Topic outline

  • Topic 1

    مقدمة:

    نظام الأسرة نظام فطري اعتنت به الأديان والمجتمعات البشرية والقوانين على مر العصور على تفاوت في الخلفيات الثقافية والدينية والاجتماعية والعلمية والفلسفية.

    وكثيرا ما يتعرض هذا النظام إلى تأثير التغيرات الاجتماعية والمعرفية والثقافية، وهذا المقرر نخصصه لتداعيات التقنيات الطبية المعاصرة على الأسرة وأحكامها ونظامها وبالخصوص قضايا النسب وأحكامه. 

    فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين فتوحات علمية وتقنية في مجال طب وبيولوجيا الإنسان غير مسبوقة، تثير الدهشة والإعجاب من جهة، وتقدم خدمات للإنسان من جهة ثانية ، لكنها صادمة ومرعبة ومسقطة للمسلمات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية وحتى العلمية من جهة أخرى.

    ولا يزال يشهد هذا العصر الذي نعيش حلقات الصراع بين العلم المادي البحت النابع أصلا من الحضارات الغربية وبين ضوابط التشريع الإسلامية النابعة أساسا من الوحي الإلهي الذي لا شك فيه.

    لقد استعمل الأطباء في الغرب في سعيهم للقضاء على آثار الأمراض وسائل نرى في بعضها تحديا للطبيعة التي جبل الله الإنسان عليها، ومن ذلك على سبيل المثال: مسألة نقل الأعضاء الآدمية بين الأحياء، سواء بالتبرع أو البيع، ومسألة استخدام أرحام النساء الأجنبيات في عمليات التلقيح الصناعي، وجراحة التجميل بأنواعها وما نسمع عنه من إجراء عمليات غريبة مثل تحويل الرجل إلى أنثى وتحويل المرأة إلى ذكر، وغيرها كثير.

    ولذلك وجب لتناول هذه القضايا الشائكة بالدراسة والفحص والبيان أن تلتقي الأديان وفي مقدمتها الشريعة الإسلامية بنصوصها وأصولها ومقاصدها ومدارسها الفقهية مع القوانين بعناوينها ومبادئها ونصوصها واجتهاداتها القضائية مع الطب وتقنياته وكشوفه وأخلاقياته لتستقيم النظرة وتتحقق المصلحة وتدرأ المفسدة ، ويستفيد الإنسان من التقنية الحديثة دون أن تمس كرامته أو يهدم بناء أسرته واجتماعه. 

    ومن المهم هنا أن نشير إلى المنظومات التي ينبغي للطالب أن يحيط بأهم أساسياتها ليسهل عليه الوصول إلى تصور شامل لهذه القضايا وليحدث المقارنة اللازمة لدراستها وهي بالخصوص:

    - فقه الشريعة الإسلامية المتعلق بالأسرة والزواج وآثاره والنسب وأحكامه باعتباره أهم آثار عقد الزواج، وباعتباره كذلك الأكثر عرضة لتداعيات التقنيات الطبية الحديثة.

    - مقاصد الشريعة الإسلامية، فإن القضايا والنوازل العلمية والطبية المعاصرة تحتاج هذا العلم كحاجتها لأحكام القرآن والسنة وفقه الأسرة والزواج والنسب، بل إن النصوص والفقه الموروث قد لا يسعفان بشكل كاف لبيان أحكام النوازل العلمية الجديدة كما تفعل مقاصد الشريعة الإسلامية التي اعتنى بها الأصوليون وأرباب النظر والتحقيق.

    - قانون الأسرة الجزائري وما اشتمل عليه من نصوص منظمة للأسرة وأحكامها، والمباديء القانونية العامة الناظمة للأسرة، والاجتهاد القضائي في الأحوال الشخصية.

    - الأخلاقيات العلمية والتكنوولوجية وبالخصوص الأخلاقيات الطبية Medical ethics

    ومن المواضيع الطبية الشائكة والمثيرة للجدل والصادمة أحيانا اخترنا مجموعة من الموضوعات لا على سبيل الحصر، بل لأهميتها وفشو تأثيرها على نظام الأسرة وما أحدثته من جدل إنساني وديني، ولكونها دالة على غيرها من الموضوعات ومنها :

    الاستنساخ والبصمة الوراثية وكراء الأرحام والتلقيح الاصطناعي ...

    وارتأينا إضافة موضوع ثقافي فكري اجتماعي فلسفي له ارتباطات وثيقة بالنقاشات الدائرة شرقا وغربا حول نظام الأسرة والمرأة والأمومة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة بوجه أخص، ألا وهو الجندر وتداعياته، هذا المصطلح الغامض المثير الذي اخترق الآفاق شرقا وغربا وأصبح له سلطانه وتداعياته على الأسرة والخصوصيات الدينية والثقافية، ونتناول بالتبعية لهذا الموضوع اتفاقية سيداو وأهم مؤتمرات المرأة والأسرة والطفولة وخلفياتها وتداعياتها.

    والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

    ملاحظة: المصطلحات الواردة في المقرر بالعربية والأنجليزية

  • Topic 2

    الاستنساخ البشري وتداعياته

    1ـ التعريف:

    الاستنساخ في اللغة مصدر للفعل استنسخ، أي طلب نسخة منكتاب ونحوه مطابقة للأصل تماما، ومنه قوله تعالى "إنّا كنّا نستنسخُ ما كنتم تعملون" الجاثية 29.

    جاء في لسان العرب لابن منظور: معناه نستنسخ ما تكتبه الحفظة فيُثبت عند الله .

    والاستنساخ هو المصطلح العربي الذي وُضع ليقابل كلمة  Cloningالإنجليزية المشتقة من   Cloneأي الواحد من مجموعة الأحياء التي أنتجت من غير تلقيح جنسي.

    من المعلوم أن التكاثر الجنسي للإنسان (المخلوق البشري) يتم باجتماع نطفتين اثنتين تشتمل كل منهما على عدد من الصبغيات (الكروموزومات chromosomes) يبلغ نصف عدد الصبغيات في الخلايا الجسدية للإنسان ..."ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" الذاريات 49، "يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى .." الحجرات 13.

    وباتحاد نطفة الذكر (الحيوان المنوي) ونطفة الأنثى (البويضة، أو البييضة) تنتج اللقيحة (نطفة أمشاج) تشتمل على حقيبة وراثية كاملة بها طاقة التكاثر، وبانغراسها في جدار الرّحم تبدأ في الانقسام والتشكل والنمو ليتكون مخلوق جديد.

    وهذا هو التكاثر الجنسي الفطري العجيب المعروف في عالم الأحياء نباتا وحيوانا وإنسانا.

    لكن: التقدم العلمي الهائل مكن الإنسان عبر تجربته الطويلة من اكتشاف طرق أخرى للتكاثر غير الجنسي، ومن ذلك الاستنساخ بأنواعه المختلفة وصوره العديدة ومجالاته المتباينة.

    تاريخية الاستنساخ:

    1ـ الاستنساخ في عالم الأدب والخيال:

     لئن كان الاستنساخ كحدث علمي طريف ومثير ومرعب قد أطلّ على العالم من المخابر العلمية البيولوجية لمعهد روزلينROSLIN بأدنبرة باسكتلندا ، ولا تزال تجاربه تترى في مختلف المختبرات العالمية فإن الأدب قد حاز قصب السبق في تناول فكرة الاستنساخ من خلال روايات وقصص وشعر، وفي مقدمة ذلك ما نشرته الأديبة والروائية الأنجليزية ماري بيرسي شيليMary Percy Shelley سنة 1818م في روايتها الشهيرة في الخيال العلمي اسمها فرانكن شتينFrankenstein، تحكي فيها عن عالم مجنون قام باستنساخ مسخ بشري سمّاه فرانكنشتين وهو عبارة عن مخلوق قبيح الوجه، ومرعب ومدمر من خلايا وأعضاء جثث بشرية مستخدما تيارا كهربائيا.

    فرانكنشتين

    كذلك ظهر الاستنساخ كنبوءة في عديد الأعمال الأدبية وبالخصوص الخيال العلمي، ومن ذلك كتاب عالم الأحياء النمساوي هيبرلنت سنة 1902م، ورواية "عالم جديد شجاع" للأديب الأنجليزي "ألدوس هكسلي" سنة 1932م، وروايته "عظماء العالم" التي تنبأ فيها بإمكانية استنساخ العباقرة والمميزين، وروايته "العالم الطريف" حيث تنبأ بإمكانية صنع الأطفال في أنابيب وزجاجات بدل أرحام النساء، ورواية "عالم بدون رجال" لـ "تشارلز إيريك" سنة 1958م، ورواية "كوكب العذارى" لـ "بول أندرسون" سنة 1959م التي تنبأ فيهل باستنساخ الأطفال من المرأة وحدها دون الحاجة إلى الرجل،ورواية "جوشوابن لاأحد" لـنانسي فريدرمان 1973م، ورواية "رجال عديدون" 1976م، و"أولاد من البرازيل" 1978م...

     بالإضافة إلى العديد من الروايات التي تتناول موضوع الاستنساخ والتي كتبت بعد ظهور الاستنساخ كمعطى علمي بيولوجي، وقد ترجم عدد منها ألى أفلام سينمائية (جوراسيك بارك سنة 1993م، وفيلم رجال عديدون، وقصة استنساخ دكتاتور، وسبايدرمان، وماتريكس وغيرها) ومسلسلات تلفزيونية (مسلسل أجنة البشر، ومسلسل حواء ...)، فهذه الأعمال الأدبية والفنية عبدت الطريق لانتقال فكرة الاستنساخ من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة حتى تجسد بميلاد النعجة "دوللي"

    التاريخ العلمي البيولوجي للاستنساخ:

    يمكن اعتبار جهود العالم الألماني هانز سبيمان Hans Spemann بداية تأريخ الاستنساخ الحيواني سنة 1938م بعد أن عرف قبل ذلك بكثير في مجال النبات، حيث قام بنزع نواة بييضة واقترح تجربة سماها بـ"تاتجربة الخيالية" حيث قام بدمج نواة خلية مضغية لأحد الضفدعيات مع بويضة منزوعة النواة ليؤكد فرضية أن "كل خلية من المضغة تحتوي على كامل الحقيبة الوراثية لاستنساخ جنين تام"، ليتمكن بعده العالم الأمريكي روبرت بريغز Robert briggs وزميله توماس كينغ Thomas king سنة 1952م من تطبيق فكرة العالم الألماني سبيمان، حيث نجحا في فصل خلايا جنينية للضفادع ونزع أنويتها وتنشيطها ثم وضعها في بويضات منزوعة الأنوية لتتفاعل كما لو كانت ملقحة بشكل طبيعي في الرحم، ونجحوا في إنتاج شراغيف لضفادع بتقنية التفريغ النووي للخلايا الجنينية لأول مرة.

    وتعتبر سنة 1962م البداية الحقيقية للاستنساخ الجسدي حيث تمكن العالم البريطاني جون غاردن John Gurdan من استنساخ ضفدع كامل من شراغيف كبيرة. وفي سنة 1973م تمكن العلماء من إحداث التوأمة الاصطناعية ونقل اللقائح بين الحيوانات كالأبقار والأغنام والماعز، عن طريق تقنية تشطير الأجنة وتوأمتها وهو ما يعرف بالاستنساخ الجنيني. لتمتد تقنية الاستنساخ الجنيني عن طريق تشطير الأجنة إلى البشر، حيث نجح العالم الأمريكي جيري هول Jerrey Hall وزميله روبرت ستيلمان Robert Stilman من استنساخ أجنة بشرية عن طريق تشطير الخلايا المخصبة ومضاعفتها أضعافا، ثم أوقفا التجربة قبل استكمالها خشية الاعتراضات الأخلاقية والتداعيات المخيفة. وفي سنة 1995م تمكن معهد روزلين Roslin  برئاسة يان ويلموت Ian Wilmut من استنساخ نعجتين بطريقة "الاستنساخ الجنيني"، وبعدها بسنة 1996م نجحت عملية استنساخ القردة استنساخا جنينيا أي من خلايا جنينية.

    نجاح أول عملية استنساخ جسدي للفقاريات:

    دوللي

    تعتبر النعجة "دوللي Dolly" أول حيوان ثديي فقاري يتم استنساخه من خلية جسدية وبييضة منزوعة النواة دون تلقيح للبويضة من حيوان منوي ذكري في فيفري 1996م، وهي العملية التي أشرف عليها يان ويلموت Ian Wilmut وزميله كيث كمبل Keith Kambel وشكلت حدثا علميا ضخما وصادما أسقط مسلمة ارتباط الإنجاب بالجنس.

    الموت ودوللي

    ثم توالت عمليات الاستنساخ "الجسدي" اللاجنسي الناجحة للحيوانات المختلفة في مخابر عديدة ممهدة للاستنساخ الجسدي اللاجنسي للبشر. ولا تزال تصدر بين الفينة والأخرى إعلانات عن نجاح استنساخ البشر من مخابر مختلفة تعوزها الرسمية والاعتماد رغم اتجاه العالم عموما إلى رفض الاستنساخ الجسدي اللاجنسي باعتباره صادما للإنسان والأديان.

     

    صور الاستنساخ:

    أولا: الاستنساخ في عالم النبات:

    وهي تقنية معروفة في عالم النبات وذلك بأخذ جزء من نبتة أو شجرة حية ووضعه في بيئة مناسبة توفر الغذاء لينموذلك الجزء ويصبح كالشجرة الأم، وهذه العملية قديمة معروفة في الزراعة.

    وكذلك عملية "التطعيم" و"التركيب" بأخذ برعم من لحاء شجرة حية وإلصاقه بعصب غصن من شجرة أخرى وربطه بإحكام، ليبدأ في النمو ويصبح شجرة مماثلة للأصل، فيمكن زرع برعم شجرة لوزمثلا ولصقه بأصل شجرة مشمش أو برعم شجرةإجاص ببغص شجرة تفاح وغير ذلك...

    وقد طورت هذه الطريقة في عالم التقنيات الزراعية وأدّت إلى نتائج باهرة ومردود وفير جيد، وهذا التكاثر يعرف بالتكاثر بالنسخ.

    ثانيا: الاستنساخ في عالم الحيوان: التكاثر بالنسخ أو التكاثر اللاجنسي الطبيعي (من غير تدخل التقنية) موجود في بعض الحيوانات الدنيا (نجم البحر مثلا) أما الاستنساخ عن طريق التقنيات العلمية فلم يتم أجراؤه في عالم الحيوان عموما إلا باقتراب منتصف القرن العشرين، وفي عالم الثدييات لم يتمكن الإنسان من إجرائه إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين.

    فقد تمكنت المختبرات العلمية البيولوجية من شطر الجنين في مرحلة الخليتين أو الأربع أو الثمان لتكون كل خلية منها كائنا مستقلا، وتكون في مجموعها "توائم متطابقة" في جميع الصفات الوراثية. وقد أمكن تجميدها وحفظها صالحة لزرعها في الأرحام بعد ذلك لتولد ولادة عادية.

    وقد أمكن إجراء هذه العملية (التشطير) في الأغنام والأبقار منذ عقود، بعد أن كان محل تجارب في الضفادع والحشرات والفئران وغيرها.

    وعُدّ هذا النمط من التشطير الخلوي نوعا من الاستنساخ أو التنسيل لأنه يولد نسخا أونسائل متماثلة، وسُمّي بـ "الاستنساخ بالتشطير" لأنه تشطير لبييضات مخصبة جنسيا في الحقيقة من ذكر وأنثى، واعتباره استنساخا تجوزا لتطابق النسخ المحصلة من التشطير.

    الاستنساخ الحيواني اللاجنسي (الجسدي): أخيرا تمكنت التقنية البيولوجية في عالم الهندسة الوراثية من استنساخ الحيوانات الثديية من خلايا بالغة جسدية غير جنسية، وتُوّج ذلك بإعلان علماء معهد روزلين

    Roslin Institut

    بأدنبرة بسكوتلندا وعلى رأسهم إيان ويلموت Ian Wilmut استنساخ النعجة "دولليDolly " كأول حيوان ثديي يتم استنساخه في العالم بالتنسيل اللاجنسي (دون تخصيب بحيوان منوي ذكري) بعد أن كان هذا النوع من التكاثر قاصرا على النباتات وبعض الحيوانات الدنيا، وقد هزّ ذلك الإعلان الذي نشرته مجلة "نيتشر " Nature البريطانيية في عدد 27ـ02ـ1997م العالم بأسره (تم استنساخ دوللي سنة 1996 وتكتم على الأمر)

    لقد ظاهى الاستنساخ عند بعض العلماء اكتشاف الطاقة النووية والقنبلة الذرية، بسبب أبعاده الأخلاقية والاجتماعية والدينية والفلسفية والعلمية والاقتصادية والمنهجية والبيئية حتى، فلم يحدث أن يكون لكشف علمي مثل تلك الضجة والرعب الذي أحدثه الاستنساخ في مختلف الأوساط.

    لقدتم تنسيل دوللي من دمج خلية من ضرع شاة بالغة ببويضة نعجة أخرى ملقحة بعد إفراغها من نواتها، ووضع نواة خلية الضرع مكانها عن طريق عملية "تلحيم" كهربائي، وذلك بعد عملية تجويع للخلية لمدة 05 أيام لتعود كل الجينات التي تحويها النواة إلى حالة ما قبل التخصص الوظيفي، ثم زرعت في رحم نعجة ثالثة  لتبدأ الخلية الجديدة في الانقسام إلى أن يتكون منها جنين كامل، فقد تم الاستغناء عن نطفة الذكر (الأب). فعملت نواة الخلية الجسدية (التي تشتمل على الحقيبة الوراثية ) عمل نواة الحيوان المنوي في التخصيب لتبدأ البييضة في الانقسام، وكانت النعجة "دوللي" (على اسم مغنية وعارضة أمريكية) مطابقة في أوصافها للنعجة صاحبة الخلية الجسدية شكلا ولونا وطولا وصوتا ...

    لقد اعتبر البعض أن الاستنساخ نوع من "جنون العلم" أو"هستيريا العلم"، وهذا النوع من التكاثر الجسدي اللاجنسي هو ما أصبح ينصرف إليه مصطلح الاستنساخ  Cloning مجرّدا. فالاستنساخ إذن هو "توليد كائن حي أو أكثر بنقل نواة خلية جسدية إلى بويضة أنثى منزوعة النواة"

    وواضح جدا أن هذه العملية ومثيلاتها لا يمكن اعتبارها خلقا أو تخليقا، بل مجرد تدخل وتغيير لخلق الله، " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار" الرعد 16

    بشر

    أطفال

    هل للاستنساخ الحيواني فوائد؟: يأمل العلماء من الاستنساخ الحيواني بعض الفوائد منها:

    1ـ أنتاج حليب بقيمة حليب البشر من بعض الحيولنات الدارّة (كثيرة اللبن) ، فالأهداف الاقتصادية كانت معلنة ابتداء من طرف فريق استنساخ النعجة دوللي بأن تتخلق عندهم بالهندسةالورثية  Genetic Engineering نعجة قادرة على أنتاج حليب بشري، ثم تنتنسخ منها قطعان بنفس الطريقة.

    2ـ يمكن أن يفيد الاستنساخ البشر بكثرة إنتاج حيوانات جيدة اللحم كثيرته، جيدة الصوف غزيرته، جيدة اللبن وفيرته، والأمر كذلك في سائر المنتجات الحيواينة.

    3ـ باعتبار تساوي الأصل مع النسيخ ذكورة وأنوثة ومواصفات، فيمكن التحكم في الإنتاج الحيواني بحسب الحاجة.

    4ـ يمكن الاستغناء في عمليات التكاثر في الحيوانات الداجنة عن الذكور ، مما يوفر نفقات معتبرة، تنعكس على أثمان اللحوم والحليب ...

    5ـ استنبات أعضاء حيوانية مطابقة للأعضاء البشرية كالقلب و الكبد والكلية ليستفيد منها الإنسان علاجيا عند الحاجة.

    ماذا عن الاستنساخ البشري؟ :

    باستنساخ "دوللي" توقع العلماء نجاح استنساخ البشر في مدى قصير من خلايا لاجنسية (جنينية أو جسدية) رغم اختلاف طبيعة الانقسام في الخلايا الجنينية البشرية عن الخلايا الحيوانية . لقد كان استنساخ "دوللي" مفاجأة كبرى لم تسبقها إرهاصات واضحة لافتة للنظر، مما أثار تحدّيا بالغا لعلماء الأحياء والأديان والأخلاق والقانون، خاصة إذا اتجهت الأنظار إلى البشر كموضوع للاستنساخ.

    فنظريا يمكن لأي مختبر ـكما توضحه الأبحاث العلميةـ متخصص في تقنيات الوراثة والهندسة الوراثية أن يقوم بعمليات الاستنساخ تحت طلب الحكومات والشركات وأرباب المال والفضوليين، وأصحاب المصالح (سواء كانت مصالح حقيقية أو موهومة، وسواء كان الدافع إلها شريفا أو دنيئا)

    إنّ المنع بنصوص القانون للاستنساخ البشري لن يكون له أثر إلّا في العلن، ويبقى عالم الخفاء والأسرار والكواليس حافلا بالنشاطات اللاقانونية واللاأخلاقية مع قوة الإغراءات والنزعة المادية الإلحادية التي تغزو العالم، وقد أكد المختصون أن عدد المختبرات السرية المهتمة بالاستنساخ كبير، بل إن الإعلانات عن نجاح استنساخ البشر لم تتوقف بعد استنساخ "دوللي" ولو عازتها الرسمية والاعتماد، ولم تتوقف السينما عن تصوير استنساخ البشر مع بعض الخيال والتمادي والتشويق.

    إن الولع بالبحث العلمي والتقنية يبقى حافزا قويا لمواصلة الأبحاث في هذا الموضوع، وكما أن الحكومات والتشريعات وقفت تحاول اتخاذ الموقف الصحيح من استنساخ البشر، وعلى سبيل المثال سارع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى تكوين لجنة اتحادية لدراسة أفضل الاقتراحات القانونية والأخلاقية حول الاستنساخ البشري لتصل هذه اللجنة إلى أن استنساخ الإنسان غير مقبول للذوق العام الأمريكي، وبالتالي منعه بقرار رسميّ.

    موقف علماء الشريعة الإسلامية من الاستنساخ:

    طرحت مشكلة الاستنساخ في البلاد الإسلامية في ندوات شرعية و تداولها الباحثون في الصحف و المجلات و وسائل الاعلام كما حدث قبل ذالك في الغرب وكان الأمر صادما ومزعجا ابتداء أن يُتّهم علماء الشريعة بتهمة الحجر على العقول والنشاطات العلمية و الحريات الأكاديمية ووقف العلم عن المضي في خدمة البشر. ومع ذالك كانت أصوات أكثر الدارسين للاستنساخ فقها و قانونا مرتفعة بالمنع والحيلولة دون المضي في هذا الموضوع المثير للجدل او الصادم للمسلمات الدينية والأخلاقية و القانوينة بدعوى أنه تدخل في الخلق و تغيير له وماس بالحريات و ضرب لكلية من مقاصد الشريعة الكبرى (حفظ الأنساب) وانفراط لمنظومة الأسرة المستقرة

    في الدين و القانون والمجتمع.

    كما أثيرت مسألة من صميم علم العقيدة و هي قضية الخلق الذي هو لله وحده، بل ذهبت أفهام البعض بعيدا في ذلك حتى ادّعو أن العلماء سيلعبون دور الإله و نحو ذلك.

    والخلق بمعنى الإيجاد من العدم هو لله وحده وهذا أمر في غاية الوضوح لا يحتاج نقاشا، والبشر لايزيد دورهم في الاستنساخ عن الفلاح الذي يربط البرعم النسيخ بأصل شجرة ثانية ، وعظمة التكاثر الجيني أعجب من الاستنساخ بنوعيه الجنيني التشطيري والاستنساخي التلحيمي.

    ويرى بعض الدارسين أن الاستنساخ ينطبق عليه مصطلح تغيير خلق الله تعالى

    (ولآمرنهم فليغرن خلق الله ) النساء 119 ،كشأن الوشم والتفليج والنّمص .

    مصالح الاستنساخ البشري ومفاسده

    1- المصالح : رصد علماء الأحياء بعض الفوائد للاستنساخ نذكر منها:

    1- الاستفادة من الاستنساخ البشري في بعض حالات العقم بأخذ خلية من جسد الزوج العقيم ووضعها في بويضة منزوعة النواة مأخوذة من زوجته وزرعها في رحم الزوجة نفسها

    2- إمكانية علاج بعض الخالات المستعصية التي تحتاج إلى استبدال كلية أو قرنية أو نحو ذلك، بأخذها من بدن شخص مستنسخ من الشخص المريض ،فالجسد لا يرفض العضو الجديد المطابق له (مع مايثير هذا من مضنّة امتهان للكائن النسيخ واعتباره مستودع قطع غيار للمستنسخ منه ) .

    3- استنساخ العباقرة وذوي المواهب والقدرات الفائقة (الذكاء -القوة -الجمال -الفن -القيادة ...._) وهذا أمر مغري للأفراد والشركات والدول ، هذا إذا تجاهلنا ارادة الله وحكمته في خلق الناس مختلفين ومتفاوتين في قدراتهم (نحن قسمنا بينهم معيشتهم

    في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) الزخرف 32 .

    4- إمكانية حصول الأسرة على ذكر حرمت منه أو على أنثى حرمت منها .

    وهذه المصالح المذكورة مجردة عن الأحكام الشرعية، ومدى اعتبارها مصالح في نظر الشارع، فبعض هذه المصالح غريب عن ميزان الشرع ومقاصد الشريعة الاسلامية المراعية لمصلحة الانسان فردا واجتماعا، فهي من قبيل المصالح الملغاة.

    المفاسد :

    هناك محاذير كثيرة للاستنساخ البشري عموما فضلا عن الاستنساخ الجسدي اللاجنسي نذكر منها :

    1- التأثير الهائل على مؤسسة الأسرة وأحكامها وخاصة في موضوع حفظ الأنساب المعتبر شرعا من مقاصد الشريعة الكبرى التي جاءت لحفظها وجودا وعدما ، والأديان كلها وقوانين العالم جميعا تحرص على حفظ الأسرة وتماسكها واتصالها ولذلك حفظ

    الإسلام الأسرة من حيث الوجود بتشريع الزواج والدعوة إليه وضبطه والعناية به تشريعا، ومن حيث العدم بمنع الزنا وسد ذرائع اختلاط الأنساب ومنع التبني ونحو ذلك.

    والاستتنساخ تعدي صارخ على نظام الأسرة المستقر وأحكام النسب البيّنة، فما علاقة النسيخ بالمستنسخ منه ، هل هو ابنه أو أخوه أو أجنبي عنه ؟ أو ماذا ؟

    2- الاستنساخ من الخلايا الجسدية ثبت علميا أنه يصلح بين خلية أنثى وبويضة أنثى كما حدث في استنساخ النعجة دوللي ، فلو حدث ذلك في البشر لنتج عنه الاستغناء عن الرجال في عملية الإنجاب ، وضرب للنسيج الاجتماعي الفطري المعروف منذ آدم .

    3- المطابقة الفسيولوجية التّامة بين الفرع النسيخ والأصل المستنسخ ( في الذكورة والأنوثة وغيرها ) قد تخضع لرغبات وأهواء القائمين على عمليات الاستنساخ والساسة ونحوهم في التحكم في المواليد المطلوبة ، فتختل المجتمعات ، بل قد تدمّر على المستوى

    البعيد لأن الله تعالى لحكمته جعل كلا من الذكر والأنثى سكنا للآخر ، وجعل ذلك أساس بناء المجتمع ، وجعل التوازن بين الأجناس والأنواع سببا لاستمرار الحياة .

    4- الانسان مغرم بالخلود وطول البقاء وقد يسعى العظماء والعباقرة والطغاة إلى استنساخ أنفسهم طلبا لذلك باستعمال سلطانهم وقوتهم ونفوذهم على حساب الآخرين .

    5- التكاثر الجنسي التزاوجي فيه ارتقاء بجنس البشر ، يبدأ بالعاطفة الانسانية الجميلة وحسن الاختيار والرحمة ، والتكامل ، أما الاستنساخ فيخضع للقوة والسلطة والهوى، والنُّسخ المنتجة ستظل مجرد نسخ ينظر إليها بانتقاص أمام أهلها، حتى وإن ادّعى بعض المهتمين بأن النسيخ يمكنه أن يكوّن هوية ذاتية خاصة به مستقلة عن أصله (من حيث الفكر والأخلاق والخبرات المكتسبة... كالتّوائم مثلا).

     6ـ الخلل الاجتماعي المترتب عن التشابه والتطابق الجسدي بين الأصل والفرع، في تحمل المسؤولية عن السلوكات والأفعال، وفي المعاملات والجنايات والعلاقات الاجتماعية.( مثلا تفقد البصمات الخاصة قيمتها وحجيتها، وكذلك الصور ووثائق الهوية...

    7ـ فضلا عما يرتبه الاستنساخ من فوضى ومشكلات في أحكام النسب وما ينشأ عنه من حقوق وميراث ونفقة وحضانة ونحو ذلك، فإذا نظرنا إلى حقيقة العلاقة بين النسيخ وأصله (صاحب النواة) وبين المرأة صاحبة البويضة، والمرأة التي حملت وولدت لتبادر

    إلى الأذهان تساؤلات بالجملة:

    -هل الشخص صاحب الخلية (المستنسخ منه) أب طبيعي للنسيخ، أو أخ له، أو أجنبي عنه، أم أن النسيخ مُنبَتّ لا أب له؟

    -إذا تم الاستنساخ من خلية امرأة، فمن أب البنت النسيخة، أهي المرأة المستنسخ منها، أم أبوها، أم أنها منبتة لا أب لها؟

    -وماذا لو تم الاستنساخ بين خلية امرأة وبويضتها، وزرع ذلك في رحمها، هل تكون أمّا وأبا في الوقت نفسه؟! هذا عجيب ومرعب وخرافي في الوقت نفسه، وإذا زُرعت البويضة في رحم أنثى غير صاحبة البويضة، فمن هي الأم، أهي صاحبة الخلية (النواة) أم

    صاحبة البويضة، أم صاحبة الحمل والولادة، أم كلهن أمهات؟!.

    ويترتب على هذا الاضطراب اضطراب آخر في تحديد عائلة النسيخ (أو النسيخة) وإخوته الأشقاء أو لأب أو لأم، ومن أعمامه وأخواله وأجداده؟ ومن هم محارمه وورثته وأولو رحمه؟! فوضى.

    8ـ يعتقد بعض العلماء أن الاستنساخ قد تنشأ عنه اضطرابات خلقية وعاهات وأمراض فضلا عن الأخطاء البشرية المحتملة.

    9ـ جعل الإنسان مادّة للتجارب العلمية المحضة دون قصد العلاج هو أمر غير أخلاقي وحطّ من كرامة الإنسان.

     

    الحكم الشرعي للاستنساخ أو مواقف القوانين الوضعية وقانون الأسرة الجزائري:

    حاول بعض الفقهاء المعاصرين مناقشة الاستنساخ وعرضه على أحكام الشريعة الإسلامية وأصولها ومقاصدها، وتناولته المجامع الفقهية بالبحث والنظر، وأعلنت مختلف القوانين الوضعية موقفها منه، ويكاد يكون الرأي الجامع بينها جميعا هو النظر إلى

    الاستنساخ البشري (خصوصا اجسدي اللاجنسي) نظرة استنكارية وتحذير من تداعياته الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية وبالتالي منعه.

    -الحكم الشرعي الفقهي:

    الأحكام الشرعية لأفعال العباد تنقسم إلى قسمين:

    -الأحكام التكليفية من حِلّ وحرمة وكراهة واستحباب ووجوب.

    -الأحكام الوضعية وهي الآثار المترتبة على الأفعال (وهنا الاستنساخ)

    -الحكم التكليفي للاستنساخ:  ينبغي التفريق بين الاستنساخ الجسدي اللاجنسي والاستنساخ الجنيني المتعلق بفصل توائم متطابقة (تشطير الخلايا الجنينية)، فهذا الأخير قاسه بعض العلماء على أطفال الأنابيب(قاسه محمد سليمان الأشقر على أطفال الأنابيب ورأى جوازه بنفس الشروط) والتلقيح الاصطناعي الذي ناقشه مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة سنة 1986 (التلقيح الاصطناعي) الذي أجازوه بشروط هي:

    -أن يكون ذلك بين الزوجين وبرضاهما، بأن تكون البويضة المخصبة من الزوجة وبماء الزوج وأن تزرع في رحم الزوجة لا في رحم غيرها، ويكون ذلك أثناء قيام الزوجية

    وفي حياة الزوجين، مع مراعاة ضمانات عدم اختلاط الأنساب.

    وقد أجاز قانون الأسرة الجزائري التلقيح الاصطناعي بشروط في المادة 45 مكرر (في تعديل 05-02)، فيجوز للزوجين اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي، ويخضع التلقيح الاصطناعي للشروط الآتية:

    - أن يكون الزواج شرعيا.

    - أن يكون التلقيح برضا الزوجين وأثناء حياتهما.

    - أن يتم بمني الزوج وبويضة رحم الزوجة دون غيرها.

    لا يجوز اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي باستعمال الأم البديلة.

    والتلقيح الاصطناعي الذي أصبح شائعا وتجيزه القوانين مختلف قليلا عن الاستنساخ الجنيني الجنسي (فصل خلايا البويضة المخصبة بعد شروعها في الانقسام فلا يسلّم بالقياس عليه من كل وجه، ولا تظهر المصلحة والحاجة إليه (الاستنساخ) ما دام التلقيح الاصطناعي ممكنا ومحققا للمصلحة المعتبرة شرعا.

    فالاستنساخ البشري اللاجنسي (الاستنساخ من خلية جسدية) ابتداء يكاد ينصرف مصطلح الاستنساخ إذا أطلق مجردا إلى هذه الصورة دون غيرها (تلحيم نواة خلية جسدية مع بويضة أنثى منزوعة النواة) والخطورة هنا أوضح وأظهر وأنكر، ولذلك اتفقت كلمة الفقهاء على تحريمه والتحذير منه لما فيه من مفاسد سبق ذكر بعضها، ولأن المصلحة فيه مرجوحة إن لم تكن موهومة أصلا، وهي غريبة عن المصالح المعتبرة شرعا، ضاربة

    لكلية حفظ النسب التي حفظتها الشريعة الإسلامية، كما أن الاستنساخ في حقيقته شُغل لرحم امرأة بغير وجه مشروع (الولد للفراش) فلا نسب إلا بزواج شرعي صحيح والاستنساخ قلب للأوضاع الشرعية ومدعاة لاختلاط الأنساب وانفراط الأسرة والمجتمع والفطرة.

    ولذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة في 03/07/1997 بـ:

    1ـ تحريم الاستنساخ البشري جملة وبطريقتيه المذكورتين (تشطير الخلايا، والاستنساخ الجسدي اللاجنسي) أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.

    2ـ إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين سابقا فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية (الأحكام الوضعية)

    3- تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء كان رحما (استئجار الأرحام) أو بييضة أو حيوانا منويا أم خلية جسدية بغرض الاستنساخ.

    4- يجوز شرعا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.

    5- مناشدة الدول الإسلامية لإصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.

    6-  متابعة المستجدات العلمية في موضوع الاستنساخ وغيره، وضبط مصطلحاته.

    7- تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الأخلاقية في علوم البيولوجيا.

    8-  تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، والإعلاء من شأن الإنسان وكرامة الإنسان والأخلاق... بتصرف.

     

    الأحكام الوضعية للاستنساخ:

    ناقش بعض العلماء إمكانية حدوث الاستنساخ رغم تحريمه شرعا ومنعه قانونا، بضرورة ضبط أحكام وضعية تتعلق بآثار الاستنساخ إذا حدث فعلا بين البشر، بمناقشة ما يلي:

    أ‌-        النسب:  فحفظ الإنسان من مقاصد الشريعة الكبرى المعتبرة والمحفوظة، والاستنساخ تهديد لها، لكن على فرض حدوث الاستنساخ الأجنبي في البشر فإلى من يُنسب النسيخُ (هذا ملخص ظنّي من آراء الأستاذ محمد سليمان الأشقر) فالقاعدة الشرعية أن النسب يثبت للزوج الشرعي الثابت بعقد زواج شرعي وعليه فالنسيخ يثبت نسبه للزوج الشرعي للمرأة التي حملت (الزوجة) لحديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.

    فالزواج الشرعي الصحيح هو ما يثبت النسب، ولا يلتفت إلى غيره في قيامه، ولو كانت معطيات علمية دقيقة.

    أما إذا لم يكن للمرأة الحامل لبييضة مستنسخة زوج شرعي، فالنسيخ ينسب لها، ولا يُنسب إلى أي أب (لا إلى صاحب الخلية ولا إلى غيره.

    -          من هي أم النسيخ؟ وفيها نظر وتباين واختلاف، فهل الأم هي صاحبة البويضة التي أخليت من نواتها وزرعت فيها نواة الخلية

    الجسدية، أم هي أم الشخص صاحب الخلية الجسدية، أم هي الأم صاحبة الرحم الحامل والولادة.

    الفتوى الفردية في هذه المسألة الشائكة لا تُغني، بل لابد من اجتهاد جماعي ترعاه المجامع الفقهية بعد دراسة وتبصر عميقين بما له من تداعيات وآثار درامية.

    -          بالنسبة للحضانة يمكن القول أنها تثبت لأمه التي أُقرّ بأمومتها، وغالبية القوانين الوضعية لا زالت تعتدّ بحادثة الولادة معيارا للأمومة.

    -          نفقة النسيخ على الزوج الشرعي باعتباره أبا شرعيا، وإن تعذر فالمسؤولية على الدولة (بيت المال)

    -          أما الميراث فإن النسيخ في ظل زواج شرعي يمكن القول بميراثه من الزوج الشرعي باعتباره أبا، وكذا بقية الأقارب (الأصول والحواشي...)، وإن لم يكن له أب (زوج الأم الشرعي) ورثه من أمه وانتسب إليها شأنه شأن ابن الزنا وابن الملاعنة.

    -          جتهد بعض الفقهاء في مسألة العقوبة (الحد) التي يجب توقيعها على من قام بالاستنساخ (باعتباره محرما) هل تقام عليه عقوبة (حد) الزنا، أم يكتفي بالتعزير؟

    وواضح أن حد الزنا لا يثبت إلا بالوطء المحرم، ولا وطء في الاستنساخ فلا وجه للقول بحدّ الزنا، ويمكن أن يجتهد بعقوبة تعزيرية على المرأة صاحبة البويضة، وعلى صاحب الخلية، وعلى الجهة القائمة بالاستنساخ والله أعلم.

    ملاحظة: هذا مجرد اجتهاد وجمع من أقوال ودراسات للموضوع بشكل ملخص

    ويُطلب التوسع في الموضوع في مضانّه.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     


  • Topic 3

     

    البصمة الوراثية وإثبات النسب:

     

    *تعريف البصمة الوراثية:

    -البصمة: لغة مشتقة من البُصم وهو فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر كما جاء في لسان العرب لابن منظور.

    بصمة اصبع


    والبصمة الوراثية اصطلاحا هي البنية الجينية التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه، أو هي المادة الوراثية المفصلة المأخوذة من الحمض النووي DNA  والتي يستأثر بها كل إنسان عن غيره.

    فقد أكدت أبحاث العالمين واتسون James Sewey Watson، وكريك  Francis Harry Compon Crick، وكذا روزا ليند فرانكلين Rosalind Eline Franklin وآخرين حول بنية الـ ADN (فرنسية) أو DNA (إنجليزية) يتألف من شريطين يلتفان حول بعضهما البعض على هيئة سلم حلزوني، ويحتوي الجزيء على متتابعات من الفوسفات والسكر، ودرجات هذا السلم تتكون من ارتباط أربع قواعد كيميائية تحت اسم أدينين Adenine، تايمين Thymine، سايتوزين  Cytosine، غوانين Guanine

    DNA

     والـ DNA هو الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسيجين: Deoxyribonucleic Acid ويكون هذا الجزيء في الإنسان نحو ثلاثة بلايين ونصف بليون قاعدة كل مجموعة من هذه القواعد تحتل جيناً من المائة ألف جينة موجودة في الإنسانوفي كل خلية من خلايا الجسم توجد شيفرة وراثية خاصة The genetic code 


    ولقد تم اكتشاف البصمة الوراثية سنة 1984lشريط DNA، حيث وضحت الأبحاث في مجال الهندسة الوراثية   Genetic Engineering ، والجينوم البشري  The Human Genome، أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات وتعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة في بداية الأمر، لتتوصل الأبحاث أن هذه التتابعات مميزة لكل فرد ولا يمكنها أن تتشابه بين اثنين (عدا التوائم المتماثلة أو المتطابقة)، مما يجعل التشابه مستحيلا.

     وتستخرج عينة الـ DNAبواسطة إنزيم معين ليفصل شريط DNA لفحصه وقد تبين من الأبحاث أنه يمكن الاعتماد على نتائج الفحص الجيني لمعرفة الأب والأم البيولوجيين لأي شخص بالمقارنة الجينية إذ أنه:

    -لكل إنسان نمط خاص في ترتيب النيوكلوتيدات Nucleotides للحامض النووي DNA  ضمن كل خلية من خلايا جسده وهو البصمة الوراثية له Genetic Fingerprint.

    DNA

    -أن كل إنسان قد ورث نصف شفرات شريط DNA الخاص به من أمه، والنصف الآخر من أبيه، مما يؤكد قطعا البنوة البيولوجية لهما. وعليه أمكن الاستفادة من تحليل البصمة الوراثية:

    - تحديد هوية الشخص بدقة.

    -  تحديد الأب الطبيعي (البيولوجي) للشخص مما يفيد في إثبات النسب عند الاشتباه أو في حالات الاتهام بالزنا ووقوع الحمل.

     - الكشف عن مرتكبي الجرائم في مادة البحث والإثبات الجنائي، وهذا ما تأخذ به التشريعات المعاصرة جميعها، ومنها المشرع الجزائري في القانون 16-03 المتعلق باستعمال البصمة الوراثية في الإجراءات القضائية والتعرف على الأشخاص.

    *إثبات النسب بالبصمة الوراثية:

    عنيت الشريعة الإسلامية عناية بالغة بضبط الأنساب وحفظها بنصوص القرآن(وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعله نسبا وصهرا) الفرقان 24.

    (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) الأحزاب 05، وآيات أخرى كثيرة ومن السنة حديث (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) رواه أحمد الترمذي والحاكم. وفي صحاح السنة أحاديث كثر.

    وأصول الشريعة ومقاصدها تؤكد ذلك، فالمحققون من الفقهاء والأصوليين جعلوا حفظ النسب أحد المقاصد الكبرى التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها، وهي الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وعبر عنها الشاطبي وغيره بمصطلح النسل بدل النسب، (أرى أن الأنساب أدقّ وأحوط).

     وحفظت الشريعة الأنساب من ناحية الوجود بتشريع الزواج وتنظيمه والحث عليه ومن جانب العدم بتحريم الزنا والتبني والخصاء، وتشريع الحدود (حد الزنا والقذف) وربطت الشريعة أحكام الأسرة من النفقات والصلة والبر والميراث وغيرها بالنسب الصحيح، ولم تجعل للنسب الباطل حقا، فالنسب نعمة يُتوسل إليها بنعمة، والحرام لا يكون سببا في النعمة. كما يؤكد علماء الشريعة والمقاصد.

    قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور :"إن مقصد حفظ النسب هو انتساب النسل إلى أصله في نفس الأمر-أي أن يكون الأب النسبي لذلك النسل هو الأب الطبيعي الذي خلق ذلك النسل من مائه- وهو النسب الكامل المعتبر شرعا، وأن عدّه في الضروري ناظر لأهمية شأنه، إذ إن دخول الشك عليه يفيت الداعي النفسي الباعث على الذبّ عنه وحياطته، والقيام عليه بما به بقاؤه".

    وإن حفظ النسب باعث على ازدهار العمران والحضارة، فالإنسان بفطرته نزّاع إلى النشاط والبذل إذا اطمأن أن جهده إنما يعود عليه أو على ذريته من بعده.

    *ويترتب على النسب أحكام شرعية منها:

    -  حفظ القاصر صغيرا أو كبيرا كما في أبواب الرضاعة، والحضانة والنفقة والولاية ونحوها.

    -  النسب سبب للميراث.

    -  النسب موجب لتحمل جزء من الدية.

    -  النسب موجب وسبب للمحرمية (المحارم الشرعية) التي تجيز الاختلاط الشرعي وتحرم الزواج بين المحارم.

    -  الأبوة موجبة للولاية على حال الصغير.

    -  البر وصلة الأرحام بين الأقارب.

     

    *إثبات النسب في الشريعة الإسلامية وقانون الأسرة الجزائري:

    من حيث الأصل فإن النسب يثبت بالزواج الشرعي الصحيح، وقد حدد الفقهاء طرقا يثبت بها النسب هي:

    1- الفراش: (الزواج الشرعي): أي علاقة الزوجية لحديث(الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهو حديث صحيح مستفيض بين الصحابة (مروي في الصحيحين)

    وهو ما نصت عليه المادة 40 (بعد تعديل 05-02) أنه" يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو بالبينة أو بنكاح الشبهة أو بكل زواج تمّ فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32 و33 و34 من هذا القانون

    يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب".

    ونصت 41 من ق.أ.الجزائري "ينسب الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا وأمكن الاتصال ولم ينفه بالطرق المشروعة" وعليه يشترط لثبوت نسب الطفل بالزواج الصحيح ما يلي:

    - قيام الزوجية بزواج صحيح: فقانون الأسرة الجزائري لا يجيز النسب الشرعي لولد نتج عن علاقة خارج إطار الزوجية القائمة كعلاقة ما قبل الزواج وهو ما أقره القضاء الجزائري، فقد صرحت المحكمة العليا (غرفة الأحوال الشخصية) بقرار بتاريخ 19-11-1984 (المجلة القضائية 1990 عدد 1) بأنه "من المقرر شرعا أنه لا يعتبر دخولا ما يقع بين الزوجين قبل إبرام عقد الزواج من علاقات جنسية بل مجرد عمل غير شرعي لا يثبت عنه نسب الولد"

    - إمكانية الاتصال بين الزوجين: وقد وافق قانون الأسرة الجزائري وكذلك الاجتهاد القضائي الجزائري (قرار بتاريخ 24-02-1986) رأي جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) أما الحنفية فعندهم مجرد العقد الصحيح يجعل المرأة فراشا لمظنة الاتصال، فوجود العقد كاف لإثبات النسب، فالاتصال أمر خفيّ لا يطلع عليه بخلاف العقد صونا للعرض وحفظا للولد.

    -ولادة الطفل بين أقل مدة للحمل (06 أشهر) وأقصاها (10 أشهر) وهو ما نصت عليه المادة 42 ق.أ.ج "أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقصاها عشرة أشهر)

    - عدم نفي النسب بالطرق المشروعة: لم يحدد المشرع الجزائري بدقة الطرق المشروعة لنفي النسب، ولذلك لابد من الرجوع إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدر هذا القانون بمقتضى المادة 222 ق.أ.ج، وقد جعلت الشريعة الإسلامية اللعان طريقا لذلك دون غيره.

    واللعان شرعا واصطلاحا هو شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان والحلف من الجانبين مقرونة باستحقاق اللعن للزوج الكاذب وغضب الله للزوجة الكاذبة، فيُدرأ حد القذف عن الزوج المتّهِم لزوجته بالزنا، ويُدرأ حد الزنا عن الزوجة المتَّهمة، وهو ما أوردته سورة النور في الآيات من 6إلى 9. 

    وقد أقر الاجتهاد القضائي الجزائري اللعان في عدة قرارات منها القرار 69798 بتاريخ 28-10-1991 :"من المقرر شرعا وقانونا أنه إذا وقع اللعان يسقط نسب الولد ويقع التحريم بين الزوجين، والقرار 204821 بتاريخ 20-10-1998 :"من المقرر قانونا أن نفي النسب يجب أن يكون عن طريق رفع دعوى اللعان التي حددت مدتها في الشريعة الإسلامية والاجتهاد القضائي بثمانية أيام من يوم العلم بالحمل أو برؤية الزنا"

    2- الإقرار: بأن يُقرَّ رجل (أو امرأة) لإنسان ليس له نسب معروف بأنه ابنه أو ابنته، فتثبت أبوته له ويتتبع ذلك جميع آثار النسب، وذلك بشروط منها: أن يكون المقر له مجهول النسب. –فارق السن المعقول بينهما. – تصديق المقر له إن كان بالغا. – أن لا يدّعي بنوته بزنا. وكذلك الأمر لو ادّعى مجهول النسب بنوته لرجل أو امرأة، وصدّقه أو صدقته، فإن ذلك يثبت نسبه.

    وقد نصت المادة 40 ق.أ.ج على الإقرار كسبب للنسب، ونصت المادة 44 منه على أنه "يثبت النسب بالإقرار بالبنوة أو الأبوة أو الأمومة لمجهول النسب ولو في مرض الموت متى صدقه العقل أو العادة"، ونصت المادة  45 " الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة لايسري على غير المقرّ إلا بتصديقه".   

    وادعاء نسب شخص كذبا، أو إنكاره كذبا حرام ومن كبرى الجرائم كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.... الحديث)

    3- البينة: أي شهادة رجلين تثبت النسب بإجماع الفقهاء واختلفوا في شهادة رجل وامرأتين.

    ولا يحتاج إلى شهادة في حق من عُرف عند الناس بنسبه إلى شخص بما يمنع تواطؤهم على الكذب.

    .وقد نصت المادة 40 ق.أ.ج على البيّنة كسبب للنسب

    4- القيافة: من قاف الأثر أي تتبعه، والقائف هو من يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الإنسان لأبيه وأخيه، واشتهر بالقيافة في الجاهلية بنو مدلج (ولا زال بنو مُرّة في الديار النجدية معروفين بالقيافة إلى يومنا هذا).

    ولا يلجأ إلى القيافة في إثبات النسب في وجود الطرق الثلاثة المتقدمة.

    ولا تصلح القيافة طريقا لنفي النسب الثابت، ويلجأ إليها (القيافة) في حالة الاشتباه والتنازع حول نسب مجهول، أو أن يطأ رجلان امرأة واحدة وطأ شبهة في طهر واحد فتحمل، فيشتبه النسب.

    ويشترط في القائف أن يكون مسلما عدلا ذكرا مجربا في إصابة القيافة، وأن يؤخذ في إثبات النسب بقول قائفين على الأقل على الأرجح.

    وقد أثبت القول بالقيافة الشافعية والحنابلة، وأنكره الحنفية، وأنكره المالكية في أولاد الحرائر وقبلوه في أولاد الإماء (وهذا فقه ينتفع ببعضه في وقتنا وفي كل وقت وإن ولّى نظام الرقّ)

    ولم يعتمد ق.أ.ج القيافة ولا أشار إليها، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن القيافة لا تقدّم على البصمة الوراثية فالأولى ظنّية والثانية علمية قطعية، لكن تبقى القيافة مع ذلك معطى فقهيا قد يحتاج الناس إليه إذا تعذر الفحص الجيني بالبصمة الوراثية.

    *وهناك طرق للنسب حرّمها الإسلام –كالتبني (تجيزه بعض التشريعات الوضعية مثل تونس من البلدان الإسلامية) وهو أمر كان معروفا في الجاهلية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم قبل منعه قرآنا (كان ابنه بالتبني زيد بن حارثة)، وقد منع المشرع الجزائري التبني بالمادة 46 ق.أ.ج " يمنع التبني شرعا وقانونا"..

    - لا يثبت النسب بالزنا ولو عُرف الزاني وأقر أو أثبت البينة والعلم ذلك (وهناك من يرى إثبات النسب للزاني حفظا لمصلحة الولد إذا أثبتت البصمةالوراثية ذلك وهو أمر لا يُسلّم به).

    *والنسب في الإسلام لا يقبل الإبطال بعد ثبوته بالطرق الشرعية المتقدم ذكرها ولا يقبل النقل بالبيع والهبة والتنازل والإرث والوصية، ولا يُحرمه الولد ولو كان عاقا (كما يفعل العرب في الجاهلية) بل ولو كان كافرا (الخليع في الجاهلية).

    - لا يمكن للزوج أن ينفي نسب أولاد زوجته إلا بالملاعنة المعروفة شرعا.

    البصمة الوراثية وحجيتها في إثبات النسب ونفيه:

    استقراء لأحكام الشريعة ومقاصدها وفتاوى فقهائها لا يكون مقبولا شرعا استخدام الهندسة الوراثية والبصمة الوراثية لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي من الطرق المعتبرة شرعا، وإنما تبقى إمكانية إعمال البصمة الوراثية لإثبات أو نفي أبوة (نسب) لم تثبت بطريق شرعي صحيح، كحالة مجهول النسب إن ادعاه اثنان فأكثر، وكحالة مجهول النسب إذا ادعى نسبه لشخص وأراد هذا الشخص (الأب) المقر بنسبه أو ورثته التأكد من صحة الدعوى بتحليل البصمة الوراثية.

    ويرى كثير من الفقهاء المعاصرين أن البصمة الوراثية تصلح شرعا أن تكون طريقة لإثبات النسب إذا تعذر إثباته بطريق شرعي معتبر (الزواج-الإقرار- البينة- القيافة).

     فالشريعة كما قبلت البينات (الشهادة) قبلت القرائن القاطعة، والبصمة الوراثية قرينة علمية قاطعة (يقينية تقريبا إذا استبعدنا الخطأ البشري).

    -          إن بعض الفقهاء (الشافعية والحنابلة والمالكية) قالوا بالقيافة في إثبات النسب شرعا، مع أن القائف يقول بغلبة الظن والحدس والتشبيه والقياس واحتمال خطئه وارد، ومع ذلك قالوا بالقيافة (لتشوّف الشارع إلى النسب) وقياس البصمة الوراثية على القيافة في إثبات النسب مقبول، بل إن التقنية الجينية أدق وأقوى وأصدق فهي أولى بالاعتبار من القيافة لاستبعاد الخطأ فيها.

    -          ثم إن الأخذ بنظام البصمات (بصمة الأصابع، التوقيع الخطي، الصور الشخصية وغيرها) مما عمم الأخذ به في القوانين المعاصرة، ولم ينكر فقهاء الشريعة ذلك، وهي وسائل أثبتت فعاليتها وفائدتها. والبصمة الوراثية نفسها أثبتت فعاليتها وفائدتها في إثبات الهوية الشخصية وتكاد تتفق القوانين المعاصرة على الأخذ بها في مجال الإثبات الجنائي مما يبرر الأخذ بها كذلك في مجال إثبات النسب للمجهولين.

    لكن: لا تُقدم هذه الوسيلة (على عمليتها ودقتها) على الفراش (الزواج الشرعي) ولا على شهادة التسامع (أي من عُرف عند الناس نسبه لغيره) ولا على البينة (الشهادة)، وإنما الراجح والمعقول أن تُقدم على القيافة لحجتها وعلميتها وقطعيتها عليها بضوابط أهمها:

    - الخبرة والكفاءة: في الشخص الذي يقوم بعملية التحليل الجيني للـ  DNA،والاحتياط اللازم في أخذ العينات المحللة من الآباء والأبناء.

    - العدالة (والإسلام عند بعض الفقهاء) لأن أمر النسب خطير فلا تقبل شهادة (قول، خبرة) غير المسلم وغير العادل الكفء.

    - تعدد الخبراء المؤكدين للبصمة الوراثية.

    *تبقى البصمة الوراثية قرينة لإثبات النسب وآثاره، ولا تثبت بها الحدود (كحد الزنا) التي حددت الشريعة الإسلامية كيفيات مخصوصة لإثباتها (شهادة الشهود الأربعة أوالإقرار من الجاني)

    -البصمة الوراثية واللعان: تكاد كلمة فقهاء الشريعة الإسلامية تجتمع على أنه إذا ثبت النسب شرعا بالطرق المعتبرة؛ فلا تصلح البصمة الوراثية مستقلة -على علميتها- طريقا لنفيه، فلا ينفى إلا بالملاعنة بشروطها فإذا لاعن الزوج زوجته فُرق بينهما، ولم يُنسب الولد للزوج، ولو أثبتت البصمة الوراثية أن الولد ابن طبيعي للزوج، وهذه المسألة شائكة صعبة تحتاج إلى اجتهاد جماعي ويلاحظ أن دار الإفتاء المصرية، جمعت بين الملاعنة والبصمة في فتوى واحدة، ففرقت بين الزوجين المتلاعنين وأثبتت نسب الولد لأبيه الملاعن بعد إثبات البصمة الوراثية أنه أبوه.

    وقد أورد مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشر بمكة المكرمة (مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد 16 لسنة 2003) ما يلي:

    - أما بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها، فإن المجلس بعد النظر.... تبين من ذلك كله أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما.

    وفي إسناد العينة (من الدم أو اللعاب أو المني) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها....قرر ما يلي:

    - لا مانع شرعا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لحديث "ادرؤوا الحدود بالشبهات "...

    - أن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية .

    - لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.

    - لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة حماية لأعراض الناس وصونا لأنسابهم.

    - يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:

    1-  حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أو بسبب الاشتراك في وطء الشبهة.

    2- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.

    3- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث والكوارث والحروب...

    - لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس أو لشعب أو لفرد لأي غرض كما لا يجوز هبتها لأية جهة لما يترتب على ذلك من مفاسد.

    وأوصى المؤتمر بما يلي:

    - أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص لمخاطر ذلك.

    - تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة يشترك فيها المختصون الشرعيون والأطباء والإداريون للإشراف على نتائج البصمة الوراثية واعتماد نتائجها.

    - وضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش ومنع التلوث.... حتى تكون النتائج مطابقة للواقع.

    وعدم تقديم البصمة الوراثية على اللعان هو قول غالبية فقهاء الشريعة الإسلامية المعاصرين، وهوما أقره مجمع الفقه الإسلامي  المنعقد في الرباط " لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان..."

    فلا تقدم البصمة الوراثية على النصوص الشرعية "الولد للفراش" فمتى كان الفراش ثابتا شرعا كان الولد لاحقا قطعا (كما قال الشوكاني)، ولا تُقدّم على البينة والإقرار كذلك .

    وهناك من الفقهاء من يرى الاستغناء عن اللعان والاكتفاء بنتيجة البصمة الوراثية لقطعيتها ويقينيتها علميا إذا طلبها الزوج وقبلتها الزوجة.

    وإن كانت كلمة الفقهاء متفقة على أنه:

    -إذا لاعن الزوج ونفى نسب الولد وأكدت البصمة الوراثية قوله فإن النسب ينتفي ويفرق بين الزوجين ، لكن الزوجة لا تُحدّ لوجود شبهة اللعان و القاعدة الشرعية أن " الحدود تُدرأ بالشبهات" .

    - إذا رضي الزوجان بإجراء البصمة الوراثية قبل اللعان للتأكد وإزالة الشبهة فإنّ ذلك يجوز في حقهما 

    وقطع النسب ليس من لزوم اللعان كما تقره قواعد الشرع ، فالبصمة الوراثية إذا خالفت دعوى الزوج فلا أساس لقوله بنفي النسب ولو لاعن زوجته، وتثبت حقوق الولد من أبيه، ولا يناقض ذلك أحكام الشرع، فـ"أيّ طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ، ليست مخالفة له..."  كما قال ابن القيم.

    وفي هذا الشأن يقول الدكتور يوسف القرضاوي:" إنه من العدل أن يستجاب للزوجة إذا طلبت الاحتكام إلى البصمة الوراثية على أساس أنها لا تفعل ذلك إلا إذا كانت متيقنة من براءتها وتطلب اللجوء إلى وسيلة علمية مقطوع بها، فهي تطلب الاحتكام إلى البصمة الوراثية لإثبات أمور ثلاثة غاية في الأهمية:

    1. براءة نفسها ...
    2. إثبات نسب الولد من أبيه...
    3. إزاحة الشك من قلب الزوجبالدليل العلمي...

    ويرى الدكتور القرضاوي أن الزوج لا يستجاب لطلبه الاحتكام  للبصمة الوراثية إلا إذا وافقت الزوجة لأن ذلك يضيع حقها في الستر وفقا للعان.

    .والخلاصة أنه بتوافر الضوابط والشروط التي أقرها فقهاء الشريعة الإسلامية فلا خلاف بينهم حول جواز استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب أو نفيه ، لكن يلاحظ أن بعض الفقهاء (بعض علماء الأزهر) قد أجازوا إثبات نسب ولد الزنا من المرأة غير المتزوجة إلى الزاني مراعاة لمصلحة الولد والمرأة وتقليلا من جرائم الزنا، وهي فتوى أنكرها مفتي الديار المصرية وغيره، ومن المفيد هنا أن نورد قول أحد الفقهاء المسلمين المعاصرين في هذا الشأن وهو الذكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين "إن علماء الفقه الإسلامي اتفقوا على إثبات النسب للأم بالميلاد أما الأب فلابد أن يتم ذلك عن طريق الوسائل الشرعية واعتبار إثبات ولد الزنا من خلال الاستعانة بتحليل البصمة الوراثية مردود عليه لأنه فعل محرّم"

    موقف  قانون الأسرة الجزائري:

    ذكر قانون الأسرة الجزائري في المادة 40 (بعد تعديل 05-02) في فقرتها الثانية: "يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب".

    وقد أراد المشرع الجزائري مسايرة التقدم العلمي الحاصل في مجال بيولوجيا الإنجاب، فأورد هذا النص على عموميته، وخصص المادة 45 مكرر منه للتلقيح الاصطناعي بقوله" يجوز للزوجين اللجوء للتلقيح الاصطناعي ..."

     وتأتي البصمة الوراثية في مقدمة هذه الطرق العلمية التي أشارت إليها المادة 40 ق.أ.ج، مع مراعاة ما استقر عليه الفقه الإسلامي المعاصر في شأنها، فيبقى الزواج الشرعي هو الأصل في إثبات النسب وتبقى البصمة الوراثية استثناء يلجأ إليه في حالة المجاهيل أو ضياع الأطفال أو عند التنازع في الأنساب حالات الاختلاط لانتفاء الأدلة أو لتساويها أو لاشتراك في وطء شبهة، وبالخصوص في حالات الفتن والحروب والكوارث  على النحو الذي يقره الفقه الإسلامي.

     وتجدر الإشارة أن القضاء في الجزائر وقبل تعديل قانون الأسرة السنة 2005 لم يكن يأخذ بالخبرة العلمية كدليل لإثبات النسب ، وإنما ظل متمسكا بالطرق الشرعية ، وذلك ثابت من خلال قرار المحكمة العليا (غرفة الأحوال الشخصية ) رقم 222674 المؤرخ في 2006 في 15 / 06 / 1999 ، ولكن بعد تعديل 2005 بدأت نظرة قضاة المحكمة العليا تتغير وذلك كما هو ثابت في قرار للمحكمة العليا يحمل رقم 355180 بتاريخ 05 / 03 / 2006  جاء فيه : « ... رغم أن المادة 40 من قانون الأسرة تفيد أنه يثبت النسب بعدة طرق ومنها البينة ، ولما كانت الخبرة العلمية ( ADN ) أثبتت أن هذا الطفل هو ابن المطعون ضده ومن صلبه بناء على العلاقة التي كانت تربطه بالطاعنة، فكان عليهم إلحاق هذا الولد بأبيه وهو الطاعن، لا أن تختلط عليهم الأمور بين الزواج الشرعي الذي تناولته المادة 41 وبين إلحاق النسب الذي جاء نتيجة علاقة غير شرعية ، خاصة وأن كليهما يختلف عن الآخر ، ولكل واحد منها آثار شرعية كذلك، ولما تبين من قضية الحال أن الولد هو من صلب المطعون ضده نتيجة هذه العلاقة مع الطاعنة، فإنه يلحق به، الأمر الذي يتعين معه نقض القرار المطعون فيه)

     وبالتالي فقد جاء هذا القرار باجتهاد معاكس تماما لما كان عليه الأمر سابقا ، كما أن هذا القرار عكس الاجتهاد حينما أكد أنه يثبت النسب بالبيئة ، وأن الخبرة العلمية ( ADN ) أثبتت أن الطفل هو ابن المطعون ضده ، وبالتالي فالقرار اعتبر الخبرة العلمية المنجزة صورة م صور البينة عكس ما كان يقول به سابقا . 

    والملاحظ أن القرار تطرق لوقائع حدثت قبل تعديل 27 / 02 / 2005 ولكونه صدر بعد تعديل القانون فإن القضاة حاولوا التوفيق بين وقائع حدثت أثناء سريان القانون القديم وتم البت فيها في ظل القانون الجديد لذلك تحدث القضاة عن قبولهم اللجوء إلى الخبرة العلمية ( ADN ) كصورة من صور البينة طبقا للمادة 40 قبل التعديل وليس للفقرة المستحدثة التي تجيز اللجوء إلى الخبرة العلمية لإثبات النسب .

    ويبقى لجوء القاضي للبصمة الوراثية في إثبات النسب أو نفيه من قبيل الخبرة الطبية ذات الحجية النسبية والتي يستعين بها دون أن تكون ملزمة له. مع ما تثيره من صعوبات قانونية يتمسك بها الخصم لتجنب التحليل الوراثي كتمسكه بمخالفتها للشريعة الإسلامية أو بأن الخضوع لهذا الفحص يتعارض مع حرمة الحياة الخاصة وقاعدة عدم إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه.

     


  • Topic 4

  • Topic 5