الدرس الثاني
بطاقة تواصل حول مقياس فلسفة القانون– الدرس الثاني -
لقب واسم الاستاذ: برابح السعيد
البريد الإلكتروني: said.berrabah@univ-msila.dz
المستوى: السنة أولى ليسانس جذع مشترك
السداسي الاول
عنوان الدرس: المذاهب الموضوعية
أهداف الدرس: التعرف على مختلف المذاهب الموضوعية التي تنظر إلى جوهر القانون وموضوعه
المذاهب الموضوعية
وهي تلك المذاهب التي تنظر إلى جوهر القانون وموضوعه، وتذهب إلى تحليله فلسفيا واجتماعيا للتعرف على طبيعته وكيفية نشأته، فهي تهتم بجوهر القاعدة القانونية أو المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة، ثم تأتي المصادر الرسمية لتضفي على هذه القاعدة صفة الشرعية بما تعطي لها من شكل ملزم.
لقد اختلف أصحاب المذاهب الموضوعية وانقسموا إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجه نحو المثل العليا في تكوين القاعدة القانونية، والعدالة الإنسانية كأساس للقانون، وهو ما يطلق عليه المدرسة المثالية.
الاتجاه الثاني: اتجه الى النظر الى الحقائق الواقعية الملموسة التي تسجلها التجارب العلمية، وهو ما يطلق عليه اسم المدرسة الواقعية.
أولا: المدرسة المثالية
من أهم المذاهب التي تنطوي تحت المدرسة المثالية نجد مذهب القانون الطبيعي، ومذهب القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير.
مذهب القانون الطبيعي
يتمثل هذا المذهب في ما ذهب إليه الفلاسفة والفقهاء منذ القدم في وجود قانون أعلى من كل القوانين الوضعية، ليس من صنع البشر، وإنما هو مجموعة من القواعد الأبدية الثابتة التي أودعها الله في الكون، وان المشرع مطالب بالاقتداء بها عند وضع التشريع، وإذا كان هذا المذهب قد احتفظ بجوهر الفكرة إلا أن مضمونها لم يثبت على حالة واحدة.
أولا: القانون الطبيعي عند اليونان: فكرة القانون الطبيعي كانت فكرة فلسفية عند الإغريق تقوم على التأمل في مظاهر الحياة الاجتماعية ومحاولة الكشف عن طبيعتها فلاحظ فلاسفة اليونان النظام الثابت الذي يسير عليه الكون ويخضع له كل ما فيه من ظواهر طبيعية، ومخلوقات حية، كما لاحظوا أن علاقات الناس ومعاملاتهم تجري على نمط واحد وفق أنظمة متشابهة لدى مختلف الشعوب الأمر الذي دعاهم إلى القول بوجود قانون أعلى يحتوي على قواعد خالدة ليست مكتوبة وليست من صنع البشر، وهي قواعد تحقق العدل يجب أن تأخذ كمثل أعلى بالنسبة للقانون الوضعي.
وفي مرحلة لاحقة ظهر عند اليونانيين ما سمي بمذهب الرواقية في القرن الرابع قبل الميلاد فكانوا يدعون للخضوع للقانون الطبيعي الذي يحكم العالم كله، ويلزم الجميع، وكانوا يرون أن المثل الأعلى للحكيم هو في التحرر من كل المؤثرات الخارجية بما فيها إجبار الدولة.
ثانيا: فكرة القانون الطبيعي عند الرومان: انتقل مذهب الرواقية إلى الرومان فتأثروا به وبفكرة وجود قانون طبيعي ينطبق على كافة الشعوب لأنه أعلى من القوانين الوضعية وسابق على وجودها، وبهذا أصبحت فكرة القانون الطبيعي عند الرومان فكرة قانونية تعني قانون الشعوب بعدما كانت فكرة فلسفية عند اليونان.
ابتداء من القرن الثالث اتجهت كتابات الفقه الروماني إلى التفرقة بين القانون الطبيعي وقانون الشعوب، وظهر ذلك عند الفقيه "ألبين"، وفي القرن السادس احتوت مجموعة "جوستنيان" ثلاث نماذج من القانون هي:
- القانون المدني: وهو القانون المطبق على الأصلاء، وينحصر في قانون الألواح الإثني عشر، والأحكام المكملة له يطبق على أهل مدينة روما.
- قانون الشعوب: وهو القانون الذي يحكم العلاقة بين الأجانب، أو بين الرومانيين والأجانب.
- القانون الطبيعي: وهو استخدام لتعبير فلسفي، فالطبيعة تؤكد أن الناس يولدون أحرارا متساوين ، والفرق بينه وبين قانون الشعوب هو أن قانون الشوب يبيح الرق ويقبله، أما القانون الطبيعي فينكر هذا التمييز.
ثالثا: فكرة القانون الطبيعي عند الكنسيين في القرون الوسطى: أصبحت فكرة القانون الطبيعي فكرة دينية في كنف الكنيسة المسيحية، حيث اعتبروه قانون خالد لا يتغير، وهو من صنع الله باعتباره خالق الطبيعة، وقد استهدفوا من تحويل القانون الطبيعي إلى فكرة دينية تعزيز سلطان الكنيسة وإخضاع الملوك لسيطرة البابا.
رابعا: القانون الطبيعي في العصر الحديث: عرف مراحل متعددة تتمثل في ما يلي:
1/ سيادة الدولة وإنكار القانون الطبيعي: بعد انقضاء العصور الوسطى وزوال الإقطاع، وبداية تشكل الدول ظهر مبدأ سيادة الدولة الذي أطاح بسيادة الكنيسة وسلطانها.
يرى ميكيافيلي في كتابه "الأمير" أن الحاكم فوق الأخلاق وفوق كل مثل أعلى، وكل الوسائل مباحة لتأييد سلطان الحاكم عن طريق القوة الحيلة، أو الخداع "فالغاية تبرر الوسيلة".
أما "بودان" في فرنسا فكان يدعوا إلى سيادة مطلقة، وأحل للسلطان التحلل من القوانين التي يفرضها، فالحاكم فوق القانون وهو مصدره، وهكذا طغت سلطة الدولة على حريات الأفراد. وهو ما أدى بالفقهاء إلى المناداة بوضع أساس عادل لعلاقة الدولة بالأفراد. وتنظيم العلاقات الدولية وخضوعها للعدل بدل القوة، وهذا ما أدى إلى الحاجة للقانون الطبيعي ليكون وسيلة للدفاع عن حقوق الأفراد وحرياتهم.
2/ بروز فكرة القانون الطبيعي في القرنين (17) و(18): ظهر القانون الطبيعي مرة أخرى على يد "جروسيوس" الذي خلصه من الطابع الديني واتجه به نحو العدل. وقد عرف القانون الطبيعي على أنه القواعد التي يوحي بها العقل القويم والتي بمقتضاها يمكن الحكم على عمل ما بأنه عادلا أو ظالما، وهو ثابت وخالد لا يتغير بتغير الزمان والمكان، والله نفسه لا يملك تغييره لأنه ليس بالذي يغير المعقول، فالقانون الطبيعي إذا مصدره الطبيعة والعقل سابق عن القوانين الوضعية وأعلى منها. ومن ثمة فالعقل يفرض وجود حقوق طبيعية لصيقة بالإنسان هي حقوق الإنسان التي تعتبر مبدأ أساسيا من مبادئ القانون الطبيعي.
رغم كل ما أقره الفقيه "جروسيوس" للإنسان من حقوق طبيعية إلا أنه لم يتحرر من تأثير عصره، فقد أقر الغزو والرق ورأى أن الحرية يمكن التنازل عنها بمقتضى عقد، كما يمكن فقدها بالانهزام أو الأسر في الحرب، وهو تبرير يناقض ما اقره من وجود قانون طبيعي يسمو على القانون الوضعي.
لقد نادى الفقه بالتخلص من الأنظمة الظالمة القائمة على نظام الرق وحق الغزو، فأصبحت فكرة القانون الطبيعي فكرة قانونية بعدما كانت فكرة دينية في العصر الوسيط، وفلسفية في العصر القديم.
3/ القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي: انقسمت نظريات العقد الاجتماعي بين مؤيد ومعارض لفكرة القانون الطبيعي، حيث أنكر "توماس هوبز" (1588-1679) فكرة القانون الطبيعي لأنه كان من أنصار الحكم المطلق، وبالتالي فاستبداد الحاكم عن طريق سن قوانين وضعية يمثل حاجزا أمام المثل العليا للعدل، أما "جون لوك" (1632-1704) و"جون جاك روسو" (1712-1778) فقد أيدا فكرة القانون الطبيعي، حيث أن لوك جعل من فكرة العقد الاجتماعي وسيلة لمقاومة استبداد الملوك والحكام، ورأى بأن السلطان ملزم باحترام الحقوق الطبيعية للأفراد وإذا أخل بهذا الالتزام جاز للشعب فسخ العقد، وعزل الحاكم عن طريق الثورة.
أما روسو فقد رأى بأن الحاكم مجرد وكيل أنابه الشعب فالسيادة للشعب الذي يستطيع عزل الحاكم إذا أخل بواجباته. والعقد الاجتماعي عنده هو وسيلة يمليها العقل الإنساني للمحافظة على الحقوق والحريات، وأن القوانين الوضعية تستمد شرعيتها من سيادة الشعب.
4/ القانون الطبيعي والثورة الفرنسية: اعتنقت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر (18) فكرة روسو المتمثلة في حصر السيادة قي يد الشعب وحده، واعتناق فكرة القانون الطبيعي كموجه ومقيد لسلطة الشعب، وبذلك أصبح القانون الطبيعي مذهبا رسميا تضمنه إعلان رسمي هو إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي سنة 1789 الذي نص على الحرية والمساواة وحق الملكية والأمن ومقاومة الطغيان، وأنه لا دستور لمجتمع لا يضمن حقوق الإنسان.
لقد مهد هذا الإعلان لصدور إعلانات مماثلة تضمنتها دساتير بعض الدول مؤكدة بذلك الاعتقاد بوجود قانون طبيعي خالد مشترك يسمو على القوانين الوضعية ويجعل حقوق الإنسان بمثابة القيد على سلطة المشرعين.
5/ تراجع مذهب القانون الطبيعي في القرن التاسع عشر (19): تعرض القانون الطبيعي لموجة عنيفة من الانتقادات في القرن التاسع عشر شككت في صحته، وقللت من أنصاره في الفقه، ويأتي المذهب التاريخي في مقدمة مهاجمي مذهب القانون الطبيعي، حيث استند في حججه على الواقعية، ومن هذه الانتقادات نجد:
- القول بفكرة الخلود والثبات التي يتميز بها القانون الطبيعي غير صحيح يكذبه الواقع وينفيه التاريخ، فالقانون وليد البيئة الاجتماعية وهي متغيرة في الزمان والمكان، كما أنه (القانون) يتطور آليا.
- القول بأن العقل البشري هو الذي يكتشف قواعد القانون الطبيعي يؤدي إلى اختلاف هذه القواعد باختلاف الأشخاص الذين يستخلصونها بعقولهم، ومن ثمة تختلف قاعدة القانون الطبيعي من شخص إلى آخر في مسألة واحدة، وهذا دليل على عدم صحة هذا القانون.
مذهب القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير
بعد الانتقادات الموجهة إليه من قبل المذهب التاريخي كان لا بد من تخليص القانون الطبيعي من الانتقادات والتناقض الموجه إلى قواعده، فقام الفقيه "ستاملر" بالجمع بين الخلود والتطور في فكرة القانون الطبيعي فيما سماه القانون الطبيعي بالمضمون المتغير، ومضمون هذه الفكرة أن جوهر القانون هو مثل أعلى للعدل خالد ومتغير في نفس الوقت، فهو خالد في فكرته، متغير في مضمونه.
لقد اعتنق الفقيه الفرنسي "سالي" هذه الفكرة الذي يتمثل جوهرها في أن فكرة العدل في ذاتها خالدة أبدية وجدت في ضمير الإنسان على مر العصور، وستظل إلى الأبد وهو أمر لا يتغير، أما الذي يتغير فهو مضمون هذا العدل وطريقة تحقيقه، وهو مرهون بظروف الحياة الاجتماعية التي تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر. إن التمييز بين العدل والظلم يتوقف على كل مجتمع وتصوره لمفهوم العدل، حيث أن ما يعتبر عدلا لدى مجتمع ما في زمن ما قد لا يكون عدلا عند نفس المجتمع في زمن آخر. وهكذا يتفق مذهب القانون الطبيعي مع مذهب القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير في أن القانون الطبيعي يستخلصه الإنسان بعقله.
ثانيا: المدرسة الواقعية
تنظر المدرسة الواقعية إلى القانون بأنه علم اجتماع واقعي، يقوم على أفكار واقعية قابلة للملاحظة والتجريب، فهي لا تؤمن إلا بالواقع الملموس الذي تسجله المشاهدة وتؤيده التجربة، وقد تفرعت هذه المدرسة إلى ثلاث مذاهب هي المذهب التاريخي، ومذهب الغاية الاجتماعية، ومذهب التضامن الاجتماعي.
الفرع الأول: المذهب التاريخي
ظهرت بوادر هذا المذهب في القرن الثامن عشر في فرنسا، إذ أظهر بعض الفقهاء والفلاسفة أثر البيئة والظروف المحيطة بها في اختلاف القوانين، ورأوا أن القوانين يجب أن تتناسب وطبيعة البلاد التي تصدر فيها، ومن أهم الفلاسفة الذين ربطوا القانون بالبيئة الفقيه مونتسكيو في كتابة روح القوانين (الشرائع) سنة 1748، والفقيه بورتاليس أحد واضعي التقنين المدني الفرنسي في القرن التاسع عشر (19) الذي رأى أن القانون يوجد ويتطور آليا مع تقدم الزمن دون تدخل الإرادة الإنسانية.
لقد تبلورت هذه الأفكار في مذهب واضح المعالم على يد الفقيه الألماني سافيني سمي بمذهب التطور التاريخي، ومضمونه أن العبرة بالنسبة للقانون هي القواعد السائدة التي تسجلها المشاهدة وتعززها التجربة في مجتمع معين، وأن التجارب قد دلت أن القانون ليس واحدا ثابتا، ولكنه متغير في الزمان والمكان متأثرا في ذلك بعوامل البيئة المتعددة، ومسايرا لتطورها واختلافها مما يستبعد معه تثبيت نصوصه في تقنين يؤدي إلى جموده.
أولا: أسس المذهب التاريخي: يقوم هذا المذهب على الأسس التالية:
1/ إنكار وجود القانون الطبيعي: فالقانون من صنع الزمن ونتاج التطور التاريخي وليس من وحي مثل عليا.
2/ القانون وليد حاجة الجماعة: فهو وليد البيئة الاجتماعية وحدها، ويتطور حسب ظروف كل مجتمع، ويختلف من دولة لأخرى، بل ويتغير في الدولة نفسها من جيل إلى جيل حسب تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي فالقانون ثمرة التطور التاريخي للجماعة.
3/ القانون يتكون ويتطور آليا: أي أنه ينبعث من جهد جماعي مشترك تسهم فيه الأجيال المتعاقبة في دولة معينة، وبهذا يعتبر العرف هو الشكل الأكمل والأمثل والأصدق للقانون، والحاصل أن القانون يخلق نفسه وأن دور المشرع يقتصر على مجرد تسجيل الضمير الجماعي وتطوره على مر الزمن، ومن مخاطر التقنين وقف التطور التلقائي للقانون.
ثانيا: نقد المذهب التاريخي: تتمثل أهم الانتقادات الموجهة للمذهب التاريخي في ما يلي:
- أنه بالغ في ربط القانون بالجماعة، وأنكر دور العقل الإنساني وقدرته في تكوين القانون.
- أنه بالغ في اعتبار القانون وليد البيئة والظروف الخاصة بكل مجتمع في حين نجد أن كثيرا من الدول قد اقتبست معظم قوانينها كلها أو جزء منها من قوانين دول أخرى.
- أنه يعتبر العرف الشكل الأمثل الذي يصدر به القانون، وأغفل دور التشريع.
- أنه اعتبر أن التقنين يؤدي إلى تجميد القانون وعدم مسايرته للتطور، وهذا قول لا يقوم على أساس صحيح، فقد ثبت تاريخيا أن المشرع لا يتردد في تعديل التقنين كلما دعت مصلحة المجتمع إلى ذلك، كما أن التقنين يوفر للمشتغلين بالقانون الوقت والجهد الكثير، ويؤدي إلى توحيد القانون في مختلف أجزاء الدولة على غرار ما حدث في فرنسا.
الفرع الثاني: مذهب الغاية الاجتماعية
أسس على يد الفقيه الألماني إهرنج الذي يرى أن القانون وسيلة تتخذها الإرادة الإنسانية لتحقيق غاية اجتماعية هي حفظ المجتمع وتحقيق أمنه وتقدمه.
إن تطور القانون حسب إهرنج لا يتم في يسر وسلم بل أن التاريخ حافل بالصراع بين الطبقات المختلفة وبين المصالح المتعارضة في إبقاء القوانين أو في تعديلها بما يخدم هذه المصالح، فتطور القانون مرهون بنتيجة هذا الصراع، وهكذا كان للفقيه إهرنج الفضل في التنبيه إلى أخطاء التاريخ في نظرته إلى تكوين القانون وتطوره، غير أنه انتقد من جانب أن الإرادة الإنسانية ليست الأساس الوحيد الذي يقوم عليه القانون في نشأته وتطوره.