درس
المحاضرة السادسة
متطلبات الإكمال
المحاضرة السادسة
الطلاق بالتراضي
يعتبر الطلاق بالتراضي حالة من حالات عدم استحقاق المطلقة التعويض، وقد نص عليه المشرع الجزائري كصورة من صور فك الرابطة الزوجية. حيث جاء في المادة 48 من قانون الأسرة الجزائري على أنه:".. يحل عقد الزواج بالطلاق الذي يتم بإرادة الزوج أو بتراضي الزوجين أو بطلب من الزوجة.." ([1]).
وفيما يأتي بيان لمفهومه وصوره وآثاره في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري.
أولا: مفهوم الطلاق بالتراضي
يقصد بهذه الصورة أن كلا من الزوجين يريد فك الرابطة الزوجية بقناعة كاملة، على أن استمراريتها أضحت ضربا من المحال لأي سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف تجعل أحدهما أو كليهما غير قادر على الاستمرار في هذه العلاقة فتكون بذلك إرادة الطرفين متحدة من أجل إحداث الأثر القانوني المتمثل في الطلاق. وهذا معناه أنه يمكن للزوجين أن يتطالقا بتراضيهما، بالمعروف دون خصام أو نزاع، ويقابله الطلاق بالمنازعة أو النزاع عند عدم التراضي بينهما([2]). وهو ما يسمى بالطلاق بالإرادة المشتركة للزوجين.
فيكون من شروطه أن يتم بناء على طلب أحد الزوجين و موافقة الزوج الآخر أو بناء على طلبهما المشترك كأن تتقدم الزوجة للمحكمة بدعوى جوازية و الزوج بدعوى وجوبية طالبان فك الرابطة الزوجية.
وقد جاءت هذه المادة وسطا بين حق الزوج في إيقاع الطلاق منفردا، وحق الزوجة في طلب التطليق أو الخلع بإرادتها المنفردة في حدود ما ورد في المادتين 53 و 54 من قانون الأسرة.
وعلى هذا فإن المشرع باستحداثه هذه الصورة لفك الرابطة الزوجية إنما قصد بذلك ترك الحرية للزوجين للاتفاق بينهما فيما يريانه مناسبا لحالهما، دون بحث القاضي عن أسباب الانفصال، وبغض النظر عن فحوى الاتفاق، ولا معرفة الطرف المتضرر، كون الطلاق بالتراضي يسقط الحق في التعويض.
إلا أن المشرع لم يبين أحكام هذه الصورة من حيث الآثار الشرعية المترتبة عليها، ذلك أن الطلاق بالتراضي يختلف -من حيث آثاره الشرعية المترتبة عليه- عن الطلاق الذي يوقعه الزوج بإرادته المنفردة([3])، لأنه يأخذ عدة طرق -خارج دائرة القضاء- تترتب عليها أحكاما شرعية تختلف باختلاف طريقة وقوعه.
وما دام الأمر يقوم على الاتفاق بين الزوجين وتراضيهما فإنه قد يتم - وفقا لما هو مقرر في الفقه الإسلامي- بإحدى الطرق المقررة شرعا وهي كالآتي:
ثانيا: صور الطلاق بالتراضي
أولا: الجانب الفقهي
الأصل في العقود، وعقد الزواج واحد منها، أن لا يتم حلّها إلا بتراضي الطرفين كليهما كما تمّ إبرامهما، ولكن اختص عقد الزواج بالخروج عن هذا الأصل نظرا لطبيعته الخاصة، فغيره من العقود ليس فيه قوامة لطرف على آخر، أما عقد الزواج فينشئ مؤسسة اجتماعية أسرية لابد لانتظام أمرها من قوامة، وقد أسندت هذه القوامة-بحكم الشرع والعقل- للرجل دون المرأة -كما سبق بيانه-.
ومنه فلا يتوقف إيقاع الطلاق من الرجل على رضا الزوجة ولا على إذن القاضي كونه صاحب العصمة الزوجية، وإرادته كافية في إحداث الفرقة بالطلاق. واستثناء من هذا الأصل جعل للمرأة الحق في طلب الفرقة تطليقا أو خلعا- على ما سيأتي بيانه-.
وقد استحدث المشرع الجزائري لصورة فك الرابطة الزوجية بالإرادة المشتركة بين الزوجين وتراضيهما دون خصام أو نزاع.
ولا يتصور وقوع الطلاق -بهذه الصورة- إلا في حالات نص عليها الفقهاء، ولكل حالة أثرها المترتب عليها شرعا، مما يجعل الطلاق بالتراضي في الفقه الإسلامي مغايرا للصورة التي استحدثها المشرع الجزائري، وبالتالي يختلف الأثر المترتب على كل صورة تبعا لحكمها الشرعي، بينما لا يختلف الحكم وفق نظرة المشرع الجزائري بين الطلاق بالإردة المنفردة وإجراءاته وبين الطلاق بالتراضي، وإنما يكمن الخلاف بين الحالتين في الجانب المادي الذي يتعلق بالتعويض في الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج، إذا ثبت تعسفه في إيقاع الطلاق. وعليه لا بد من بيان صور الطلاق بالتراضي المقررة في الفقه الإسلامي وفق ما يأتي([4]):
أولا: حالة الخلع الاتفاقي
وهو صورة من صور الطلاق بالتراضي؛ كونه عقدا ينعقد بإيجاب وقبول، بأن تفتدي الزوجة نفسها ببذل مال للزوج، مع التزامها بذلك المال في مقابل خلاصها من الزوج، فهو بهذا يعتبر معاوضة من جانبها. ومن جانب الزوج يعتبر يمينا؛ لأنه علق طلاق زوجته على قبول المال([5]). واعتبار الخلع معاوضة من جانب الزوجة ويمينا من جانب الزوج يمثل في حدّ ذاته إيجابا وقبولا دالان على الرضا؛ لأن من أهم شروطه أن يتم بالتراضي أو الاختيار من الزوجة، فلا يصح مع الإكراه([6]).
فإذا تم الطلاق بالتراضي عن طريق الخلع فإنه يقع طلقة بائنة ينقص به عدد الطلقات في رأي الحنفية والمالكية، والشافعية في الراجح، وأحمد-في رواية- لقوله تعالى:]فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[([7]). وإنما يكون الفداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولا يكون ذلك إلا بالطلاق البائن. وفي رواية عن الإمام أحمد أن الخلع فسخ فلا ينقص بها عدد الطلقات التي يمتلكها الزوج([8]).
والملاحظ أن الطلاق بالتراضي وفق ما ذهب إليه المشرع الجزائري لا يأخذ نفس صورة الخلع الاتفاقي، كونه أجاز للزوجة اللجوء إلى الخلع دون التوقف على موافقة الزوج.
كما أن صورة الطلاق بالتراضي وفقا لما ذهب إليه المشرع تختلف عن صورة الخلع الاتفاقي من حيث الأثر الشرعي المترتب على الخلع الاتفاقي وهو الطلاق البائن على رأي الجمهور، ومن ثم فلا رجعة إلا بعقد ومهر جديدين.
ثانيا: حالة الطلاق على مال
يطلق الخلع في الفقه الإسلامي، فيراد به أحيانا معنى عام، وهو الطلاق على مال تفتدي به الزوجة نفسها، وتقدمه لزوجها سواء أكان بلفظ الخلع أو المبارأة، أم كان بلفظ الطلاق، وأحيانا يطلق ويراد به معنى خاص، وهو الطلاق على مال بلفظ الخلع، أو ما في معناه كالمبارأة، فكان الطلاق على مال بلفظ الطلاق قسيم الخلع، ولم يكن هذا شاملا له داخلا في عمومه. والأحكام المنصوص عليها بعضها يعم، والآخر يخص الطلاق على مال بلفظ الخلع والمبارأة([9]).
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخلع غير الطلاق على مال، وذهب الشافعية إلى أنه لا فرق بينهما، فهما اسمان لشيء واحد وهو الفرقة في مقابلة مال تعطيه الزوجة لزوجها([10]).
وفيما يلي بيان الفرق بين الخلع والطلاق على مال:
أ- إن كان الخلع على عوض باطل شرعا([11])، فلا شيء للزوج، ويقع الطلاق بائنا. أما إذا بطل العوض في الطلاق على مال فيقع طلاقا رجعيا عند الحنفية، ولا يجب شيء للزوج على زوجته في مقابل هذا الطلاق.
ب- يسقط الخلع-في رأي أبي حنيفة- كل الحقوق الواجبة لأحد الزوجين على الآخر، كالمهر والنفقة الماضية، لكن لا تسقط نفقة العدة؛ لأنها لم تكن واجبة قبل الخلع. أما الطلاق على مال فلا يسقط به شيء من حقوق الزوجية.
ج- الخلع مختلف في صفته؛ فهو عند الجمهور طلاق بائن، يحتسب به عدد الطلقات، وعند الإمام أحمد-في رواية- فسخ، فلا ينقص من عدد الطلقات. أما الطلاق على مال فلا خلاف في كونه طلاقا بائنا ينقص به عدد الطلقات.
إلا أنه ينحل بهما قيد الزواج في الحال، ويجب بكل منهما العوض الذي اتفق عليه الطرفان في مقابل الخلع أو الطلاق، وتلتزم الزوجة في كل منهما بالبدل ما دامت أهلا للتبرع([12]).
وما دام الطلاق على مال يقع بائنا (وهو صورة للطلاق بالتراضي)، فإن ما ذهب إليه المشرع الجزائري مخالف للقواعد الشرعية في الرجعة، إذ لا رجعة في هذه الصورة إلا بمهر وعقد جديدين.
ثالثا: حالة تفويض الزوجة في الطلاق
يملك الزوج طلاق زوجته، فله أن يتولاه بنفسه أو بواسطة غيره، وهذا الغير قد يكون هو الزوجة نفسها، وتسمى بذلك الزوجة مفوضة([13]). وذلك بأن ينيب الزوج زوجته في تطليق نفسها.
وقد أجاز جمهور الفقهاء([14]) التفويض في الطلاق، فيجوز للرجل أن يجعل للمرأة حق تطليق نفسها من غير أن يسلب ذلك الحق عن نفسه، وذلك بأن يفوض لها أمر طلاق نفسها إن شاءت، وقد يشترط لها ذلك عند العقد، بأن يقول لها عند إنشاء العقد: إذا تم عقد الزواج بيننا فأمرك بيدك تطلقين نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها متى شاءت، ولا تطلقها إلا واحدة رجعية، وليس لها أن تكرر ذلك إلا إذا كان قد أذن لها بالتكرار، وكما أن التفويض يصح عند إنشاء العقد يصح بعد تمام العقد أثناء قيام الحياة الزوجية([15]).
وتتجلى صورة التراضي في طلاق التفويض في إحدى صيغه الآتية([16]):
أولا: إذا اقترن التفويض بما يدل على التعميم، كأن يقول لها: جعلت لك أن تطلقي نفسك متى شئت، فللزوجة أن تختار نفسها متى شاءت، سواء كانت حاضرة حين التفويض أم كانت غائبة، وذلك لأنه ملكها هذا الحق تمليكا عاماّ فتملكه عامّا كما ملكه لها. ومتى اختارت نفسها كان الطلاق بالتراضي.
ثانيا: إذا اقترنت بما يدل على التخصيص بوقت دون وقت، أو بحالة دون حالة، كأن يقول لها جعلت لك أن تطلقي نفسك في أثناء شهر، ففي هذه الصورة تملك أن تطلق نفسها في الوقت الذي حدده لها، فإذا فات الوقت فلا تملك بعدها تطليق نفسها. وعلى هذا فاختيارها لنفسها في هذه الحالة يدل على رضاها بالطلاق.
ثالثا: إذا كانت عبارة التفويض مطلقة غير مقرونة بما يدل على التعميم ولا يدل على التخصيص، كأن يقول لها جعلت لك أن تطلقي نفسك ولا يزيد على ذلك، فإن الزوجة تملك تطليق نفسها في مجلس التفويض نفسه إن كانت حاضرة فيه، واختيارها طلاق نفسها في هذه الحالة يمثل صورة الطلاق بالتراضي.
وحكمه([17]): أنه يقع بالصريح طلقة واحدة رجعية، إلا إذا كان قبل الدخول فيقع بائنا، وإن كان التفويض في مقابل مال، فإنه يقع بائنا أيضا، وإن كان مكملا للثلاث، وقعت به بينونة كبرى.
ويقع بالكناية طلاقا بائنا لأنه لا يتم لها اختيارها لنفسها، أو يكون أمرها بيدها إلا بالبينونة، وإذا نوى به الثلاث وقع إذا كان بلفظ أمرك بيدك، أما إذا كان بلفظ "اختاري" فلا تصح نية الثلاث. وعند الإمام مالك إذا كان الخيار مطلقا فليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث([18]).
كما قد يأخذ الطلاق بالتراضي صورة مجردة عن أي سبب من نشوز أو إعراض من أحد الزوجين أو من كليهما، كأن تعترضهما عقبات وعوائق خارجة عن إرادتهما، فتجعل أحدهما أو كليهما غير قادر على الاستمرار في هذه العلاقة فتكون بذلك إرادة الطرفين متحدة من أجل إحداث الأثر القانوني المتمثل في الطلاق بالتراضي.
وحكم هذه الصورة أن الطلاق يقع رجعيا لاحتمال تغير الظروف والأسباب التي من شأنها أن تنصلح الحال بها. وتستحق بها المطلقة المتعة تخفيفا لها عن ألم الفراق.
وعلى هذا ينبغي قضاء تكييف صورة التراضي على الطلاق وترتيب الأحكام والآثار الشرعية والمادية وفقا لذلك.
ثانيا: الجانب القانوني
كثيرا ما يحدث الطلاق بالتراضي بين الزوجين اللذين يفضلان المحافظة على أسرار العلاقات التي بنيت بينهما، ويتم نتيجة تنازلات متبادلة بينهما، وعلى القاضي -في هذه الحالة- أن يحدد العناصر التي تم الاتفاق بشأنها لأن توحيد إرادة كلا من الزوجين على الطلاق مع الموافقة على جميع آثاره يجعل من القاضي موثقا يوثق إرادة الطرفين في حكم يعد إشهادا لا يوصف بما توصف به الأحكام عادة. وهذا ما تجلى من خلال قرارات المحكمة العليا بهذا الشأن منها: القرار المؤرخ في 19/4/1994 والذي جاء فيه:"من المقرر قانونا أن الصلح عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان به نزاعا محتملا، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التبادل عن حقه.
ومن المقرر أيضا أن الصلح ينهي النزاعات التي يتناولها ويترتب عليه إسقاط الحقوق والادعاءات التي تنازل عنها أحد الطرفين بصفة نهائية. ومتى تبين في قضية الحال أن قضاة المجلس لما قبلوا استئناف الحكم القاضي بالصلح المقام بين الطرفين والذي شهدت عليه المحكمة أخطأوا في تطبيق القانون، لأن الاستئناف لا يرفع إلا ضد الأحكام التي صدرت إثر نزاع بين الأطراف بخلاف الصلح الذي يبرم بين الأطراف الذين جعلوا حدّا للنزاع، وأن دور المحكمة ينحصر في مراقبة صحة وسلامة هذا الصلح، لأن الصلح عقد ينهي به الأطراف نزاعا قائما طبقا لأحكام المادتين 459 و 462 من القانون المدني، ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"([19]).
وفي معرض تأسيسها أكدت المحكمة العليا بشأن هذا القرار أن الاستئناف لا يرفع إلا ضد الأحكام التي صدرت إثر نزاع بين الأطراف بخلاف الصلح الذي يبرم بين الأطراف الذين جعلوا حدّا للنزاع، وأن دور المحكمة ينحصر في مراقبة صحة وسلامة هذا الصلح لأن هذا الأخير عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما طبقا للمادة 459 من القانون المدني([20])، كما أنه ينهي النزاعات التي يتناولها مثل ما نصت عليه المادة 462 من نفس القانون([21]).
يستشف من خلال هذا القرار أن المحكمة العليا اعتبرت ما يلي:
- الطلاق بالتراضي هو عقد صلح ينهي نزاعا قائما بين الطرفين.
- دور القاضي في تجسيد الصلح (الطلاق بالتراضي) يكون بمراقبة صحته وسلامته.
- الطلاق بالتراضي غير قابل للاستئناف([22]).
المآخذ القانونية على هذا القرار
يؤخذ على هذا القرار أنه حاول توظيف بعض الشروط والآثار التي لا تنجسم في الحقيقة وطبيعة صورة الطلاق بالتراضي، فاعتبار الطلاق بالتراضي عقد صلح ينهي نزاعا قائما بين الطرفين على مقتضى المادة 459 من القانون المدني أمر غير مستساغ، حيث يصبح الطلاق بالتراضي تتويجا قضائيا لنزاع قضائي أيضا، في الوقت الذي تتحدث فيه المادة 459 من القانون المدني عن الصلح الذي يسبق اللجوء إلى الحماية القضائية وينهي نزاعا لم يطرح بعد أمام القاضي، فالاقتباس من هذه المادة قد يصلح في مجال تنازل كل من الطرفين عن حقوقهما على وجه التبادل، ولكن ليس معنى ذلك اتقاء لنزاع أو إنهاء له، لأنه موجود ومطروح للنظر فيه من قبل القاضي([23]).
كما يؤخذ على هذا القرار أيضا أنه خول للقاضي مهمة مراقبة صحة وسلامة الصلح-أي الطلاق بالتراضي-وحصرها في ذلك، ثم أكد أن الحكم المتوج لذلك ليس قابلا للاستئناف، وفي هذه الفكرة يُلحظ التناقض الواضح، إذ كيف تُعطى للقاضي صلاحية مراقبة صحة وسلامة الصلح-الطلاق بالتراضي- ثم يجعل من مراقبته هاته غير قابلة للمراجعة من طرف المجلس القضائي، الذي قد يبطل شروطا أو يعلن عدم سلامة الصلح في مسائل معينة قد تكون هامة للطرفين أو لأحد منهما، وفي ذلك مساس بالمبدأ الدستوري القائل بالتقاضي على درجتين، زيادة على أن المادة 459 وما يليها من القانون المدني الذي استند عليها هذا القرار لم يتطرق لدور القاضي في مراقبة صحة وسلامة هذا العقد.
كما يطرح القرار إشكالية أخرى تخص مصطلحين متشابهين لغويا وهما عقد الصلح المشار إليه على أنه الطلاق بالتراضي وكذا الصلح الذي يقوم به القاضي بحضور الطرفين في حدود ما هو مخول له القيام به طبقا للمادة 49 من قانون الأسرة لإقناعهما العدول عن فكرة الطلاق حتى ولو كانا متفقين عليه.
من أجل ذلك واعتبارا للنقاط المثارة يمكن القول أن الاقتباس الذي جاء به قرار المحكمة الصادر في 19/4/1994 كونه عقد صلح طبقا للمادة 459 وما يليها من القانون المدني لم يكن موفقا لوجود اختلاف كبير في المفهوم القانوني والآثار المحددة للطلاق بالتراضي.
ومعالجة للثغرات التي وجدت في القرار - السابق ذكره- صدر قرار آخر في 23/5/2000 مبني على أساس المادة 48 من قانون الأسرة إذ جاء فيه ما يلي:"من المقرر قانونا أن الطلاق بالتراضي هو إشهاد من المحكمة على رغبة الطرفين في الطلاق ولا يوصف بالابتدائية أو النهائية ولا يحق لأي من الزوجين الطعن فيه إلا عن طريق دعوى التزوير"([24]).
فالواضح أن ما ذهبت إليه المحكمة العليا في هذا القرار أكثر دقة وسلامة، إذ جاء ترسيخا لمبدأ التراضي في إحداث الأثر القانوني. إذ لم يكن الاقتباس من القانون المدني موفقا في هذا الشأن، فأخرج هذا القرار الطلاق بالتراضي كصورة مستحدثة من دائرة التعامل المدني القائم على الصلح، وجعل لها اجتهادا خاصا لخصوصيتها أيضا نابع من المادة 48 من قانون الأسرة، وعليه فقد اعتبر هذا القرار صورة الطلاق بالتراضي:
- مجرد إشهاد عن رغبة الطرفين في الطلاق وليس عقد صلح ينهي نزاعا قائما.
- كما حصر دور القاضي في توثيق إرادة الطرفين في إحداث الأثر القانوني ولا يتعداه إلى مراقبة صحة وسلامة ما اتفق عليه. وفي ذلك تفعيل للهدف المرجو من استحداث هذه الصورة، حتى لا تكون هناك عقبات أمام الطرفين في جوانب متفق عليها ما لم تكن مخالفة للنظام العام والآداب العامة وفي حدود الشريعة الإسلامية([25]).
- الطلاق بالتراضي لا يوصف لا بالابتدائية ولا بالنهائية، وهو بذلك يختلف عن باقي الأحكام في جعله مجرد إشهاد.
أما ما يمكن إبداؤه من ملاحظات من الناحية الشرعية حول ما ذهب إليه المشرع الجزائري في صورة الطلاق بالتراضي، فيتمثل ذلك في أمرين أساسيين:
الأول: الأثر القانوني المترتب على الطلاق بإرادة الزوج المنفردة من إمكانية الرجعة دون عقد جديد قبل صدور الحكم بالطلاق، وبعقد جديد بعد صدور الحكم ما لم يكن هذا الطلاق مكملا للثلاث، هو نفسه ينطبق على صورة الطلاق بالتراضي. وهذا ما جاء في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ: 18/07/1988:"من المقرر قانونا أن الطلاق يمكن أن يتم بتراضي الزوجين ولا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي ومن راجع زوجته بعد صدور الحكم بالطلاق يحتاج إلى عقد جديد ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون. ولما كان ثابتا – في قضية الحال – أن قضاة الموضوع لما قضوا برجوع الزوجة رغم أن الطلاق وقع بالتراضي بينهما وتم إثباته بحكم وبقضائهم كما فعلوا خالفوا القانون. ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"([26]).
إلا أن المشرع قد خالف ما هو مقرر في الفقه الإسلامي من أن الطلاق بالتراضي الذي يتم عن طريق الخلع، أو الطلاق على مال أو تفويض الزوجة في الطلاق على مال، ففي كل هذه الحالات يقع طلقة بائنة، ومنه لا تجوز الرجعة إلا بعقد جديد حتى ولو لم يصدر حكم الطلاق بذلك من الناحية القانونية.
فكان الأولى بالمشرع أن يكيف الطلاق بالتراضي وفق الاتفاق الذي تم بين الزوجين، ويرتب الأثر الشرعي والقانوني وفقا لذلك.
الثاني: ويتعلق بالتعويض الذي أقره المشرع للمطلقة تعسفيا باسم المتعة، ومنه ففي حالة الطلاق بالتراضي لا تستحق المطلقة تعويضا، و إذا قضت المحكمة بخلاف ذلك يكون حكمها معرضا للنقض.
أما شرعا فتستحق كل مطلقة متعة الطلاق([27])، ما لم يكن الطلاق الواقع عليها طلاقا على مال أو بواسطة الخلع، لأن المرأة هي التي تلتزم بالفداء -في هاتين الحالتين- إذا خرجت من سلطان زوجها.
[3]- يكمن الفرق الأساسي بين الطلاق بإرادة الزوج والطلاق بالتراضي في موافقة أحد الزوجين لطلب الآخر على الانفصال وعلى ودية إحداث الفرقة، سواء كان بعوض أم بدونه، عكس الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج الذي يقع رغم رفض الزوجة الانفصال، فإرادة الزوجة في هذه الحالة ليست محل اعتبار، وتوافر رضاها من عدمه لا يغير في الموقف شيء. والأمر نفسه بالنسبة لطلب الفرقة من الزوجة تطليقا أو خلعا فليس ضروريا توافر رضا الزوج.كما أنه في صور الطلاق بالتراضي يتقلص دور القضاء عكس ما يلحظ في صورتي طلاق الزوج أو تطليق القاضي.
[4]- إضافة إلى صور الطلاق بالتراضي المنصوص عليها في الفقه الإسلامي، والتي تترتب على كل منها آثارها الشرعية من حيث وقوع الطلاق فيها رجعيا أو بائنا. هناك صورة قد تحدث حال اتفاق الزوجين على فسخ عقد الزواج المدني لسبب أو لآخر، دون نية أو تلفظ الزوج بلفظ الطلاق، فإنه في هذه الحالة يكون طلاقا صوريا شرعا، وطلاقا رسميا قانونا، وهذه الصورة لم يتكلم عليها الفقهاء القدامى، كون عقود الزواج لم تكن تسجل في زمانهم، وأن وقوع الطلاق لا يخضع لإشراف القضاء. فهذه حالة نادرة الوقوع، إلا أن حكمها يختلف بين الفقه والقانون. لأنه على القول بعدم وقوع الطلاق شرعا فإنه لا يترتب على ذلك أي أثر شرعي، أما قانونا فيسري على حكم هذه الحالة ما يسري على باقي طرق إيقاع الطلاق إذا صدر حكم قضائي بها. وقد رجح الصابوني عدم وقوع الطلاق الصوري. مدى حرية الزوجين في الطلاق، 1/317.
[6]- الخلاف واقع فيما إذا لم يرض الزوج على الخلع، هل للحاكم أن يجبره أم ليس له ذلك؟ وتفصيل هذه المسألة سيأتي لاحقا.
[9]- اختار الشيخ أبو زهرة المعنى العام للخلع.الأحوال الشخصية، ص 329. وذهب السيد سابق إلى اختيار المعنى الخاص، إذ يرى أن:" الفقهاء يرون أنه لا بد في الخلع من أن يكون بلفظ الخلع أو بلفظ مشتق منه، أو لفظ يؤدي معناه، مثل المبارأة والفدية، فإذا لم يكن بلفظ الخلع ولا بلفظ فيه معناه، كأن يقول لها: أنت طالق في مقابل مبلغ كذا وقبلت، كان طلاقه على مال ولم يكن خلعا".فقه السنة، 2/192.
[10]- انظر، سامح سيد محمد: الخلع بين المذاهب الفقهية الأربعة والقانون المصري، دار أبو المجد للطباعة، القاهرة، ط2، 2005، ص 111.
[12]- انظر، سامح سيد محمد: المرجع السابق، ص 111-113. حسن موسى الحاج موسى: المرجع السابق، ص 154. منال محمود المنشي: الخلع في قانون الأحوال الشخصية، دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون، دار الثقافة للنشر، عمان ،الأردن، 2008، ص 58-59.
[14]- انظر، ابن رشد: المصدر السابق، 2/71. ابن قدامة: المصدر السابق، 10/381. الشربيني: المصدر السابق، 3/377.
[15]- انظر، أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، دار الفكر العربي، القاهرة،(دط،دت)، ص 97. الأحوال الشخصية، ص 324.
[16]- انظر، شلبي: أحكام الأسرة في الإسلامي، ص 544-545. حسن موسى الحاج موسى: نفس المرجع السابق، ص 130-131.
[20]- حيث نصت على أن :" الصلح عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان به نزاعا محتملا، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التبادل عن حقه". الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 26/9/1975 المتضمن القانون المدني المعدل والمتمم.
[21]- حيث نصت على أنه:" ينهي الصلح النزاعات التي يتناولها ويترتب عليه إسقاط الحقوق والادعاءات التي تنازل عنها أحد الطرفين بصفة نهائية". الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 26/9/1975 المتضمن القانون المدني المعدل والمتمم.
[22]- ولذلك جاء في المادة 57 من نفس القانون التي عدلت كما يلي:" تكون الأحكام الصادرة في دعاوى الطلاق والتطليق والخلع غير قابلة للاستئناف فيما عدا جوانبها المادية". فالمادة عددت على سبيل الحصر الصور التي تكون غير قابلة للاستئناف فيما عدا جوانبها المادية وهي الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج والتطليق والخلع، ولم تذكر صورة الطلاق بالتراضي، وفي ذلك تأكيد على أن هذه الصورة لا يسري عليها ما يسري على باقي الصور الأخرى، باعتبارها مجرد إشهاد فهي لا توصف بالابتدائية ولا بالنهائية، وليست بذلك قابلة للاستئناف لا من حيث الطلاق ولا من حيث جوانبها المادية.
[23]- غير أن مفهوم الصلح في الفقه الإسلامي يؤدي إلى إنهاء النزاع وفض الخصومة بأثر إيجابي، ينتهي بعودة الحال إلى ما كانت عليه قبل التخاصم أو إلى أحسن منها. والتصالح المذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى:]وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير[ النساء:الآية 128. يعني أن الصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة. وعلى هذا فإن تنازل الزوجة عن بعض حقوقها لزوجها يكون من أجل الحفاظ على الرابطة الزوجية. وعلى هذا يختلف مفهوم الصلح في الآية الكريمة عن مفهومه من خلال المادة 459 من القانون المدني التي ينهي بموجبها النزاع القائم بغض النظر عن أثره السلبي أو الإيجابي، كما جاء مفهومه السلبي (الانفصال) في القرار الصادر عن المحكمة العليا والمؤرخ في 19/4/1994.
[25]- يشترط على القاضي إجراء محاولة صلح و ذلك للتأكد من عزم الزوجين على الطلاق. كما يمكن أن يتفقا على آثار الطلاق كحضانة الأولاد و حق الزيارة و نفقة الأولاد و تحديد النفقة، غير أنه يشترط في كل ذلك أن لا يكون هذا الاتفاق منافيا لمصلحة الأولاد و إلا حكم القاضي بخلاف ذلك.
[27]- ذهب المالكية في الصحيح إلى أن المرأة (المملكة والمخيرة) إذا أوقعت الطلاق على نفسها لا تستحق المتعة، لأنها متسببة في وقوع الفرقة باختيارها، فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها. كما أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة كامرأة المجذوم والعنين، ولا الفسخ ولا المختلعة ولا الملاعنة. انظر، الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/83.
هذا الدرس غير جاهز لبدئه بعد