المحاضرة التاسعة:
-   1 الشروط الاجتماعية لاستقلال الحقل الفني:
إن الفن منذ أن عرفه الانسان ( ما نقلته لنا الدراسات الإتنوغرافيا والأنتروبولوجية )، كان يمارسه ضمن طقوس مرتبط بالممارسة الاجتماعية، فالرقص كأول تعبير فني عرفه الإنسان كان بهدف إما طرد «الأروح الشريرة» أو كطقس للتقرب من الآلهة أثناء تقديم القرابين أو أثناء الاحتفال بغزارة الصيد أو بالمواسم الفلاحية المثمرة ( في المجتمعات الزراعية )...الخ. ما ينطبق على الرقص ينطبق على كل التعبيرات الفنية، سواء كانت شعرا أو نثرا أو حتى رسما. كان الهدف دائما توظيف هذا الفن ليقوم بوظيفة ما، سواء كانت وظيفة دينية أو اجتماعية، فالإنسان كما يقول كلود ليفي ستراوس شكل الرموز بنفسه ولنفسه، والفنون قادرة على حمل هذه الرموز والتواصل بها بين الأفراد والأجيال والجماعات.
ويقتبس لنا جون دوفينيو قولا عن المسرحي أرتور ميلر
Arthur Miller يؤكد فيه انه ينظر إلى الجمهور كجماعة كل عضو فيها يحمل في نفسه ما يظن انه قلقه وأمله أو همه الشخصي الذي يعزله عن سائر الناس. وان وظيفة المسرح هي أن تكشف له عن نفسه حتى يستطيع الاتصال بدوره بالناس الآخرين ويبين لهم أنهم جميعا متآزرون.
إذن هذا الذي يسميه أرتور ميلر تآزرا أو ما يسميه جون دوفينيو ـ في موضع آخر ـ لحمة جمعية هو الذي يسعى الأفراد والجماعات لتحقيقه بواسطة ما نسميه اليوم فنا.
ومع مرور الأزمنة، وتغير البنيات الاجتماعية وتكون مجتمعات صناعية وانتقال الإنسان بين مراحل أوكست كونت الثلاث (الميتافيزيقية – اللاهوتية – الوضعية)، كانت كل البنيات الاجتماعية تخضع للتغير المستمر في الأنساق والوظائف؛ وهذا ما سيؤدي إلى تغيير تمثلات الأفراد ( لو استعملنا مصطلح ماكس فيبر) للظواهر والمؤسسات والبنيات الاجتماعية، وسيعيدون إنتاجها وفق الوظيفة الجديدة التي تؤديها. وتمثل الظاهرة الفنية لم يخرج عن هذا الإطار وباتت المفاهيم الجديدة تظهر ( الفن، الفنان، ...).
يؤكد بورديو على أن الفن كان في السابق يرتبط بالوظيفة التي يؤديها ( خاصة الدين والطقوس)، وان الظروف التاريخية هي التي ساهمت في نشأة الحقل الفني مستقلا، وساعده على ذلك ظهور فئات تمتلك من المنافع المادية ما يكفي لتبتعد عن الحاجة، و لتحقيق هيمنتها وتميزها في الفضاء الاجتماعي لجأت إلى الفن والثقافة، من اجل اكتساب رساميل غير متوفرة لكافة الشعب، وأعادت تعريف الفن بشكل يتلاءم وموقعها الريادي (مقولة الفن للفن ) و أقصت في المقابل كل التعبيرات الفنية التي سميت دونية أو وحشية أو بدائية (الثقافة الشعبية ) أو غير ذلك من التوصيفات (الفلكلور..).
*مثال على استقلال الحقل الفني:
1- نافورة (1917)
للفنان مارسيل دوشون( 1968- 1887)
2- تحية الملوك الحكماء ( 1488)
للفنان دوينيك جيرلاندايو (1449- 1494)
العمل الفني الأول للفرنسي مارسيل دوشون
Marcel Duchmp الذي سماه نافورة وهو في الأصل مِبْوَلَة urinoir ، موجودة بكثرة ( مصنوعة من قبل مصانع ) وتؤذي وظيفة ( التبول )، استطاع أن يخلق بهذا الاختيار سجالا قويا في الأوساط الفنية، وتوزعوا بين من يسحب صفة الإبداعية من هذا العمل ومن يدافع عن اختيار دوشان، من منطلق أن اختيار الفنان الفرنسي لا يتعلق بإبداع المنحوتة ( هكذا سماها دوشون ) بل يتعلق في اختياره لمادة موجودة تؤدي وظيفة في الحياة الاجتماعية قبل أن يمنحها تصورا آخر وجردها من وظيفتها الأصلية، ويعد مارسيل دوشان من خلال هذا العمل ـ والأعمال التي تلتها ـ رائد الفن الإدراكي Art conceptuel .
العمل الفني الثاني هو لوحة تحية الملوك الحكماء ، للفنان الفلورنسي ( من فلورنسا إيطاليا حاليا) دومينيك جيرلاندايو
Domenico Ghirlandaio استوحاها من الكتاب المقدس، بطلب من إحدى كنائس فلورانسا، ولم يكن مفهوم الفن موجودا آنذاك في عصر النهضة، و هذه اللوحة لم تكن تمثل الفن إلا بعد ظهور هذا المفهوم، بل كانت وظيفتها تزين الكنيسة وتقريب الحدث الديني من المريدين، أي وظيفة دينية اجتماعية صرفة.
يستشهد بيير بورديو مرارا وتكرارا بهذين المثالين ليؤكد أن ما يسمى الآن فنا كان في السابق يؤدي وظائف في الحقل الديني، وبالتالي لم يكن الحقل الفني متشكلا في مرحلة جيرلاندايو، لذلك لم ينظر إلى الأعمال من هذا النوع كفن لذاته إلا بعد ذلك؛ أما مارسيل دوشان فقد ساهم باختياره ذلك ليس في استقلال الحقل الفني فقط ، بل إلى الدفع به ( الحقل الفني) إلى درجة متقدمة من النقد الذاتي.
يطرح بورديو في كتابه الرمز والسلطة سؤالا جوهريا بقوله : من الذي في صالحه أن يقوم علم مستقل بالميدان الاجتماعي ؟ ونعيد طرح هذا السؤال لنقول : من الذي سيستفيد من قيام علم اجتماع مستقل يدرس الواقعة الاجتماعية في مختلف مظاهرها بما فيها الظاهرة الفنية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا العرض ؟
يجيبنا بورديو بقوله : على كل حال، ليس أولئك المعدمين علميا: بما أنهم يميلون إلى أن يلتمسو ارتباطهم مع القوى الخارجية أو الثأر من الضغوط والمراقبات التي تتولد عن المنافسة الداخلية، فباستطاعتهم أن يكتفوا بالفضح السياسي ويستعيضوا به عن النقد العلمي، ولكن ليس أيضا الذين يتمتعون بسلطان دنيوي أو ديني لأن علم الاجتماع إذا قام بالفعل في استقلاله الذاتي لن يكون إلا اكبر منافسيهم.


Modifié le: jeudi 15 octobre 2020, 10:58