تقديم
مقدمة:
إن أصول الحداثة في الأدب الجزائري ترجع إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر حين كان ارتباط الحركة الأدبية في المغرب العربي بالمشرق العربي قائما، و قد بدأت النهضة في الوطن العربي، عموما باستلهام التراث العربي المشترك في عصور ازدهاره الأولى ، منطلقة من إحياء أمهات الكتب، في هذا التراث و الاستفادة من عناصر القوة فيه، إلى جانب ما بدأت تسهم به حركة الترجمة و النقل ، و الطباعة و النشر، و الانفتاح على الثقافة الأوروبية عموما.
و إن كان من رواد الحركة الأدبية الحديثة في المشرق العربي، محمود سامي البارودي ( 1838 – 1904 م ) فإن الأمير عبد القادر الجزائري يعتبر من روادها في المغرب العربي عموما، و في الجزائر خصوصا ، فهما معا يمثلان مدرسة الإحياء و التجديد، و قد اشتركا في صفات البطولة في الشعر و في الحرب، فكل منهما خاض المعارك في ميدان القتال ن كما عانا كلاهما المنفى و الغربة، فقضى ( البارودي ) سبع عشر سنة منفيا في جزيرة ( سرنديب ) لاشتراكه في الثورة العربية، و عانى (عبد القادر) المنفى في (فرنسا) و الغربة في (بروسة) ثم ( دمشق) بعد الغدر به على إثر استسلامه عندما فقد ( الساعد و المعاضد) كما قال.
و كلا الرجلين في الأخير – مع بعض الاختلاف – متصل بالتراث الأدبي العربي عموما و الشعري خصوصا في عصوره الزاهية، يستوحيانه و يستمدانه في الإنشاد ، مع روح تجديدية متوثبة فكرة و شعورا و طريقة كما عكسه (البارودي ) في مثل قوله :
أسير على نهج يرى الناس غيره ** لكل امرئ فيما يحاول مذهب
شدا هذا في ( مصر ) كما شدا ( عبد القادر) في ( الجزائر) أثناء حياته ، إبان قيادة الكفاح و المقاومة في فترة كانت الثقافة العربية و الحركة الدبية في الجزائر ذات حيوية، كما كان التعليم منتشرا و العربية سليمة من العجمة و الضعف، و هو الوضع الذي بدأ يتراجع بمجيء الاحتلال، حيث بدأ تشجيع الأمية بتوطد الاحتلال ، و يضعف المستوى الأدبي بانزواء رجال الأدب أو صمتهم و هجرة بعضهم ، خاصة بعد نفي (الأمير) من ( الجزائر) لهذا تبقى فترته فترة حداثة أدبية ، كما يبقى شعره ممثلا لهذه الفترة، و إلى جانبه أصوات شعرية في مقدمتها صديقه الأديب القاضي ( محمد الشاذلي القسنطيني) ( 1807 – 1877 م ).
أما في النثر الخاص بهذه الفترة – و قد احتفظ برونقه – فتبرز أمامنا عدة أسماء مختلفة فكرا و منهجا ، في مقدمة هذه الأسماء : ( حمدان بن عثمان خوجه ) ( 1773 – 1840م ) صاحب كتاب ( المرأة ) ذو الفكر النير و الروح القومية المتوثبة ،و محمد بن العنابي و كتابه "السعي المحمود في نظام الجنود " و قدور بن رويلة" في كتاب بعنوان" وشاح الكتائب و زينة الجيش المحمدي الغالب .
غير أن زعامة الحركة الأدبية عموما تبقى في هذه الفترة أيضا للأمير عبد القادر خصوصا بشعره الذي اختلفت ألوانه : ثوريات و اخوانيات و غزليات ، فخرا و تصوفا و تأملا و وصفا، و هي ألوان اختلفت حجما أو كثافة و مستويات فنية .
فالأمير عبد القادر من جيل النهضة الحديثة في الوطن العربي ، مسك بزعامة السيف و زعامة الشعر، في وطنه، ضمن الخلود في ذاكرة التاريخ بجهاده و مواقفه الإنسانية، و بأعماله و آثاره الفكرية و الدينية و الأدبية.
بانتهاء فترة الأمير(عبد القادر) لنفي رجال علم و أدب و هجرة بعضهم، و انزواء بقية نزلِ ظلام دامس على الحركة الثقافية و الفكرية و الأدبية و من صميمها الحركة التعليمية، و قد اختفى الحس الوطني في الأدب كطاقة شحن و دفع ، و تسرب اليأس إلى النفوس الكسيرة، وهي ترى دمار الاحتلال يمتد إلى كل شيء و لا يسلم منه شيء، فيشيع الفقر و الجهل و يصادر وسائل المعرفة و التعليم في الأوقاف و الزوايا و غيرها، فضعف المستوى الأدبي في النهاية، و شاعت فيه الركاكة، و غزته العجمة في التعبير و التركيب، و سرعان ما تحول جانب كبير في شكله هذا إلى بوق يخدم الاستعمار الفرنسي .
مثلث الانتكاسية السياسية ثم الثقافية و الفكرية و الأدبية فترة انكماش ثقافي أشبه بالغيبوبة، شعر فيها الإنسان الجزائري بالغبن و الانكسار المادي و المعنوي ، و هو ما شمل الكتاب و الأدباء الذين هم بطبيعتهم أكثر إحساسا بالمعاناة الوطنية بكل امتداداتها تحت الاحتلال النصراني الظالم المتعجرف ، فامتد ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر حين بدأ يسري في المجتمع انتعاش واعد باستئناف النهوض بعد الانكسار بفعل عوامل مختلفة داخلية و خارجية، فمن العوامل الخارجية إدراك الجزائريين الذين كانوا يترددون على أوروبا و فرنسا خصوصا الفروق الظالمة بين سياسة ( فرنسا ) في وطنها، و سياستها في ( الجزائر) كما لعبت الصلة بالشرق العربي دورا بارزا بفضل الصحف و النشريات التي كانت تسرب في التراب الوطني فتدعو إلى اليقظة و النهوض عربيا، و من بينها صحيفة ( المؤيد ) المصرية التي يقول عنها ( سعد الدين بن أبي شنب ) إنها ابتداء من سنة 1307ه (1889م) أخذت تدعو إلى اليقظة و إصلاح المفاسد المتفشية بين العرب، و حب الحرية و الثورة على الاستبداد الاستعماري ، فكانت الصحف و المجلات تأتيهم ( الجزائريين ) مباشرة من مصر، أو تصل إليهم عن طريق غير مباشر أي طريق تونس حيث كانت المراقبة الفرنسية أخف وطأة وأقل تشديدا من طريق المغرب الذي كان لا يزال يتمتع باستقلاله أو ما بين حقائب الحجاج عند رجوعهم من البلاد المقدسة بعد أداء مناسك الحج أو العمرة، و كان كل عدد من تلك النشرات يزيدهم شجاعة وإيمانا بمستقبلهم العربي الإسلامي، فمن أثار تلك الروابط الروحية و العقلية بين الشرق و الجزائر في ذلك الزمان أن أحدثت منذ القرن الرابع عشر و حركة علمية أدبية تنتمي إلى النهضة الشرقية من ناحية و تقتدي بها، و من ناحية أخرى تقلد أساليب الغرب العملية في البحث .
أما الحركة الأدبية ، فقد عرفت بعد هذه المرحلة و بالذات ابتداء من الأمير عبد القادر تطورا ملحوظا ، حيث تحرر النثر الجزائري من الجمود و التبخر ...
على هذه الصورة نكون قد قمنا برحلة طويلة مع النثر الجزائري الحديث و غامرنا في سياحات ممتعة اطلعنا من خلالها على تراث متعدد الأشكال، و الأساليب و المضامين . و يمكننا أن نسجل بعض الملاحظات أو النتائج نوجزها فيما يلي :
أولا: النثر الجزائري الحديث قد تحرر منذ مدة مبكرة من الجمود و التحجر الذي سيطر على الأدب العربي في القرون الماضية ، و الفضل في هذا يرجع إلى أدباء القرن الماضي ابتداء من الأمير عبد القادر .
ثانيا:- إن اللغة العربية رغم ضعفها و رغم الظروف التي عاشتها تحت الاستعمار استطاعت أن تعبر عن مشاعر الكتاب و تنقل إلينا ما كان يجري في الفترة التي عرضنا لها بالدرس و التحليل .
ثالثا:- تطور الأسلوب الأدبي تطورا واضحا في القرن الحالي بسبب احتكاك الكتاب بالعالم الخارجي .
رابعا:- ظهور أشكال أدبية نثرية جديدة لم تكن موجودة في القرن الماضي فيما يتعلق بالنثر.
كل ذلك مما ساعد على صفاء اللغة و مرونتها و صقلها بحيث عكست تجارب خصبة و متنوعة لدى الكتاب و المنشئين ، و هذه ميزة في النثر قد لا نعثر عليها في الشعر الجزائري الحديث إلا في السنوات الأخيرة لأن الشعراء ارتبطوا بالتراث ارتباطا كليا و إذا كانوا قد جددوا في الموضوعات و المضامين فإن معظمهم بقي يجول في دائرة القدماء . بينما الكتاب تحرروا من سيطرة الماضي و من سحره إلى حد كبير ربما لأن لغته تختلف عن لغة النثر، و ربما لأن قيود الشعر أثقل من قيود النثر.
و لكن المهم أن كتاب النثر أسهموا بقوة في تطور اللغة الأدبية و في أسلوب الأدب. بحيث يمكن أن نتتبع هذا التطور من خلال اللغة ومن خلال الأشكال الأدبية، بحيث نلحظ ضعفا في هذه اللغة و أسلوب الكتابة فيها أثناء القرن التاسع عشر خاصة في الرحلات و في المقامة و لأن اللغة في ذلك الوقت انحسر مدها تحت ضعف اللغة و الثقافة الأجنبية و تحت وطأة الاستعمار الفرنسي بينما في عصر النهضة و الانبعاث و في عصر الإحياء أخذت تسترد مكانها و قدرتها على البيان و التصوير. و نلحظ هذا التطور من عقد إلى آخر من خلال المقال و القصة و المسرحية و غيرها، لأن الأدباء تنوعت ثقافتهم و تجاربهم حتى جاءت الحرب الثانية ثم الثورة ثم جاء الاستقلال فنجد أن هذه اللغة تتطور باستمرار و تسعى إلى أن تصبح أداة مرنة من جهة، و تعبيرا عن شخصية الشعب الجزائري العربي من جهة أخرى فاكتملت صورتها في أيامنا هذه و هي في طريقها إلى أن تخطو إلى الأمام و تتحرر من رواسب الماضي و تحتل مكانتها التي حرمت منها طويلا .
خامسا:- أن النثر الجزائري صور واقع المجتمع و القضايا التي عاشها الكتاب أكثر من قرن و نصف ، و نقل إلينا ما يلقى الضوء على المراحل التي مر بها المجتمع و الصراعات المختلفة التي ظهرت في البيئة الجزائرية و سجل نظرة الأدباء و الكتاب لهذه القضايا بحيث يمكن أن تعتبر نصوصه شواهد على هذا الماضي الطويل الذي عاشه الشعب الجزائري تحت نير الاستعمار، و أيضا عكس فرحة الشعب و أحلامه أيام الثورة و بعد الاستقلال .
و حين يصبح الأدب شاهدا على العصر الذي وجد فيه فإنه يكون تعبيرا عن الواقع من جهة و تعبيرا عن الصدق من جهة أخرى. و لقد كان النثر الجزائري صادقا في قوته و ضعفه في جموده و تطوره ، كان كذلك من خلال الأشكال الأدبية النثرية القديمة والحديثة و النماذج التي عرضنا لها، تؤكد أن الكاتب كان ملتزما باستمرار و منحازا للشعب و للقومية و للعقيدة و كذلك كان أدبا من اجل الإنسان و الجمال و الخير و من اجل الحياة.