درس
المحاضرة الحادية عشر التفريق القضائي في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
متطلبات الإكمال
المحاضرة الحادية عشر
التفريق القضائي في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
لقد أجازت المادة 53 من قانون الأسرة للزوجة طلب التطليق بتوافر جملة من الأسباب، وقد صاغ المشرع الجزائري نص هذه المادة انطلاقا مما هو مقرر شرعا، وذلك لعدة اعتبارات أهمها؛ أن الطلاق حق للزوج يملك إيقاعه بنفسه لأنه صاحب العصمة، إلا أن الشريعة الإسلامية راعت جانب الزوجة لرفع الحرج والضرر عنها حيث لا تملك مالاً تفتدي به نفسها، ففتحت لها بابا للخلاص - وإن لم يرض به الزوج- وأوجبت على القاضي الاستجابة لطلبها متى وجد السبب الذي يقتضي حالة الفرقة بين الزوجين، وفي هذا تكريس لمطلق العدالة الإلهية.
وقبل الحديث عن جملة الأسباب التي تخول للمرأة طلب التطليق، لا بد أولا من بيان مفهوم التفريق القضائي في الفقه الإسلامي وما ذهب إليه المشرع الجزائري من خلال ما يأتي:
المطلب الأول: التطليق في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
إن من الصلاحيات التي أعطتها الشريعة الإسلامية للقضاة أن جعلت لهم حق التفريق بين الزوج وزوجته، وإنما يثبت لهم ذلك الحق في التفريق إذا كان فيه المحافظة على حق أمرت الشريعة بالمحافظة عليه، سواء ما تعلق منها بحقوق الشريعة نفسها، أم ما تعلق بحقوق أحد الزوجين، أم ما تعلق بحقوق غيرهما.
إلا أن التفريق القضائي الذي عناه المشرع الجزائري إنما يتثمل في جملة الأسباب التي عدّها وفق المادة 53 موجبات لحقّ المرأة في طلب التطليق. غير أن التفريق القضائي في الفقه الإسلامي يشمل جميع الفُرَق التي يوقعها القاضي سواء كانت طلاقا، كالخلع، وكالتطليق لإعسار الزوج عن نفقة زوجته، أم فسخا كالتفريق بسبب اللعان، أو بسبب الإيلاء، على اختلاف بين فقهاء المذاهب في الفرق التي تتوقف على القضاء ويترتب عليها الطلاق أوالفسخ بحسب موجبها([1]). وفيما يأتي بيان ذلك بإيجاز:
الفرع الأول: الجانب الفقهي
أولا: التفريق في اصطلاح الفقهاء
هو إنهاء العلاقة الزوجية بين الزوجين بحكم القاضي بناء على طلب أحدهما لسبب كالشقاق والضرر، وعدم الإنفاق..أو بدون طلب من أحد حفظا لحق الشرع، كما إذا ارتد أحد الزوجين. وما يقع بتفريق القاضي طلاق بائن في أحوال، وفسخ في أحوال أخرى، وهو طلاق رجعي في بعض الأحوال([2]).
ثانيا: سلطة القاضي في إيقاع الطلاق
من المعلوم أن الأصل في الطلاق حصوله بيد الزوج لا بيد غيره ولو قاضيا، ولكن أجاز جمهور الفقهاء للقاضي بما له من ولاية أن يقوم بالتفريق بين الزوجين نيابة عن الزوج عند نشوزه وتحقق ظلمه لزوجته، فمهمة القاضي منع الظلم ورفع الضرر، وذلك في حالات معينة نصوا عليها، ولعل أكثر الأئمة توسعا في إعطاء القاضي الحق في إجابة طلب المرأة بالتطليق المالكية والحنابلة، على العكس فيما ذهب إليه الأحناف الذين لم يعطوا القاضي الحق في طلاق المرأة إلا لعيب في الزوج، بل اختلفوا فيما بينهم في حدود حق القاضي في التطليق، فقصره الإمام أبو حنيفة على العيوب التناسلية في الرجل، وأضاف محمد الجنون والجذام والبرص([3]).
ثالثا: أسباب التفريق القضائي
إن تفريق القاضي بين الزوجين يكون لحقّ من حقوق الشريعة الإسلامية؛ كأن يرتد أحد الزوجين عن الإسلام، ويثبت ذلك أمام القاضي بإحدى طرق الإثبات الشرعية، فيأمر القاضي بالافتراق من تلقاء أنفسهما، فإن لم يفعلا فرق بينهما.
وإما أن يكون التفريق لحقّ من حقوق أحد الزوجين، فقد يكون صاحب الحق هو الزوج، كما في اختياره نفسه بعد البلوغ، وقد يكون صاحب هذا الحق هو الزوجة، كما في اختيارها نفسها بعد البلوغ أيضا. وقد يكون صاحب هذا الحق هو ولي الزوجة، كما لو زوجت المرأة البالغة نفسها بدون مهر أمثالها ولم يرض الولي، ولم يرض الزوج أيضا أن يكمل لها مهر أمثالها.
وتفريق القاضي بين الزوجين لواحد من هذه الحقوق لا يكون إلا بعد أن يتقدم إليه صاحب الحق طالبا التفريق([4]).
ويلاحظ أن معظم حالات طلب التفريق تكون من قبل الزوجة([5])، فإذا تضررت من زوجها بأن لم يوفّها الزوج حقوقها الشرعية، فلها أن ترفع الضرر عن نفسها شرعا، حيث مكنتها الشريعة الإسلامية في هذه الحالة من أن ترفع أمرها إلى القضاء طالبة تطليقها من زوجها -لأنها لا تملك الطلاق- فإذا أثبتت بأي طريق من طرق الإثبات ما يسوغ شرعا تطليقها حكم لها القاضي بتطليقها منه، بناء على طلبها، ويكون القاضي نائبا عن الزوج الذي امتنع من تطليقها، لأن امتناعه ظلم، والذي يرفع الظلم ويحق الحق وينظر في مصالح الناس الدينية والدنيوية هو القاضي.
والحالات التي يجوز للقاضي فيها التفريق تشمل: التفريق لعدم الإنفاق، والتفريق للعيب أو للعلل الجنسية، والتفريق للضرر بسبب سوء العشرة أو الشقاق والنزاع بين الزوجين الذي يتعذر معه الإصلاح، والتفريق للغيبة والتفريق للحبس أو الأسر، وذلك حفظا لحق أحد الزوجين، والتفريق بسبب الإيلاء واللعان والظهار وردّة أحد الزوجين وذلك بحكم الشرع([6]).
الفرع الثاني: الجانب القانوني
تضمنت المادة 53 من قانون الأسرة الجزائري الأسباب التي يجوز للزوجة فيها طلب التطليق، فنصت على ما يلي:"يجوز للزوجة أن تطلب التطليق للأسباب الآتية:
1- عدم الإنفاق بعد صدور الحكم بوجوبه، ما لم تكن عالمة بإعساره وقت الزواج مع مراعاة المواد 78-79-80 من هذا القانون.
2- العيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج.
3- الهجر في المضجع فوق أربعة أشهر.
4- الحكم على الزوج عن جريمة فيها مساس بشرف الأسرة، وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية.
5- الغيبة بعد مرور سنة بدون عذر ولا نفقة.
6- مخالفة الأحكام الواردة في المادة 8 أعلاه.
7- ارتكاب فاحشة مبينة.
8- الشقاق المستمر بين الزوجين.
9- مخالفة الشروط المتفق عليها في عقد الزواج.
10- كل ضرر معتبر شرعا"([7]).
أولا: تعريف التطليق قانونا
هو طلاق بناء على الإرادة المنفردة للزوجة ويتم بحكم قضائي رغم معارضة الزوج له طالما أنها متضررة ويفرق القاضي بينهما عملا بقواعد العدالة والإنصاف([8]).
ويلاحظ من خلال نص المادة 53 من قانون الأسرة أنه لم تعد إرادة الزوج وحدها تحدث أثر انحلال الزواج بالطلاق، وأصبح بإمكان الزوجة أن تفك الرابطة الزوجية عن طريق القاضي إذا ما أثبتت سببا مشروعا يجعل الحياة الزوجية مستحيلة، وذلك تيسيرا على الناس وتجنبا للحرج وتماشيا وروح الشريعة الإسلامية.
ومقارنة بما جاء في المادة نفسها قبل تعديلها فإن المشرع قد وسع من دائرة الأسباب التي تخول للمرأة طلب التفريق القضائي (التطليق). وهذا يعتبر ارتقاء تدريجيا لتكريس حق الزوجة في التطليق بإيجاد رخصة لها في إمكانية فك الرابطة الزوجية عن طريق القاضي بعد تقديم الأسباب والعلل الشرعية في ذلك([9]).
والملاحظ أيضا أن المشرع الجزائري قد جاء بأسباب أكثر ليونة فيما يتعلق بهذه الصورة، وذلك بمنحه فرصا جديدة للزوجة في حال مطالبتها بالتطليق، وأوصلها إلى عشرة أسباب.
إلا أن فقهاء الشريعة قد حصروا أسباب التطليق في حالات معينة وهي: عدم النفقة والضرر المعتبر شرعا، وغيبة الزوج أو حبسه، والعيوب التناسلية([10]). غير أن بعض ما جاء به قانون الأسرة من أسباب للتطليق يعدّ توسعة على الزوجة في طلب التفريق بحقها في الخلع تارة، أو بسبب مخالفة الزوج للشروط المتفق عليها في العقد تارة أخرى، أو بسبب مخالفة الزوج أيضا للأحكام الواردة في المادة 8 من قانون الأسرة وغير ذلك.
وعلى العكس من ذلك فإن الشريعة الإسلامية، وحفاظا منها على استقرار العلاقة الزوجية، اتجهت إلى التضييق من كل ما من شأنه هدم الحياة الزوجية.
كما يلاحظ على المادة نفسها أنها لم تبين حكم التطليق عند وقوعه هل يقع طلاقا رجعيا أم طلاقا بائنا، إلا أنه يفهم من المواد 49 -50-51 أنها تشمل جميع صور فك بخصوص إجراءاتها عن طريق الطلاق([11]).
هذا، وقد بحث الفقهاء القدامى والمحدثين على اختلاف مذاهبهم كل هذه الأنواع وجملة الأسباب التي تخول للمرأة الحق في طلب التفريق القضائي، وفصلوا الحديث عنها بما لا يدع مجالا للخوض فيها.
غير أن ما أضافته المادة 53 من قانون الأسرة بموجب الأمر 05-02، ويتمثل ذلك بالتحديد في الفقرات السادسة والثامنة والتاسعة من نفس المادة، يتطلب الوقوف عندها لمعرفة مدى توافق ما ذهب إليه المشرع مع ما هو مقرر في الفقه الإسلامي.
ذلك أن المشرع الجزائري قد نص في الفقرة السادسة من المادة 53 أنه من حق المرأة أن تطلب التطليق عند مخالفة الزوج للأحكام الوادة في المادة الثامنة من قانون الأسرة، كما أفرد التطليق للشقاق المستمر وفق الفقرة الثامنة من المادة نفسها، في حين اعتبر الفقه الإسلامي الشقاق نوعا من أنواع الضرر الذي يستوجب التفريق عند استمراره وفشل الحكمين، كما أجاز للمرأة أن تطلب التطليق إذا لحقها ضرر بسبب الزواج عليها، لا بمجرد تعدد زوجها في الزوجات. كما ذهب المشرع الجزائري إلى منح الحق للمرأة في طلب التطليق عند مخالفة الزوج للشروط المتفق عليها في عقد الزواج وفق الفقرة التاسعة التي يعتبر مصدرها في الأساس المادة 19 من قانون الأسرة، والتي سبق التطرق إليها عند الحديث عن الاشتراط في عقد الزواج، ومنه فلا داعي للوقوف عندها.
على أن الفقرتين السادسة والثامنة من المادة نفسها تطرحان عدة إشكالات فقهية من حيث سلطة القاضي في إجابة طلب المرأة في التفريق بينها وبين زوجها بالتطليق. وفيما يلي بيان ذلك.
[4]- يلاحظ أن التفريق يختلف عن الطلاق؛ بأن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته، أما التفريق فيقع بحكم القاضي، لتمكين المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبرا عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع.
[7]- عدلت بالأمر رقم 05-02 المؤرخ في 27/2/2005، وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"يجوز للزوجة أن تطلب التطليق للأسباب التالية: 1- عدم الإنفاق بعد صدور الحكم بوجوبه، ما لم تكن عالمة بإعساره وقت الزواج مع مراعاة المواد 78-79-80 من هذا القانون.2-العيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج.3- الهجر في المضجع فوق أربعة أشهر.4- الحكم بعقوبة شائنة مقيدة لحرية الزوج لمدة أكثر من سنة فيها مساس بشرف الأسرة، وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية.5-الغيبة بعد مضي سنة بدون عذر ولا نفقة.6- كل ضرر معتبر شرعا ولا سيما إذا نجم عن مخالفة الأحكام الواردة في المادتين 8 و37 أعلاه.7- ارتكاب فاحشة مبينة".
[9]- واضح من تسهيل المشرع الجزائري من مهمة الزوجة في تأسيس طلبها وإعطائها فرصا أخرى تجعل من رخصتها الجوازية ترتقي شيئا فشيئا لمرتبة الحق الأصيل الذي يقابل إرادة الزوج المنفردة في إيقاع الطلاق.
[11]- ينطبق على هذه الحالة ما قيل بصدد الطلاق بالإرادة المنفردة وحكم الرجعة فيه قبل وبعد صدور الحكم بالطلاق وفق قانون الأسرة. ذلك أن المشرع الجزائري لم يعتبر اختلاف الحكم في التطليق باختلاف سببه. ذلك أن الأمر يختلف من حيث اختلاف فقهاء الشريعة الإسلامية في وقوع الطلاق على سبيل المثال بسبب عدم الإنفاق فيكون طلاق رجعيا عند المالكية، وفسخا عند الشافعية والحنابلة. والتفريق للعيوب طلاق بائن عند أبي حنيفة ومالك، وعند الشافعي وأحمد فسخ. والتفريق للغيبة عند مالك طلاق بائن، وعند أحمد فسخ. والطلاق للضرر طلاق بائن عند مالك. وعلى هذا تختلف الآثار المترتبة على الطلاق عنها في الفسخ.انظر، الدسوقي:حاشية الدسوقي،2/519. الشيرازي:المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/155. ابن قدامة: المغني، 11/ 365. السباعي: شرح قانون الأحوال الشخصية، 1/235 وما بعدها. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/15.
هذا الدرس غير جاهز لبدئه بعد