المحاضرة السابعة:

-    1-مدخل لقراءة إسهامات بيير بورديو حول سوسيولوجيا الفن: محمد بلقايد امايور.2017.        

حققت السوسيولوجيا العامة استقلالا ذاتيا بامتلاكها إشكاليات خاصة (الموضوع) واعتمادها على مناهج وتقنيات خاصة (المنهج)، ومع توالي الاهتمام بالظاهرة الفنية من منطلق سوسيولوجي، بات من البديهي أن يتشكل ميدان سوسيولوجي جديد يعنى بدراسة الظاهرة الفنية، فتشكلت سوسيولوجيا الفن كفرع مستقل ليحرر الظاهرة الفنية من سيطرة علم الجماليات و الفلسفة.
إن الفن شكل من أشكال النشاط الاجتماعي الذي يمتاز بعدم التبات والاستقرار في تمظهراته، فهو يتغير بتغير الأنساق الاجتماعية وعبر التاريخ والممارسة، ودراسة الفن أو التعليق على منتجاته لا يستقيم دون الانطلاق من هذا المعطى الأساسي، وهذا ما حاولت كل التنظيرات والأبحاث السوسيولوجية التي تناولت الظاهرة الفنية الانطلاق منه، فتعدد الأبحاث في هذا الميدان السوسيولوجي لدليل على استقلاليته كفرع معرفي، بل أن هذا الفرع ـ رغم حداثته نسبيا ـ استطاع أن يولد فروعا مستقلة أخرى وبتنا نتحدث عن سوسيولوجيا الأدب ، سوسيولوجيا المسرح ... وكلها منبثقة من سوسيولوجيا الفن .
تعد نظرية الممارسة للسوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو من بين النظريات السوسيولوجية المتكاملة التي يمكن تطبيقها في أي حقل من الحقول الاجتماعية دون صعوبة تذكر، فالجهاز المفاهيمي الذي صاغه والبرديغمات التي تتأسس عليها، تسمح بنقلها إلى مختلف الميادين السوسيولوجية بمرونة منقطعة النظير.
وقد كان لبيير بورديو إلى جانب صياغته لتصور نظري متماسك، إسهامات في ميدان البحث السوسيولوجي، ليوفق بذلك بين النظرية والتطبيق الفعلي لتصوراته. وهو من القلائل الذين تناولوا مختلف الميادين تقريبا: فمن التعليم والسلطة واللغة و النوع الاجتماعي.... وصولا إلى سوسيولوجيا الحياة اليومية ( بؤس العالم في ثلاثة أجزاء )، لم يستثني سوسيولوجيا الثقافة والفن وخصها بإصدارات متعددة ( حب الفن ؛ التمايز ؛ قواعد الفن؛ فن وسيط ...) ليخلف إنتاجا غزيرا مازالت الأبحاث تتناوله بالدراسة والتحليل والنقد إلى اليوم.
1-نظرية الممارسة لبيير بورديو.
يرتكز مفهوم الممارسة عند بورديو على علاقة الأعوان بالبناء الاجتماعي، وهى العلاقة التي تنتهي بأن يقوموا بإعادة إنتاج هذا البناء، ولا يستبعد بورديو قدرة الأعوان على تحويله وتغييره (البناء)، ولكن يستلزم دلك توافر شروط. ويعنى بورديو بالممارسة ذلك الفعل الاجتماعي الذي بواسطته يقوم الأعوان بالمشاركة في إنتاج البناء الاجتماعي، وليس مجرد أداء أدوار بداخله. ويقول بورديو: « على الرغم من أن الفاعلين نتاج البنية، إلا أنهم صنعوا ويصنعون البنية باستمرار. فعملية إعادة إنتاج البنية هذه، بعيدا عن كونها نتاج صيرورة آلية، لا تتحقق بدون تعاون الفاعلين الذين ادمجوا ضرورة البنية في شكل هابيتوس، حيث ينتجون، ويعيدون الإنتاج، سواء كانوا واعين بتعاونهم أم لا». هكذا إذن، يتحدد إنتاج الممارسات عند بورديو على الوضع الذي يحتله العون في الفضاء الاجتماعي وأيضا في الحقل الذي تتم فيه هذه الممارسات، ويعبر عن ذلك على النحو التالي:
الممارسة = (الهابيتوس × رأس المال) + الحقل.
- المفاهيم المؤطرة للنظرية:
الهابيتوس، الحقل، والرأسمال الثقافي والرأسمال الاجتماعي، من المفاهيم المركزية في نظرية الممارسة لبيير بورديو ، وتنضاف لها مفاهيم أخرى لا تقل أهمية : العنف الرمزي، الإستراتيجية، الهيمنة... وقبل الخوض في تقديمها لابد من الإشارة أنها مرتبط فيما بينها أشد الارتباط، ولا يمكن الحديث عن أحدهـا دون استحضار الآخـر، وهـذا الترتيب الـذي وضعناه لا يعـكس تـراتبيتــها إطـلاقـا.
 الهابيتوس
Habitus :
نسق الاستعدادات المكتسبة ومخططات الإدراك والتقييم والفعل التي غرسها المحيط الاجتماعي في الفرد، لتشتغـل كمبادئ مُولِّدة وكتنظيم للممارسات والتمثـلات التي تستطيع أن تكيـف هدفـها موضوعيا من دون افتـراض مقصـد واع للغايـات.

 فالهابيتـوس بهذا المعنى يولـد سلوكيـات مكيفـة مع منطـق الحقـل الاجتماعي المعني، فهو منقوش في الأجساد والحـركات واللغـة.. الـخ، فالفاعلـون يحـددون اختياراتهم تلقائيا بفعـل الهابيتوس الخاص بهـم دون أن يحتسبوا لتلك الإكراهات التي تتقـل قـراراتهم، ونتيجة لأقلمة التكيـف، يسمـح لنـا الهابيتوس بالتطـور مع الطبيعـي (الطبيعي المكتسب) فـي حقـل من الحقـول دون أن نكـون مرغمين على التفكيـر في كـل حركاتنا وأفعالنا، وهـو بذلك يُسـوغ لنا ملامـح الحيـاة الاجتماعية بحيث يجعلها طبيعية ومسلمات بناهـا المجتمع فعـلا لتصيـر شرعية.
ينظر بورديو إلى الهابيتوس من خلال ثلاث مستويات:
1- هابيتوس الفرد. / 2- هابيتوس الجماعة المحيطة. / 3- هابيتوس الحقل.
ويمنح الهابيتوس هامش من الحرية للأعـوان عن طريق إدماج الإكراهات في حقل معين، فالموسيقي [مثلا] لا يستطيع تأليف قطعة موسيقية إلا إذا أدمج أنظمة عملية ومعايير يصنع بها تشكيلات تم يدرس التأليف الموسيقي[ والهابيتوس أيضا] يـؤدي إلى تنظيم التفاعلات ضمن الحقـــل بأسلوب قابـل للمشاهَـدة [...] وهــذا قطعا لا يؤثــر على الفـرد فحسب بل على كافـة الأشخاص المتفاعلين معه.
إذن، الهابيتوس مُـولد استراتيجيات تمكــن الأعــوان من الانسجام مع المواقــف غير المتوقعة والدائمة التحول، فهــو يعمل غالبا بشكل لا إرادي يدمج الخبرات السابقة ويتيح للفرد إمكانية انجاز مهام متنوعة، ويتشكل من خلال التنشئة الاجتماعية بمختلف مستوياتها، ليتحول إلى مخزون يستعمله الفرد أثناء الممارسات المتعددة في حقل ما، ويختلف حسب الحقــول، فلكـل حقــل الهابيتـوس الخاص به، وهو مجموعة من المهارات والأساليب التي يجب يشكلها الفرد بشكل مستمر...
: الحقــــل
Champ
يتجزأ العالم الاجتماعي إلى عدد من العوالم الصغرى، يملك كل واحد منها رهانات ومصالح ومنافع مختلفة، هذه الأقسام هي ما نطلق عليه حقولا (الحقل الفني، الحقل العلمي، الحقل الرياضي، الحقل الديني..)، وهي مستقلة «نسبيا»، بمعنى أنها حرة في إقامة قواعدها الخاصة ومستقلة عن نفوذ التبعية لغيرها من الحقول الاجتماعية. يتميز كل حقل برأسماله الخاص وهيكل من المراتب والمكانات المتدرجة هرميا، تعبر عن مستويات القوة داخل الحقل، وتحدد مسار التنافس بين الأعوان الذين يحاولون الحصول على اكبر رصيد ممكن من الرأسمال النوعي الخاص بالحقل، ومن ثمة الحصول على مكانة رفيعة أو مرتبة مرموقة.
إن الحقل هو الفضاء الذي تتم فيه عمليات إنتاج وتوزيع واستهلاك واستثمار مختلف أشكال الموارد، أي أن الحقل ميدان للتنافس بين الأعوان بغية الحصول على مختلف الثروات الرمزية التي تتحدد في شكل رساميل نوعية، فالتنافس أو الصراع ( في صيغة رمزية ) يحتدم بين القادمين الجدد إلى الحقل أو الدين يحاولون حيازة مركز أو مرتبة من جهة، ومن جهة ثانية، مع القدامى أو الذين يحاولون الدفاع عن مكتسباتهم كاحتكار مركز أو موقع داخل الحقل، وعليه فلا يمكن فهم بنية الحقل إلا من خلال الكشف عن حالة علاقات القوة بين الفاعلين.
تولد المنافسة تلقائيا بين الأعوان في الحقل، بحكم أن بنية توزيع مختلف أنواع الرأسمال غير متساوية، وبالتالي تتشكل استعدادات مختلفة للأعوان، إما قصد حيازة مواقع ناذرة أو الحفاظ على هذه المواقع، دون نسيان أن الأعوان يمكن لهم أن ينخرطوا ضمن استراتيجيات الاتفاق، حول ما يمكن الصراع حوله أو ما هو متروك إلى المسلم به. إن قبول الأعوان داخل الحقل وداخل اللعب، يتأسس على استدماج معاييــر يتـم وضعها داخل الحقل على شكل هابيتوس خاص بهذا الحقـل، هذه المعايير هي رهانات وأهداف الحقل وغاياته، بمعنى أوسع كل، أشكال الرأسمال الذي يتم التنافس عليها في الحقل، فلا تدرك منفعة من منافع الحقل بصفتها ملائمة وحيوية إلا من لدن الفاعلين [..] بواسطة هابيتوس يستتبع المعرفة والاعتراف بالقوانين الباطنية للعب وللرهانات.
: الرأسمال الثقافي
Capital culturel
يتكون الرأسمال الثقافي من مجموعة من الثروات الرمزية التي تحيل من جهة على المعارف المكتسبة، ومن جهة أخرى على الانجازات المادية، فالخيرات الرمزية التي تشير إلى المعارف المكتسبة، يتم اكتسابها أساسا عن طريق الأسرة والمدرسة و.. كأنماط التفكير والاستعدادات، أما الانجازات المادية فهي تلك المتعلقة بالثروات الثقافية كاللوحات الفنية والكتب..الخ، أي كل المنجزات الثقافية بشكل عام، ويتميز الرأسمال الثقافي بكونه لا يكتسب ولا يورث دون جهود شخصية، فهو يتطلب عملا مستمرا من قبل العون، يكون معززا بالتعلم والتثاقف ويستدعي كذلك توفر الوسائل المادية، والمالية، وبهذا المعنى يرتبط ارتباطا متبادلا بالرأسمال الاقتصادي.
يتميز كل حقل من الحقول برأسمال نوعي خاص به، ويقسم بورديو الرساميل إلى أربعة أنواع: الرأسمال الثقافي، والرأسمال الاجتماعي، والرأسمال الرمزي، والرأسمال الاقتصادي، ويتميز الرأسمال بخاصية تكمن في قابليته للاستثمار والتوظيف للحصول على رأسمال نوعي آخر، ورصيد الفرد من الرأسمال الذي يحوزه هو الذي يحدد مكانته داخل حقل من الحقول، ففي الحقل المسرحي مثلا يحتل النقاد والمخرجون أعلى قمة الهرم بينما يحتل التقنيون والممثلون مرتبة أقل.
: الرأسمال لاجتماعي
Capital social
هو مجموع الصلات التي يعقدها الفرد داخل الشبكة الاجتماعية ومجموع الاتصالات والعلاقات والمعارف والصداقات التي تعطي للفرد سماكة اجتماعية، فالرأسمال الاجتماعي بهذا المعنى هو كل الموارد المترتبة عن حيازة شبكة مستمرة من العلاقات والصلات مُمأسَسة ومعارف متداخلة ومتشابكة، أي الانتماء إلى جماعة كمجموع فاعلين  موحـدين بروابط دائمة ونافعة.
إن شبكة العلاقات هي نتاج استراتيجيات يهدف من خلالها الفرد إلى دعم وصون وتنشيط روابط مختلفة قصد جلب المنفعة المادية أو الرمزية، وتتحقق هذه المنفعة من خلال مجموعة من الإجراءات المؤسسة كالسهرات والحفلات والمهرجانات..الخ، أي كل المناسبات التي يستثمرها الفرد لحيازة رصيد من الرأسمال الاجتماعي.
• سوسيولوجيا الثقافة والفن عند بيير بورديو:
السوسيولوجي هو الذي يفسد على الناس حفلاتهم التنكرية، هكذا عرف بيير بورديو في إحدى مقولاته المشهورة مهنة السوسيولوجي، لذلك سميت ممارسته للسوسيولوجيا بسوسيولوجيا الفضح، أي الخلخلة والهدم لكل الأفكار المسبقة ولكل المسلمات التي بناها الحس المشترك عبر تاريخ طويل من الممارسة داخل الحقول الاجتماعية؛ الحقل الفني لم يكن بمعـزل عن سوسيولوجية الكشف التي تبناها بورديو في كل أبحاثه، فالكشف عن الهيمنة والكشف عن آليات الصراع وعن استراتيجيات الأعـوان في الحقل الفني، وعن مكنزمات تشكل الذوق في الحياة الاجتماعية، وعن إعادة الإنتاج التي تمارسها الفئات المهيمنة، هي ما سعى بورديو لتحقيقه وهو يُنظر لسوسيولوجيا الظاهرة الفنية وتطبقيها كذلك في البحوث التي انجازها، خاصة بحثه المتميز حول زيارة المتاحف الأوروبية، والذي شكل لحظة فارقة في مسار تشكل سوسيولوجيا الفن.
كما سبق أن اشرنا في التقديم أن نظرية الممارسة التي صاغها بيير بورديو تتسم بالمرونة عند تطبيقها في كل الحقول الاجتماعية، وقد استغل بورديو هذا المعطى عند إنجازه لبحوث حول الظاهرة الفنية ( قواعد الفن، حب الفن ...) حيث وقف مرارا عند أهم المفاهيم والتصورات التي تتأسس عليه نظريته، معدلا ومكيفا وشارحا بعض أوجه اللبس والغموض. أقول هذا لأؤكد أن داخل كل الكتب والإصدارات التي ألفها بيير بورديو نجد فيها حضورا لسوسيولوجيا الثقافة والفن، فمثلا في كتاب إعادة الإنتاج الذي خصه ( إلى جانب باسرون) لسوسيولوجيا التربية، نجد حضورا قويا للمفاهيم التي يوظفها كذلك في الثقافة والفن، ونفس الشيء في كتابة الهيمنة الذكورية، وهذا ما يسري على كل إصداراته تقريبا. فالدارس الغير المدرك لهذا المعطى سيكتفي فقط وهو يبحث عن موضوع الفن من وجهة نظر بورديو، بقراءة الكتب التي تحتوى فقط على كلمة مفتاحية: الفن وهذا ما لن يمنحه تمثلا وإحاطة شاملة بسوسيولوجيا الفن عند بورديو.
لا يفوتني التأكيد أيضا أن الثقافة كمفهوم متعدد المعاني سيشكل مزيدا من الغموض على القارئ الغير المتخصص عند إطلاعه على الإنتاج العلمي لبيير بورديو، فهذا الأخير ينطلق من المفهوم الفرنسي للثقافة الذي يعني الفن والتعليم والعلم وكل أشكال الإنتاج الفكري.
باختصار فان مساهمة بورديو في السوسيولوجيا - و كل فروع علم الاجتماع التي ساهم فيها بما فيها ميدان سوسيولوجيا الفن- تتمفصل حول فكرتين متكررتين:
1ـ الكشف عن آليات الهيمنة والتحكم.
2ـ منطق ممارسة الأعوان في فضاء غير متساو وصراعي.
- بورديو ضد كانط:
تصور كانط:
نختصر تصور كانط في ثلاث نقط اساسية:
- يعتقد أن تقدير العمل الفني يكون على مستوى الشكل وليس الوظيفة.
- يعتبر العمل الفني موضوع للجمال بحد ذاته ولذاته.
- يبرز عمومية الذوق الفني.
رد بورديو :
بين أن :
- الطبقات الاجتماعية المهيمنة في المجتمع هي التي تنزه الفن عن تأدية أية وظيفة، لأنها تبتعد عن الحاجة وتسعى لتحقيق الرفاه الإجتماعي.
- كانت الأنظمة الإقطاعية في السابق تمنح للسلالة والنبالة أهمية كبرى كصفات مميزة لتضفي علي هيمنتها الشرعية، وتحولت هذه الصفات مع مرور الوقت إلى رساميل رمزية أخرى : الثقافة والفن والذوق والجمال.
ـ ان ما سمي بالثقافة الرفيعة ليست سوى ثقافة البرجوازية والتي تحولت مع مرور الوقت إلى ثقافة شرعية .
ـ كل الاختيارات بما فيها الاختيارات الجمالية من ذوق ونمط الكلام والسلوك الذي سميت رفيعة، تتأسس على ما تعيشه البرجوازية من رفاه، وتقدمه إلينا كنموذج يجب الإحتداء به، وتؤكد من خلاله أنها متفوقة ثقافيا ومعرفيا وعقليا ( إعادة الإنتاج ).
- تكمن عدم موضوعية التصور الكانطي في طرحه منظور الطبقة المهيمنة كي يكون نموذجا كونيا للذوق الجمالي

Modifié le: jeudi 15 octobre 2020, 10:57