المحاضرة الالى
- الخطابة-
الخطابة - كما هو معلوم - من أقدم الفنون النثرية عند العرب ، و قد انتشرت انتشارا ملحوظا في العصر الجاهلي لأنها تلائم ظروف ذلك العصر إذ كان الخطيب - مثل الشاعر- لسان القبيلة المعبر عن مواقفها في السلم و الحرب . و مع أننا لا نجد كثيرا من الخطب التي قيلت في ذلك الوقت لعدم التدوين حينذاك فان ما بقي من بعض الخطب يدل على القدرة على الارتجال التي امتاز بها العرب ، و يؤكد ما اشتهر به العرب من فصاحة و بلاغة . ثم تطورت الخطابة بعد ظهور الإسلام و تغيرت في أسلوبها و محتواها نظرا للعقيدة الجديدة و طريقة نشرها ، و لكنها في العصر الأموي رجعت إلى ما يشبه عهد الجاهلية من حيث الدفاع عن القبيلة ، و لكنها القبيلة السياسية أو الحزب السياسي ، و وجد الخطباء مجالا خصبا في هذا الصراع الديني و السياسي بين الفرق الإسلامية ، فاتسعت الموضوعات و تعددت الأساليب و برز خطباء لهم شهرة فائقة أمثال الحجاج بن يوسف الذي عرف بالبيان و الفصاحة .
و قد استمر الصراع أيضا في عهد العباسيين و تنوعت الثقافة العربية و تنوعت مشاربها لتستوعب ثقافات أخرى ، المر الذي ساعد الخطابة على أن تصبح فنا منظما أكثر منه فنا مرتجلا ، على أن العباسيين بمرور الزمن قضوا على الصراعات نسبيا و من ثمة اتجه الخطباء غالبا إلى الدين و الوعظ و التنويه بالخلفاء .
و حين تدهور الأدب العربي في العصور التالية حتى عصر الأتراك باتت الخطابة تقليدا أكثر منه إبداعا و فنا، و مالت إلى الرتابة فظهر التكلف في أسلوبها و طابعها العام و اقتصرت أغراضها على المناسبات الدينية، يكرر فيها الخطيب معاني السابقين و لكن بأسلوب ضعيف و صياغة جامدة،و كان يمكن أن تستمر الخطابة على هذا النحو في الجزائر بعد الاحتلال لولا ظهور» الأمير عبد القادر« و بعض المثقفين الجزائريين الذين ملكوا ناصية القول و أدركوا خطر الخطابة في الدعوة إلى الجهاد و استنفار الذين يحاربون الأعداء، خاصة و أن فترة الاحتلال كانت تساعد على هذا اللون من النثر، لأن الصراع بين الجزائر و الاستعمار الفرنسي بلغ ذروته في الثلاثينيات و الأربعينيات من القرن الماضي، مما اسهم في أن يتغير أسلوب الخطب و مضمونها أيضا .
و النماذج التي بقيت لنا من تلك الفترة تدل على أن الخطابة تحررت من أسلوب السجع المتكلف المقصود لذاته، و مالت إلى البساطة في التعبير و القصد في القول دون إطناب إلا في المناسبات التي تتطلب الكثير من الإقناع . أما في الاستنفار إلى الكفاح و الحرب و شحذ الهمم للدفاع عن الوطن و مقدساته فان المجال يقتضي التركيز و الإيجاز كما يقتضي أيضا التعابير الحماسية الفياضة .
فخاصية الحماسة في تلك الخطب من أبرز السمات التي نلحظها في إنتاج الخطباء في ذلك العصر ، لأن الخطيب كان في موقف يحتاج معه إلى أن يدعو الناس إلى القتال و مكافحة الفرنسيين الغزاة . و هناك خاصية أخرى بارزة للعيان و هي أن النظرة الدينية تطغى في الخطب التي بقيت من تلك الفترة، فالنظرة الدينية كانت تغلب ن لا على الخطباء وحدهم، بل على المجتمع الجزائري بوجه عام، إذ كان الغزاة في نظر الناس كفارا، جاءوا لاحتلال بلد عربي مسلم، و يتضح هذا في الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية التي كان الخطيب يستشهد بها في موضوعه .
أما الخاصية الثانية التي نلحظها في هذه الخطب فهي أن أسلوبها – كما أشرنا – واضح لا تكلف فيه، و أن السجع يأتي تلقائيا و العناية به ليست مقصودة و إنما تأتي عفو الخاطر إلا في النادر، حين يقصد إليه الخطيب قصدا، لإظهار قدرته و براعته في اللغة و تبحره فيها و معرفته الواسعة بمفرداتها و أساليبها .
و على العموم فإن الخطباء في تلك المرحلة قد خطوا بالخطابة خطوة طيبة من حيث الصياغة فتحررت من الركاكة و التعقيد و التراكيب المحفوظة و أصبحت فنا هدفه الإبانة و الإفصاح عن الرأي لا التلاعب بالألفاظ و التقليد الجامد للأقدمين .
و جملة القول أن الخطابة في النثر الجزائري الحديث إذا كانت قد استندت على التراث العربي القديم و تأثرت بالأساليب العريقة فيه حيث استخدم أصحابها السجع أحيانا و استشهدوا بالقرآن أو الحديث أو الشعر، إلا أنها اختلفت من حيث المحتوى و الموضوع و البيان العربي الأصيل من جهة أخرى، فأعادت بذلك للأسلوب العربي مكانته في الأدب الجزائري. و لا تزال الخطابة في حاجة إلى دراسة أوسع و أشمل لأن دورها لا يقل عن دور المقال في بث الأفكار و الآراء السياسية و الإصلاحية و توعية الجماهير بالواقع المؤلم الذي عاشته الجزائر تحت الاحتلال .
و حين قامت ثورة نوفمبر فتحت مجالا جديدا خصبا للخطباء، و استخدمت الخطابة أداة و وسيلة لتعميق المفاهيم الثورية في أذهان جنود جيش التحرير و أفراد الشعب بوجه عام، و لكن – لسوء الحظ – فقد ضاع معظم هذه الخطب، و لو عثرنا على بعض نصوص منها لأمكن استخلاص سمات، و خصائص الخطابة في وقت الكفاح التحريري من ناحية الأسلوب و المعالجة و كذلك الأفكار التي طغت في تلك المرحلة، بل و لأدركنا مستوى اللغة في تلك المرحلة، بل و لأدركنا مستوى اللغة في تلك الفترة و مستوى أسلوب الخطباء.
أما بعد الاستقلال فإن الظروف تغيرت و تغير موضوع الخطابة لتغير الواقع، و ربما أمكن القول بأنها ضعفت من حيث صياغتها لأن العناية بها من الناحية الدبية الفنية قد قلت و اصبح الهدف هو التعبير عن الفكرة و توصيلها إلى الجماهير بقطع النظر عن الجمال الأدبي أو عدمه، فقد اتجه الكتاب إلى أسلوب المحاضرات بدل الارتجال .
و مهما يكن من أمر فإن الخطابة في الدب الجزائري الحديث لعبت دورا هاما سواء فيما يتصل بالقضايا الاجتماعية أو السياسية للشعب أو فيما يتعلق بالناحية الأدبية و الثقافية، فقد أسهمت في تطوير اللغة العربية و الإبقاء عليها و على مرونتها كما أسهمت في نشر الأفكار و المبادئ و الأهداف التي آمن بها الشعب و ضحى من أجلها .
ب-الرسائل -
أما الرسائل فمع أن دورها أقل بكثير من دور الخطب إلا أنها خدمت الأدب الجزائري الحديث بوجه من الوجوه في فترات معينة. و المعروف أن هذا اللون من النثر بدأ يزدهر في الدب العربي منذ عصر التدوين و خاصة حين أنشئت المكاتبات الديوانية و اتسعت رقعة الخلافة العربية الإسلامية فكان لا بد من كتاب ينقلون أوامر الخلفاء إلى الولاة أو يشرحون شئون السياسة و الاجتماع، و من هنا بدأت العناية بالرسائل و أساليبها، فالكاتب فضلا عن أنه يعبر فيها عن موضوعه الخاص، فإنه يجتهد في أن يكون أسلوبه جميلا مؤثرا متماسكا في صيغه و محتواه بحيث تبرز فيه شخصيته و أصالته و طريقته الخاصة في التعبير و الإنشاء. و قد اشتهر في هذا المضمار كتاب بارزون أمثال (عبد الحميد الكاتب ) و( ابن المقفع ) و غيرهما، كما ظهرت المدارس الأدبية في النثر مثل مدرستي ( القاضي الفاضل ) و ( ابن العميد ) .
و قد اتسمت كتابة الرسائل بخصائص معينة منها الملاءمة بين الموضوع و الأسلوب و العناية بالصياغة و بالسجع بوجه خاص و مراعاة الفواصل بهدف إحداث المتعة الأدبية أو إظهار البراعة اللفظية.
و لكن بعد هذا أصبحت الكتابة تكلفا في هذه الخصائص و مالت إلى إظهار البراعة اللفظية، كما كثر البديع بشتى أنواعه في أساليب الكتاب و تحجرت طرق البيان و تجمد الأدب العربي حتى بلغ نهايته في عصر الأتراك و من قبله من عصر ما يسمى بالانحطاط.
و عندما احتلت الجزائر عام 1830م كانت هناك بقية من هذه الأساليب قد انحدرت من عصر الحكم العثماني، كما بقيت آثار من الثقافة العربية الإسلامية الأمر الذي لا يمكن معه البحث عن أسلوب جديد، بأتم معنى الكلمة، لفن الترسل في النثر الجزائري غير أن هناك رسائل تعطينا صورة عما وصل إليه هذا النثر طوال القرن الماضي من ضعف، و في الوقت نفسه فكرة عن مستواه من حيث الجودة الفنية أو عدمها و من حيث الندرة أو الكثرة.
و يمكن التمييز بين اتجاهين في الرسائل من حيث الأسلوب :
الاتجاه الأول هو الذي يبدي فيم الكاتب مشاعره و يعبر عن عواطفه كما تظهر فيه ثقافته و تمكنه من اللغة العربية و استيعابه لمفرداتها و أساليبها، و في الوقت ذاته يدل على تأثر الأديب بطرق القدامى في رسائلهم و خصائصهم الفنية دون أ، تذوب شخصية أو تختفي وراء ركام الألفاظ و العبارات المنمقة. بل إن روح الأديب المنشئ تظهر قوية جلية بالرغم من روح العصر و ضعف الأدب العربي في الجزائر في بداية الاحتلال.
و يمثل هذا الاتجاه ( حمدان خوجه ) في رسالة تنسب له، و الواقع أن هذا الكتاب الجزائري اشتهر بالإنتاج في غير الأدب إذ كان يكتب في السياسة و مشاكلها و الأحداث التي عاصرها أثناء احتلال بلاده، و لكنه في هذه الرسالة التي كتبها لشيخه ( سيدي علي بن محمد ) من لندن حين سافر إليها نلمس جزالة في الأسلوب و هو يعبر له عن اعترافه بالجميل و يظهر وفاءه له و تعلقه به و شوقه إليه. و منذ البداية نلمس التقليد في خصائص هذا اللون من الأدب، فالكاتب يبدأ رسالته بالحمد و الصلاة على الرسول ثم يوجه الخطاب إلى شيخه يمدحه و يشيد بفضله عليه، كما يصف علمه و تدينه و تقاه، و كالعادة في ذلك الوقت فإن العالم أو الأديب يمدح بمدى قدرته على فهم الشريعة و إدراك ( الحقيقة ) التي هي التبحر في التصوف يقول ( حمدان خوجه ).
ثانيا: الاتجاه الثاني هو الذي يعمد فيه الكاتب إلى البساطة و الوضوح دون قصد للجمال الأدبي و دون عناية كبيرة بالصياغة بحيث اختفى أسلوب السجع و البديع بشكل ظاهر، و طوعت فيه اللغة للتعبير بسهولة و يسر و في بساطة تجعل منها أداة مرنة صالحة لصياغة المعاني الدقيقة و الأفكار العميقة.
و يتضح هذا الأسلوب في رسائل ( الأمير عبد القدر) للقائد الفرنسي (بيجو) و لغيره من الحكام الفرنسيين أثناء مفاوضاته معهم طوال الفترة التي حمل فيها لواء المقاومة ضد المستعمرين . فهو في هذه الرسائل قد خطا بالنثر خطوة واسعة قد حرره فيها من الأسلوب و من الركاكة و التكلف و جعل منه وسيلة للتعبير عن الأفكار الحديثة التي غزت الحياة السياسية و الاجتماعية في تلك الفترة، إذ يشرح في رسائله موقفه من السلم و الحرب و ما يتصل بهما من ملابسات و معطيات.
و إلى جانب هذين الاتجاهين وجد لون من الرسائل في أواخر القرن الماضي لا يرقى إلى أن يكون أدبا أو فنا لا من حيث الأسلوب و لا من حيث الموضوع و لا أيضا من حيث المحتوى، فالأسلوب ضعيف وشخصية الكاتب باهتة، و اللغة عادية متهافتة في أحيان كثيرة، كذلك فإن الموضوعات من نوع ما عرف بالاخوانيات أو الموضوعات الخاصة بأصحابها.
وهذه الرسائل في الواقع لا تدل على تفرد أو أصالة و ليس في أسلوبها ما يدعونا إلى الوقوف عندها فهي لا تسهم لا في المحافظة على صيانة البيان العربي و لا في تطور النثر الجزائري الحديث.
و قد تدهور أسلوب الرسائل بعد ذلك، أي في أواخر القرن الماضي، تدهورا ملحوظا بحيث لا نجد في هذه الفترة إلا نوعا من الرسائل كتبها بعض الجزائريين لا يهدف التعبير عن الذات أو الكشف عما في النفس، و إنما كتبت كقوالب محفوظة جاهزة يكتب على نسقها من وقعت له حادثة و يريد أن ينقلها إلى الإدارة مثلا، فهي رسائل للشكوى و التظلم أو لغير ذلك من الأمور العادية التي تحدث للناس يوميا.
أما في ظل الحركة الإصلاحية فقد استعاد هذا الفن كثيرا من أصالته فيما يخص اللغة و العبارة، أما من حيث الأسلوب و الطريقة فالواقع أن الرسائل أصبحت تميل إلى الوضوح و الدخول مباشرة في الموضوع كما يتضح فيما تحت أيدينا من رسائل قليلة مخطوطة مما كان يتبادله العلماء المصلحون في الثلاثينيات من هذا القرن، و أهمية هذا النوع من الرسائل تكمن في الموضوعات و الأفكار و القضايا التي شغلت رجال الحركة الإصلاحية و خاصة تلك التي تدعو إلى النهوض و إلى محاربة الأمية و تهتم بنشر التعليم و إصلاح المجتمع.
على أنه يمكن القول بأن أسلوب الرسائل قد تطور في العصر الحاضر بالرغم من أ، النصوص لا تساعد على حكم موضوعي، و إنما من بعض ما عثرنا عليه أدركنا أن الكتاب المعاصرين لا ينشرون رسائلهم و مكاتباتهم و لو نشرت لعثرنا على كنز من الأدب و المشاعر الإنسانية لأن الكتاب فيها يطلقون أنفسهم على سجيتها و يعبرون فيها على آرائهم و أفكارهم و عن قضايا كثيرة بلا حرج أو خوف أو بهرجة.
ج - أدب الرحلات -
أدب الرحلات من الفنون الأدبية شاعت لدى العرب منذ التي القديم،
و هو فن له خصائصه المعينة بل إنه – كما يقول الدكتور (شوقي ضيف ) –برفع التهمة التي ترى أن الأدب العربي لم يعالج فن القصة، لأن الحديث عن الأمم و البلدان و وصف المجتمعات التي يمر بها الرحالة أو يقصدها إنما هو بصورة ما لون ن ألوان القص.
و الواقع أ، هذا الفن موغل في القدم، عرفته قبل العرب أمم أخرى كالفراعنة و الفينيقيين و الرومان و الإغريق، ثم جاء الرحالة العرب الذين جابوا الآفاق. و اشتهر منهم كثيرون مشرقا و مغربا أمثال ابن جبير (وابن بطوطة) و (الادريسي ) و (العبدري ) و (العياشي ) و غيرهم، نقلوا إلينا ما كان يضطرب في العصور السابقة و شاهدنا من خلال رحلاتهم مستوى الحضارة التي بلغتها الشعوب، و قد اعترف كثير من الباحثين الأجانب بفضل الرحالة العرب و نوهوا بقيمة رحلاتهم من حيث مادتها و أسلوبها و طريقة عرضها.
و قد أسهم الرحالون الجزائريون في عصر الأتراك بمجهودات كثيرة في هذا المجال و مارس هذا الفن كتاب كثيرون و لا سيما تلك الرحلات الدينية التي كان يقصد منها لقاء شيوخ الطرق الصوفية و الاجتماع بهم أو السفر لأداء فريضة الحج، و بعض هذه الرحلات طبع حديثا و البعض الآخر لا زال مخطوطا حتى اليوم.
و يمتاز أسلوب الرحلات عامة بالتسجيل و الوصف الإنشائي التعبيري و يعتمد على الملاحظة الدقيقة المباشرة أو على الخيال حين يكون الوصف للطبيعة أو الكون أو غيرهما مما ينفعل به الأديب الرحالة فيلونه بشعوره و إحساسه و يعطيه من نفسه الشيء الكثير.
د- المقامات و المناظرات
لما كان النثر الجزائري الحديث قد ارتبط بالتراث العربي وخاصة في الأشكال التي ظهرت منذ القديم، فإنه من الطبيعي أن يكون شكل المقامة في هذا النثر، و أن يكتب الأدباء الجزائريون مقامات أدبية بصرف النظر عن مستواها الفني، كما أنه كان من الطبيعي أيضا أن يطوعوا هذا الشكل لأفكار جديدة تناسب العصر وأن يتجاوزوا وظيفة المقامة التقليدية – و هي العناية باللغة العربية وأساليب البيان العربي فيها إلى نقد الواقع و رصد حركة المجتمع و تطوره الفكري و الثقافي و الاجتماعي كما حدث في بداية هذا القرن حين استخدم كثير من الأدباء العرب هذا الشكل للتعبير عن مشاكل المجتمع و قضياه مثل ( المويلحي) في ( حديث عيسى بن هشام) و غيره من الكتاب المحدثين.
و هناك كاتب جزائري ظهر في وقت مبكر و برع في اللون من الكتابة الأدبية و نوه الدارسون بآثاره في النثر و هو (محمد بن محرز الوهراني ) الذي كتب مقامات و منامات و رسائل أدبية صور فيها بصدق و بعبارة قوية بعض جوانب الحياة في المجتمع العربي في عصره (عصرالأيوبيين ).
و قد ظل ( الوهراني ) زمنا طويلا مجهولا بالنسبة للكثير من الدارسين، و لكنه في السنوات الأخيرة وجد من يعنى به و بآثاره، بل أصبح موضوعا لبحوث جامعية في الشرق العربي.
و الواقع أن الدارسين يفرقون بين (المنام) و (المقامة) فالأول غالبا ما يكون أشخاصه ممن تستحيل رؤيتهم مثل شخصية الرسول أو الصحابة، أما المقامة فإنها مستقاة من واقع الحياة و من واقع العصر الذي عاش فيه المؤلف.
و في العصر الحديث يمكن التمييز بين أنواع ثلاثة من المقامات في النثر الجزائري: المقامة الصوفية و الأدبية و الإصلاحية ثم الشعبية.
أما المقامة الصوفية فقد عبر فيها أصحابها عن نزعاتهم الروحية مثلما عبروا عن ذلك بالشعر.
و بعد (الأمير عبد القدر) ممن عالج الأمرين معا: الشعر و النثر الصوفيين و كتب ما يمكن أن يعتبر مقامة أدبية صوفية نشرها في كتابه (المواقف) و صور فيها الموضوع الذي أرق المتصوفة طويلا و هو موضوع (الحقيقة الإلهية) و كيف أنها تدرك بالذوق لا بالعقل، لذلك فإن البرهان عليها بالأدلة العقلية مستحيل.
-المناظرة-
المناظرة قد وجدت لا في النثر الجزائري الحديث فقط بل في الشعر أيضا، (فالأمير عبد القدر) فاضل بين البادية و الحاضرة بقصيدة و انتصر فيها للبداوة في النهاية.
و بالنسبة للنثر فإننا لم نعثر على هذا الشكل الأدبي قبل مناظرة الشيخ (عبد الرحمن الديسي) التي أطلق عليها مناظرة بين العلم و الجهل.
على أننا لا نستبعد إطلاقا أن يكون هناك من كتب مناظرات قبل هذا الأديب، لأننا ندرك أن الأدباء في القرن الماضي بوجه خاص قلدوا الأقدمين في الأساليب الأدبية شعرا و نثرا، مثل الرسائل و الخطب و الرحلات و المقامات و غيرها كما سبق لنا القول.
و لا شك أن الأشكال الأدبية تظهر لحاجة ملحة في نفس الكاتب و المجتمع معا و تتطلبها البيئة الثقافية و الاجتماعية أو السياسية و الأدبية، فقد يكون الواقع سببا من أسباب ظهور هذا اللون أو ذاك من الأدب كأن تكون الرغبة قوية في استحداث طريقة جديدة للتعبير بعد أن يمل الناس الطريقة المألوفة في عصر الأديب فتصبح لا تثير في النفوس انفعالا.
كذلك فإن السياسة قد تلعب دورا في وجود شكل معين غير معروف من قبل مثل الضعف و مصادرة الرأي، فيأتي الكاتب ليبدع طريقة جديدة خاصة به يعبر بها عن رأيه و فكره دون خوف أو عقاب.
و قد يكون الدافع للبحث عن شكل جديد هو الواقع الاجتماعي الذي يتطلب أسلوبا خاصا لمعالجة مشاكله يجذب القارئ و يتفق و ذوق القراء و ميولهم ، كما أن البيئة الثقافية تلعب دورها في انتشار لون من ألوان الأدب، فقد ينتشر الشعر في فترة أكثر من انتشار النثر م العكس صحيح أيضا.
و فيما يتصل بأسلوب المناظرات في النثر الجزائري الحديث فإنه في تصورنا تقيد للقديم لأنه يجاري ما عرف لدى القدماء من أساليب، و في الوقت نفسه يدل على أن هذا الشكل طوع للتعبير عن قضايا أحس الكاتب بأنها جديرة بالمعالجة.
و إلى جانب أن استخدام هذا الأسلوب يبدو مشرقا نسبيا بالقياس إلى المقال الصرف الذي لا يعتمد على حوار أو سرد قصصي أو مفاضلة بين أمرين، فضلا عن إيثار البراعة اللفظية و التلاعب بالكلمات.
و إذا كنا لم نعثر على هذا الأسلوب في القرن الماضي سوى عند (الديسي) فإن طريقة المناظرات الدينية معا قد انتشرت في بداية القرن العشرين لأسباب كثيرة سنعرض لها في حينها..
على أن الأسلوب القصصي فيما أشرنا سواء في المقامة أو في المناظرة قد مهد لظهور القصة القصيرة وأعد المناخ لها، كما أنه أسهم في تطور اللغة و الأدب معا بالرغم من ارتباطه بالتراث من حيث الشكل، و لكنه ساعد على بقاء اللغة القومية أداة للتعبير من جهة، و عالج موضوعات شتى، لها صلة بواقع المجتمع و الإنسان في القرن الماضي.