المحاضرة الثامنة:
-   1-تصور بورديو لقراءة وتحليل العمل الفني:مرجع سابق.
إن تحليل الأعمال الفنية يتخذ موضوعا بإقامة العلاقة بين بنيتين متماثلتين : بنية الأعمال ( النوع، الشكل، الأسلوب، الموضوع...) وبنية الحقل الفني كحقل للقوى الذي لا ينفصل عن حقل الصراعات، فمحرك تغيير الأعمال الثقافية  يكمن في الصراعات التي تُكون حقل الإنتاج  هذه الصراعات تهدف إلى حفظ أو تغيير ميزان القوى الموجود في حقل الإنتاج ، وتؤدي إلى حفظ أو تغيير بنية حقل الأشكال التي هي أدوات ورهانات هذه الصراعات فعبر اتخاذ المواقف من طرف الأعوان، سواء كانت أخلاقية، أو سياسية،أو متعلقة بالأسلوب، أو بالشكل، تظهر استراتيجياتهم للحصول على مزيد من الرساميل المتنافس عليها، ومنه يحاولون تحقيق تميزهم في الحقل، ويرتبط تحقيق هذه الأهداف بمدى إدماجهم للمعايير والقوانين وقواعد التنافس في الهابيتوس الخاص بهم .
يلخص بيير بورديو تناوله لهذا الموضوع بقوله: كل مؤلف باعتباره يشغل وضعا في مجال  لا يستمر بالعيش إلا تحث عبء الإلزام الهيكلية للحقل  و باتخاذ مواقف جمالية آنيا و مستقبلا في مجال الممكنات، أي أن بدخوله إلى اللعبة الدائرة في الحقل الفني يقبل ضمنيا الأعباء والإمكانات الكامنة في الحقل، تلك التي تقدم له كأشياء ينبغي عملها، أو أشكال ينبغي خلقها، أو طرق ينبغي اختراعها.
كي نفهم على سبيل المثال اختيارات المخرجين المسرحيين المعاصرين، لا يمكن أن نكتفي بردها إلى الشروط الاقتصادية، إلى الدعم المدفوع وحصيلة بيع التذاكر ولا حتى لرغبات الجمهور، ينبغي الرجوع إلى تاريخ الإخراج المسرحي منذ 1880، الذي ثم خلاله تكوين الإشكالية الخاصة مرجعا لمواضيع النقاش ولمجموعة العناصر المكونة للعرض المسرحي التي ينبغي على كل مخرج جدير بهذا الاسم أن يتخذ إزاءها موقفا.
ينقسم الحقل الفني بين ثلاث فئات رئيسية،
الفئة الأولى :
- تحتل ريادة الحقل و أفرادها هم الذين يمتلكون رساميل نوعية أكثر، يهيمنون على الحقل ويجعلون تصورهم للفن هو الرفيع ، يحاولون المحافظة على الامتيازات التي يمنحها لهم هذا الموقع، ويفرضون قواعد اللعب الخاصة بالتنافس حول الرساميل.
الفئة الثانية :
- يمتلك أعضاؤها رساميل اقل بالمقارنة مع النوع الأول، لكنهم يتمثلون ( نسبيا) رهانات الحقل.
- يبدون شراسة في الصراع والتنافس حول الرساميل التي يوفرها الحقل.
- يهددون باستمرار الفئة الأولى.
- ينتهي بهم التنافس إما إلى الخروج عن تصورات الصنف الأول حين يخلقون أشكال جديدة تتجاوز تقاليد من يسيطرون على الحقل، أو يتنازلون حين ينخرطون في توجه الفئة الأولى و يتبنون تصوراتها.
الفئة الثالثة :
فئة لم تتشكل بعد لديها رهانات، وتكتفي بمحاكاة النماذج التي تدافع عنها الفئة الأولى ( أو بدرجة أقل الثانية)، وحين تنخرط في الصراع حول الرساميل تكون مرغمة على أخد موقع، وغالبا ما تنخرط إلى جانب الفئة الأولى .
يتشكل لدينا إذن، حقل مقدمته معدودة عدديا (النخبة)، وكذلك وسط الحقل الذي تقل أعداده وهم الدين يشكلون نخبا مضادة للنخبة الأولى، والتي تكون موالية لكل أشكال المحافظة، بينما تكون أعداد الفئة الثالثة كبيرة إلا أنها لا تشكل أي تأثير لتغيير بنية الحقل، وتنحو في الغالب إلى إعادة إنتاج هيمنة الفئة الأولى .
-   2-معايير تقييم العمل الفني:
تختلف معايير تقييم المتلقين للفن باختلاف المواقع التي يحتلونها في الفضاء الاجتماعي، فقد أتبت الدراسات السوسيولوجية ( بيير بورديو وغيره) التي أنجزت في هذا الموضوع، أن الخيارات الجمالية ليست مجرد خيارات شخصية، بل تقوم على الانتماء الاجتماعي لأنها محكومة أساسا بنزعة التفاخر والسعي وراء سلوك متميز اجتماعيا، فنجد أن إطلاق نعت جيد أو رديء على عمل فني معين، ومنه تقبله أو رفضه، يرتبط مع مكانة الفرد داخل المجتمع، لأن القيمة الفنية لا تقتصر في أعين المشاهدين، بل في الخصائص الاجتماعية لأنماط الجمهور المختلفة. وحين نجد متلقيا يطلق صفة رديء أو جيد أو كل الأحكام التي لها علاقة بالقيمة، فذلك لا ينطلق من الأعمال الفنية بل يتأثر بالمركز الاجتماعي للمتلقي.
إن التعرف على القيمة التي يُصبِغ بها المتلقي عملا فنيا، سيحيلنا على الفئة الاجتماعية التي يعيش ضمنها، واختلاف المراكز الاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى الاختلاف حول قيمة العمل الفني، لأن المقولات اللصيقة بادراك العمل الفني وتقييمه[..] تتميز اجتماعيا بالموقع الاجتماعي للذين يستعملونها.
تعرض مفهوم القيمة الجمالة بفضل سوسيولوجيا الكشف إلى الخلخلة وازدادت مع الوضع صعوبة تحديد أو اعتماد لمعايير موضوعية لتقيم الأعمال الفنية أو الدفاع عنها، فقد بات المدافعون التقليديون عن الخاصية الجمالية في موضع لا يحسدون عليه في الأوساط الفنية ذاتها، لسياساتهم وممارساتهم المنحازة. ويحتل السؤال الخاص بماهية القيمة الجمالية موقعا مركزيا في هذا السجال  ما يوحي بزعزعة الثقة في الأجوبة التي كانت تقدم فيما قبل  فلم يعد من السهل التمسك بآراء لا تقبل المناقشة، عن الفن الجيد الذي نتعرف عليه فور مشاهدته، أو على من هم القادرون على التعرف على هذا الفن الجيد.
واستمرارا لإستراتيجية الكشف والخلخلة، أعادت السوسيولوجيا تعريف الفن والفنان، ولم يعد الفن مقتصرا على ذلك الذي ينتج للبلاط والنخب المهيمنة، أو ما يطلق عليه «الثقافة العالمة»، بل إنها (السوسيولوجيا) قد أعادت الاعتبار للتعبيرات الفنية التي سمية شعبية أو فلكلورية ، وفتحت المجال أمام هذه الأشكال الثقافية لتدخل بدورها معاهد البحث والمعاهد الفنية؛ وأرغمت الأوساط الأكاديمية على إعادة النظر في تعريف الفن تعريفا يتلاءم وطبيعة التنوع الثقافي، دون إطلاق أحكام قيمة كرستها النخب المسيطرة على كل الميادين.
على مر التاريخ لم يسلم الفن والفنان من الإقصاء والتهميش ـ وما يزال ـ والسبب في ذلك ببساطة هو منطق الهيمنة الذي تفرضه المؤسسات الرسمية/الشرعية التي اكتسبت صفة الرسمية والشرعية بموقعها في مواقع تسمح لها بتحديد المعايير التي تتناسب مع طبيعة وضعها الاجتماعي. فالمعيار العرقي والأخلاقي والديني والثقافي والاجتماعي وحتى منطق خاص بالنوع الاجتماعي مازالت حاضرة كمعايير لتقييم الأعمال، رغم أن المعرفة العلمية وصلت مرتبة مهمة.
* نموذج للتمييز الاجتماعي في الحقل الفني:
° اسم اللوحة :
Portrait de Mlle Charlotte du Val d’Ognes
° اسم الفنانة :
CONSTANCE-MARIE-CHARPENTIER
( 1774 – 1821)
° مكان العرض:
متحف ميتروبوليتان بنيويورك (1800)
هذه اللوحة التي رسمتها الفنانة الفرنسية كونستانس وقعتها باسم ديفيد وعُرضت في متحف مترولوبونتان بنيويورك سنة 1800 ( بعض المصادر الأخرى تؤرخ لهذا الحدث في سنة 1801)؛ اللوحة قُيمت في البداية كلوحة متميزة وارتفع ثمنها الذي بدأ من: 1500 فرنك فرنسي، إلا أن بمجرد تسريب أن الرسام لم يكن رجلا ( ديفيد ) ، بل كانت سيدة اسمها كونستانس ، انخفضت قيمة اللوحة ولم تعد تساوي شيء !


Modifié le: jeudi 15 octobre 2020, 10:58