يستعمل كثيرا في الدراسات الشكلانية التي تترصد الظاهرة الأبرز صوتيا أو معجميا ...

[15]  شاعر أموي ذو أصول نوبية (منطقة النيل)، كان عبدا ثم أعتقه والي مصر. وكان مجيدا للنسيب والمدح والرثاء والحكمة. توفي عام 108هـ

[16]  قال ابن رشيق في العمدة، ج1، ص34 في تعفف نصب وكرهه للهجاء "إنما الناس أحد ثلاثة رجل لم أعرض لسؤاله فما وجه ذمه ورجل سألته فأعطاني فالمدح أولى به من الهجاء ورجل سألته فحرمني فأنا بالهجاء أولى منه وهذا كلام منصف لو أخذ به الشعراء أنفسهم لاستراحوا واستراح الناس..."

[17]  تعدد الأصوات أو البوليفونية في المفاهيم النقدية الروائية يعني تعدد المواقف وديمقراطية العلاقة بين الروائي والشخصيات بحسب باختين.

[18] - هو حرف مجهور غير مطبق بين الرخاوة والشدة أي حرف مائع وفيه تكرير صوتي كما أنه منحرف إلى اللام وهو وفق الدراسات الصوتية المعاصرة من الصوامت المكررة (ينظر: عمر الدقاق، حرف الراء دراسة صوتية مقارنة، ينظر: ملتقى التفسير على النات:( الدقاقvb.tafsir.net /forum/ )

[19] -  ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ج1، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، 1401-1981، ص71

 (*) جاء في لسان العرب، ج4، ص257، المكتبة الشيعية، مادة خمر: الخمار ألم الخمر وصداعه.

([20]) إيريك هوفر(1902-1983)Eric Hoffer، المعنى من منظور فلسفي، ترجمة أثمار عباس، مجلة نزوى عدد 96 سنة 2019 عُمان، على النات(اطلع عليه يوم 20 جانفي 2019)

([21]) قُتلت ْهي أي الخمرة معناه صارت أقل تركيزا، وقُتلتَ دعاء بالقتل. هاتها لم تقتل أي قدم الخمرة صرفا. ينظر: الصفدي، الوافي بالوفيات، ج4، 2000، ص105 

([22]) الحصري، زهر الآداب ج1، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية القاهرة، ط1، 1372-1953، ص308