يعتبر علم الاقتصاد من العلوم الحديثة نسبيا، حيث أنه بناءه المعرفي الخاص لم يبدأ في التراكم كعلم مستقل بذاته إلا مع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع بروز الفكر الاقتصادي للمدرسة الكلاسيكية وتزايد الاسهامات التي قدمها علماء الاقتصاد الأوائل أمثال دايفيد ريكاردو صاحب مبدأ الأفضلية النسبية في التجارة الخارجية وألفريد مارشال مؤلف كتاب مبادئ الاقتصاد، وتوماس مالتوس الاقتصادي المتشاؤم صاحب مبدأ السكان والذين انطلقوا في بنيانهم النظري على أفكار المفكر الاقتصادي البريطاني-أب علم الاقتصاد-آدم سميث الذي أسس لعلم الاقتصاد الحديث في كتابه المشهور ثروة الأمم، والذين أسسوا لأول مدرسة فكرية في علم الاقتصاد ترتكز على مبدأ الحرية الاقتصادية للأفراد والشركات وانعزال الدولة عن ممارسة الأنشطة الاقتصادية.

وخلال القرن العشرين تكونت العديد من مدارس الفكر الاقتصادي وبرز إلى الساحة العديد من العلماء المتخصصين في مجال الاقتصاد من أمثال جون مينارد كينز وبول سامويلسون وجوزيف شومبيتر وميلتون فريدمان وزادت المساهمات العلمية لهم وللكثير من الخبراء والأساتذة الجامعيين واندمجت علوم الرياضيات والاحصاء بقوة في هذا المجال المعرفي لتكون بذلك علم الاقتصاد الحديث وتتشعب موضوعاته وتزداد نظرياته عمقا وتعقيدا تماشيا مع تزايد التعقيد في آلة الاقتصاد الحقيقي وتطور النشاط الاقتصادي بجميع أشكاله (انتاج واستهلاك وتوزيع). ويعرف علم الاقتصاد بأنه العلم الذي يدرس السلوك الإنساني في مجالات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع بهدف اشباع الحاجات اللانهائية باستخدام الموارد المحدودة.    

لكن الحقيقة أن الإسلام كان سباقا لتناول الأفكار والمفاهيم الاقتصادية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الحضارة الإنسانية وسابقا بذلك الأفكار الغربية للعلماء السابقين التي قام على أساسها علم الاقتصاد الحديث برغم اختلاف المبادئ التي يتأسس عليها الفكر الاقتصادي الإسلامي مقارنة بالفكر الاقتصادي الوضعي. لقد كان القرآن الكريم أول مصدر لهذه المواضيع الاقتصادية مثل تناوله لقضايا الانفاق والديون والفائدة (الربا) بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي تناولت المزيد من القضايا الاقتصادية مثل تحديد طرق الكسب الحلال (الدخل) والادخار والاحتكار في التجارة. وخلال القرون التي تلت ظهور انتشار رسالة الإسلام، برز العديد من المفكرين والعلماء المسلمين أمثال المقريزي وابن خلدون في العصور الوسطى والمفكر الجزائري الكبير مالك ابن نبي في كتابه المسلم والاقتصاد في القرن العشرين، والذين قدموا بعض المساهمات في مجال الاقتصاد. لكن بقيت هذه المساهمات أتدور في فلك العلم الشرعي (الفقه) ولم تسهم في بناء علم الاقتصاد، ولم تسمح له بالاستقلال كعلم بحد ذاته رغم بروز علم الرياضيات وابتكار الأرقام العربية من طرف العالم المسلم الخوارزمي. فقد كان من الخطأ للمسلمين الأوائل عدم الاهتمام بالفكر الاقتصادي بالشكل الكافي، والصاقه بالفتوى كموضوعات فرعية، برغم أن تواضع النشاط الاقتصادي وعدم تطوره بمنظور النشاط الحالي ساهم في تقليص أهمية الموضوعات الاقتصادية.

وتنقسم النظرية الاقتصادية إلى فرعين رئيسيين تندرج تحتهما جميع الفروع المنتمية لعلم الاقتصاد هي: النظرية الاقتصادية الجزئية (Microeconomics Theory) والتظرية الاقتصادية الكلية (Macroeconomics Theory). تهتم الأولى بالمسائل الاقتصادية الجزئية مثل: كيف يصل المستهلك إلى توازنه، تفضيلات المستهلك، كيف يتحدد سعر سلعة ما، ومتى يصل سوق سلعة معينة إلى وضع التوازن، بينما تركز النظرية الاقتصادية الكلية على المجاميع الاقتصادية الكبرى، أي التركيز على الأداء الاقتصادي الكلي، مثل الاهتمام بمسائل: كيف يتقلب النمو الاقتصادي، ماهي أسباب البطالة العالية في المجتمع، ماهي العوامل التي تحرك التضخم، كيف نصل إلى توازن ميزان المدفوعات، ما أسباب تقلب أسعار الصرف، كيف يمكن أن نفهم أسباب الدورة الاقتصادية وما هي الحلول السريعة والفعالة لها.

إن من المهم بالنسبة لنا كمسلمين أن نسهم بقوة في البناء العلمي والمعرفي لحضارة القرن الحادي والعشرين وًأن نأخذ مكانة مرموقة في مختلف مجالات العلم بعد التأخر الكبير، والارتقاء بعد التخلف عن هذا الركب خلال القرن العشرين الذي تميز في معظمه بانحطاط كبير وتخلف واضح في شتى نواحي الحياة على امتداد الجغرافية الإسلامية. على المستوى الاقتصادي، فقد بدأت بالفعل منذ أواخر القرن الماضي بعض المحاولات لإبراز الفكر الإسلامي في هذا المجال، وتركزت في معظمها في المجال المصرفي من خلال بروز التمويل الإسلامي المختلف كليا عن التمويل المصرفي التقليدي القائم على أساس الفائدة (الربا)، فظهرت في الأسواق المالية ما أصبح يعرف بالبنوك الإسلامية وبرزت قبل ذلك أدوات مالية إسلامية جديدة ومختلفة عن الأدوات المالية القائمة التقليدية تقوم على أسس شرعية مثل: المضاربة والمرابحة والمشاركة والصكوك التمويلية الاسلامية، لكن هذه الاسهامات لا تكفي لإيجاد نظام اقتصادي إسلامي متكامل بإمكانه الحلول مكان الاقتصادي الوضعي الرأسمالي المعقد في بنيانه والسائد في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، لأن التمويل يعد فرعا واحدا من فروع عديدة في علم الاقتصاد الحديث.

تحاول هذه المطبوعة التي تندرج ضمن مادة التحليل الاقتصاد الكلي في الشريعة الإسلامية والتي تعتبر إحدى مساقات تخصص ماستر معاملات مالية معاصرة، الدفعة الأولى 2023-2024، بجامعة المسيلة، إلى توضيح مكانة وأثر الفكر الاقتصادي الإسلامي على الاقتصاد الكلي، من خلال توضيح دور الزكاة والسياسات المالية والنقدية الاسلامية في نماذج الاقتصاد الكلي الحديثة، هذه الأخيرة التي تسعى إلى توضيح كيفية عمل الاقتصاد الكلي وفهم حالات التوازن الاختلال التي تصيب عجلة الاقتصاد بين فترة وأخرى.    


Modifié le: dimanche 26 novembre 2023, 18:15