المحاضرة الرابعة عشر: التحكيم في دعوى التطليق للشقاق
المحاضرة الرابعة عشر:
التحكيم في دعوى التطليق للشقاق
خص المشرع الجزائري ندب الحكمين للإصلاح بين الزوجين في حال تفاقم الخصام بينهما ما لم يثبت الضرر، طبقا للمادة 56 من قانون الأسرة والتي نصت على أنه:"إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما. يعين القاضي الحكمين، حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرا عن مهمتهما في أجل شهرين"([1]). وهذا ما نصت عليه المادة 446 من قانون الإجراءات المدنية:"إذا لم يثبت أي ضرر أثناء الخصومة جاز للقاضي أن يعين حكمين اثنين لمحاولة الصلح بينهما حسب مقتضيات قانون الأسرة"([2]).
حيث يفهم من هذه النصوص أن المشرع الجزائري لا يلجأ إلى ندب الحكمين إلا في حالة تفاقم الخصام وعدم تبين الضرر، على خلاف ما هو ثابت شرعا من أن ندب الحكمين يكون لمجرد خوف الشقاق، منعا لاستمراره وتفاقمه كوسيلة ناجعة لإعادة الأمر إلى ما كان عليه، ولمعرفة الطرف المسيئ من المتضرر، ومن ثم تكون مهمة الحكمين الأساسية هي الإصلاح لا مجرد معرفة الطرف المتضرر للحكم له بالتعويض.
ومنه لا بد من معرفة أساس التحكيم في الفقه الإسلامي والتشريع الجزائري، وذلك على النحو الآتي:
أولا: الجانب الفقهي
الفرع الأول: تعريف التحكيم وحكمة مشروعيته
أولا: تعريف التحكيم لغة واصطلاحا
أ- لغة: مصدر حكم، يقال حكّمه في الأمر تحكيما، أي أمره أن يحكم فاحتكم وتحكم، يعني جاز فيه حكمه، واستحكم فلان في مال فلان، إذا جاز فيه حكمه. وحكّمت الرجل؛ أي فوضت الحكم إليه، ويقال: حكمته إلى حاكم؛ أي خاصمته إليه، ودعوته لحكمه. ومن اختاره الطرفان للتحاكم إليه يسمى حكما، أو محكّما، أو حاكما، ويسمى أطراف النزاع المحكم فيه، محتكما أو محكما بكسر الكاف وتشديدها([3]).
كما يفيد المنع أيضا، تقول: أحكمت فلانا أي منعته، وبه سمي الحاكم لأنه يمنع الظلم([4]). ويطلق الحكم على من يختار للفصل بين المتنازعين([5])، كما في قوله تعالى:]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[([6]).
يتبين من التعريف اللغوي أن التحكيم يفيد تفويض الأمر للغير، وكذلك رفع الأمر للحاكم للفصل في المنازعات بين المتخاصمين.
ب- اصطلاحا: عرفه الفقهاء بتعاريف متعددة وهي في جملتها لا تخرج عن المعنى اللغوي.
فقد جاء في الدر المختار أن التحكيم هو:"تولية الخصمين حاكما يحكم بينهما"([7])، وجاء في الحاوي الكبير:"إذا حكّم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو ليس فيه قاض جاز"([8])، وقال ابن قدامة:"إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكّماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز"([9]).
وعرفه الزرقا من المعاصرين بأنه:"عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضاهما شخصا آخر حكما بينهما للفصل في خصوماتهما بدلا من القاضي"([10]).
يتضح من جملة هذه التعاريف أن التحكيم هو([11]): أن يختار أطراف الخصومة طرفا ثالثا بتراضيهما ليفصل في النزاع القائم بينهما طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
والتحكيم بين الزوجين في اصطلاح الفقهاء هو:"تولية الزوجين المتنازعين رجلين من أهلهما للإصلاح بينهما والفصل في خصومتهما"([12]).
ثانيا: مشروعيته
ثبتت مشروعية التحكيم بالكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة.
أ- من الكتاب: وردت آيات عديدة تفيد مشروعية التحكيم:
منها قوله تعالى:] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[([13])، ووجه الدلالة في هذه الآية أن الله تعالى أمر في حالة الشقاق بين الزوجين ببعث حكمين حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة، وفي هذا دليل على مشروعية التحكيم بين الزوجين عند وقوع التنازع بينهما، أو إذا ما خيف وقوع الشقاق بينهما، وإذا ما جاز التحكيم بين الزوجين جاز في سائر الحقوق والدعاوى.
كما أن الأمر الوارد في الآية "فابعثوا" يفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن حقيقته إلى الندب، ولا توجد قرينة هنا، وبالتالي يكون بعث الحكمين واجبا([14]).
وقوله تعالى:] فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[([15])، فقد أرشدت الآية الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم.
وقوله تعالى:] فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[([16])، ووجه الدلالة في الآية أن الله تعالى خير نبيه r إذا جاءه أهل الكتاب محتكمين إليه بين الحكم أو الإعراض عنهم.
ب- من السنة: ثبتت مشروعية التحكيم من السنة بأحاديث كثيرة منها:
ما جاء في حديث بريدة "أن رسول الله r كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"([17]).
ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله r أوصى أمراء الجيوش والسرايا بقبول التحكيم إذا ما طلبه الأعداء، وهذا تشريع منه r بإمضاء التحكيم، وما يؤدي إليه اجتهاد المحكم.
ج- من الإجماع: انعقد الإجماع على جواز التحكيم ومشروعية العمل به من عصر الرسول r إلى يومنا هذا، قال السرخسي:"والصحابة مجمعون على جواز التحكيم"([18])، وقال الشربيني:"ولو حكّم خصمان رجلا غير قاض في غير حدّ الله من مال أو غيره جاز مطلقا على التفاصيل الآتية بشرط أهلية القضاء، ولا يشترط عدم القاضي لأنه وقع لجمع من كبار الصحابة ولم ينكره أحد ، قال الماوردي: فكان إجماعا"([19]).
ثالثا: حكمة مشروعيته
شرع التحكيم لغرض فض المنازعات والخلافات القائمة بين الناس دون اللجوء إلى القضاء نظرا لطبيعة الإجراءات المتبعة أمامه، والتي يجد فيها الناس كثيرا من المشقة والتعب.
وتتحقق من خلال نظام التحكيم مصلحتين: مصلحة القضاء في تخفيف العبء عنه، ومصلحة الأفراد في رفع المشقة عنهم الخاصة بإجراءات التقاضي وتعقيداتها، والتي تكون في بعض الأحيان حائلا دون تحقيق العدالة في إيصال الحق إلى أهله([20]). قال ابن العربي:"وتحقيقه-أي التحكيم- أن الحكم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم، بيد أن الاسترسال على التحكيم خرق لقاعدة الولاية مؤدٍّ إلى تهارج الناس..فلا بد من نصب فاصل-أي حاكم يفصل الدعاوى- فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه-أي عن الحاكم- وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدتان"([21]).
الفرع الثاني: دور الحكمين في الإصلاح بين الزوجين
لما كان الغرض من الحياة الزوجية إقامة أسرة مستقرة عني التشريع الإسلامي ببيان ما يجب أن يكون إذا تصدع ائتلاف الزوجين، وهو بعث حكمين من أهله وأهلها يبذلان غاية جهدهما في جمع الشتات وإصلاح ذات البين، لقوله تعالى:] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[([22]). فهذا الإجراء وقائي وعلاجي إذا خيف فوات الأصل في العلاقة الزوجية وهو الاستقرار والدوام.
أولا: العشرة بالمعروف هي أصل العلاقة الزوجية
إن الأصل في العلاقة الزوجية أن تقوم على العشرة بالمعروف لقوله تعالى:] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[([23])، فالخطاب في هذه الآية موجه للأزواج، حيث أمرهم الله تعالى بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها والميل إلى غيرها، وترك العبوس في وجهها بغير ذنب([24]). ومن ناحية أخرى أوجب الله تعالى على المرأة أن تطيع زوجها طاعة مطلقة في غير معصية فيما يتعلق بحياتهما الزوجية([25])، أما فيما يتعلق بأموال المرأة فليس للزوج حق التدخل فيها، لأن المرأة لها ذمة مالية مستقلة تماما عن الذمة المالية لزوجها، فلها حرية التصرف فيها ما دامت بالغة عاقلة راشدة([26]).
غير أنه قد لا يستمر الوئام بين الزوجين وتظهر بوادر الشقاق والخلاف بينهما، من أجل ذلك وضعت الشريعة الإسلامية حلولا محددة وحاسمة قد تنتهي بالمصالحة بين الزوجين، وقد تنتهي بالفرقة بينهما.
كما أن النشوز قد يكون من جانب الزوج، أو من جانب الزوجة، وقد يكون منهما معا.
ويكون التحكيم أو بعث الحكمين في حالة عدم معرفة الناشز منهما أو كلاهما ناشز بعصيان أحدهما الآخر، وتعذر الوفاق بينهما، وبات الفراق متوقعا، فيجوز للقاضي أن يبعث رجلين حكمين أحدهما من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة، لينظرا ما هو الأصلح لهما، وأدعى لدوام العشرة والمعاملة بالإحسان.
ويشترط في الحكمين: الإسلام والبلوغ والعقل والذكورية والحرية والرشد والفقه والعدالة والأمانة والإخلاص والورع والتقى([27]).
وإن تعذر ذلك فللقاضي أن يختار من يثق به ممن يقدّر هذه المهمة النبيلة([28]). ويستحب أن يكونا من أهل الزوجين وأقاربهما([29]).
ثانيا: عمل الحكمين
الهدف الأساسي للتحكيم، هو إصلاح العلاقات الزوجية، التي أصابها النزاع والشقاق، وإرجاعها إلى حالة الوفاق والوئام، فيكون الواجب على الحكمين بذل جهدهما في الإصلاح بين الزوجين والجمع بينهما([30]). قال الدسوقي:"يجب عليهما في مبدأ الأمر أن يصلحا بين الزوجين بكل وجه أمكنهما لأجل الألفة وحسن العشرة، وذلك بأن يخلو كل واحد منهما بقريبه"([31]). فعلى كل من الحكمين أن يتحدث مع من يمثله بصراحة وانفتاح، ليعرف واقع حالته، وما يشكو منه، وما يطلبه، للوصول معه إلى نتيجة تفضي إلى تحقيق الأصلح لهما. ثم يلتقي الحكمان ويتدارسان الأمر بصراحة ووضوح، لا يخفي أحدهما على الآخر شيئا مما له ارتباط بمعالجة الموضوع، ويتفقان على رأي واحد للحل، ورأيهما ملزم للطرفين.
فإذا استحكم الخلاف واتسعت هوة الشقاق فواجب على أهل الخير والإصلاح، وخاصة الحاكم أو القاضي التدخل لمعالجة الخلاف بالنصح والوعظ والإرشاد، أو بعث الحكمين للصلح بما يريانه من كل ما من شأنه أن يعيد الوئام والوفاق، وإن انسدت السبل، ورأيا أن التفريق هو الحل الأنسب فهل يكون لهما سلطة التفريق بين الزوجين، أم يقتصر دورهما في توجيه القاضي لذلك، وله-أي للقاضي- واسع النظر في تقرير ما يراه مناسبا؟.
ثالثا: مدى سلطة الحكمين في التفريق
اختلف الفقهاء في حق الحكمين في التفريق على قولين([32]):
القول الأول: يجوز لهما التفريق لكونهما مبعوثين من قبل القاضي، فلهما حرية اتخاذ ما يريانه مناسبا، إما الإصلاح أو التفريق، لقوله تعالى:] فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [([33])، وقوله تعالى:]وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[([34]). وبه قال المالكية([35])، -ورواية- عن الشافعية([36]) -ورواية- عن أحمد([37]). قال مالك:"وذلك أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل وامرأته في الفرقة والاجتماع"([38]).
القول الثاني: لا يجوز لهما التفريق لكون الحكمين وكيلين عن الزوجين ولا يجوز لهما التفريق إلا بوكالة من الزوجين، لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما. فمهمتهما الإصلاح فحسب، وبه قال الحنفية([39]) وهو قول للشافعية([40]) -ورواية- عن أحمد([41]).
الترجيح: أنهما حكمان يجوز قولهما في التفريق والاجتماع حتى بغير توكيل من الزوجين أو الإذن منهما، حسب المصلحة التي يريانها في المشكلة؛ لأن الله تعالى سماهما حكمين، فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل. وأيضا فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص، يقول ابن القيم:"الحكَم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك"([42]).
رابعا: نوع الطلاق عند تفريق الحكمين
على الرأي القائل أن الحكمين حاكمان غير وكيلان لهما سلطة الجمع والتفريق بين الزوجين، بعوض أو بغير عوض، برضا الزوجين وبغير رضاهما. وعليه فإذا فشل الحكمان في الصلح بين الزوجين، وحكما بالتفريق بينهما، فهل يكون الطلاق رجعيا أم بائنا؟.
يقول ابن العربي:"إذا حكم بالفراق فإنه بائن لوجهين: أحدهما كلي، والآخر معنوي. أما الكلي: فكل طلاق ينفذه الحاكم فهو بائن، وأما المعنوي: فإن المعنى الذي وقع الطلاق لأجله هو الشقاق، ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الشقاق"([43]).
وقال القرطبي:"فإن وجداهما قدا اختلفا ولم يصطلحا، وتفاقم أمرهما سعَيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة، فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كان غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما، وتفريقهما جائز على الزوجين، وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلهما، والفراق في ذلك طلاق بائن"([44]).
وليس لهما أكثر من طلقة واحدة يوقعانها، فإن أوقعا أكثر من طلقة واحدة تلزم واحدة ويبطل الزائد؛ لأن الواحدة هي طلاق السنة، ولأن حكم الحكمين ليس بأعلى من حكم الحاكم، ولا يطلق الحاكم أكثر من واحدة، فكذلك الحكمان.
جاء في بلغة السالك أنه:"لا يلزم الزوج ما زاد على الواحدة إن أوقعا أكثر من واحدة، قوله: ولا يلزم الزوج ما زاد، حاصله أنه لا يجوز لهما ابتداء إيقاع أكثر من واحدة، فإذا أوقعاه فلا ينعقد منه إلا واحدة؛ لأن الزائد خارج عن معنى الإصلاح"([45]).
هذا، ويفرق المالكية بين إساءة الزوج للزوجة، وإساءة الزوجة للزوج، فإن كانت الإساءة من جانب الزوج طلق الحكمان طلقة بائنة بدون أخذ مال من الزوجة للزوج، وإن كانت الإساءة من جانب الزوجة لزوجها طلقا نظير عوض مناسب تلتزم به الزوجة لزوجها، وإن كانت الإساءة من الجانبين وعجز الحكمان عن الإصلاح بينهما، فيرى البعض منهم أنه يتعين الطلاق بدون عوض منها، ويرى البعض الآخر أنهما يطلقان أو يخالعان بالنظر على شيء يسير منها لزوجها([46]).
وهذا ما أيده الأستاذ محمد بلتاجي حيث يرى بأن ما ذهب إليه المذهب المالكي في التحكيم بين الزوجين يجمع بين قوة الدليل وتحقيق المصلحة بالعمل على حسم الشقاق بين الزوجين بصورة عادلة يدخل فيها التطليق للضرر (إذا ثبت)، والخلع بين الزوجين إذا كانت المضارة من الزوجة واستحالت العشرة بينهما، والمالكية يرجعون في كل ذلك إلى نصوص القرآن والسنة([47]).
ثانيا: الجانب القانوني
نصت المادة 56 من قانون الأسرة على أنه:"إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما. يعين القاضي الحكمين، حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرا عن مهمتهما في أجل شهرين"([48]).
حيث نصت هذه المادة على وجوب تعيين الحكمين للإصلاح بين الزوجين عند اتساع هوة الخصام والشقاق بينهما ما لم يثبت عن ذلك ضرر أثناء الخصومة.
في حين نصت المادة 446 من قانون الإجراءات المدنية على جواز تعيين حكمين لمحاولة الإصلاح بين الزوجين:"إذا لم يثبت أي ضرر أثناء الخصومة جاز للقاضي أن يعين حكمين اثنين لمحاولة الصلح بينهما حسب مقتضيات قانون الأسرة"([49]).
كما يتضح من خلال نص المادة 449 من قانون الإجراءات المدنية أنه يجوز للقاضي إنهاء مهمة الحكمين، إذا ثبت له فشلهما في الإصلاح:"يجوز للقاضي إنهاء مهام الحكمين تلقائيا إذا تبينت له صعوبة تنفيذ المهمة وفي هذه الحالة يعيد القضية إلى الجلسة وتستمر الخصومة"([50]).
وما يمكن إبداؤه من ملاحظات حول موقف المشرع الجزائري من مسألة ندب الحكمين للإصلاح بين الزوجين ما يلي:
أولا: خص المشرع ندب الحكمين بحالة واحدة تعدّ سببا من أسباب التفريق القضائي بين الزوجين وتتمثل هذه الحالة في تفاقم الخصام بين الزوجين واستمرار الشقاق، دون أن يثبت الضرر في ذلك([51]).
ومنه يشترط لتعيين الحكمين في دعوى التطليق للشقاق([52]):
1- أن يشتد الخصام بين الزوجين، وتقدير شدة الخصام هنا أمر يتعلق بموضوع الدعوى، ولذلك يخضع تقديره لقاضي الموضوع.
2- ألا يثبت الضرر أمام القاضي، ولم يستطع القاضي التوفيق بين الزوجين.
ثانيا: أن المشرع قد قصر دور الحكمين في الإصلاح ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، وليس لهما القول بالتفريق بين الزوجين.
ثالثا: لا تعدو أن تكون سلطة الحكمين اللذين يعينهما القاضي مجرد تكليف بمهمة، فإذا فشلا في ذلك، فإن للقاضي إنهاء مهامهما تلقائيا، ويعيد القضية إلى الجلسة واستمرار الخصومة، بعد أن يطلع الحكمان القاضي بما يعترضهما من إشكالات أثناء تنفيذ المهمة طبقا للمادة 447 من قانون الإجراءات المدنية.
[1]- الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. يُفهم من نص هذه المادة أن تعيين القاضي للحكمين في حالة الشقاق بين الزوجين إنما يكون عند عدم طلب الزوجة التطليق استنادا إلى الفقرة الثامنة من المادة 53 من نفس القانون.
[2]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخة في 23/4/2008.
[3]- المعجم الوسيط: ص 190.
[4]- ابن منظور: لسان العرب،12/141.
[5]- المعجم الوسيط: ص 190.
[6]- النساء: الآية 35.
[7]- الحصكفي: الدر المختار، مطبعة محمد علي صبيح، مصر،(دط،دت)، 2/150.
[8]- الماوردي: الحاوي الكبير، 16/325.
[9]- ابن قدامة: المغني، 14/92.
[10]- مصطفى الزرقا:المدخل الفقهي العام، 1/619.
[11]- القضاء هو النظر في الخصومات التي تقع بين الناس بولاية عامة أما إن كان ذلك بولاية خاصة فهو التحكيم. انظر، أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 433.
[12]- انظر، ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/264.
[13]- النساء: الآية 35.
[14]- انظر، محمود محمد عوض سلامة: الصلح في مسائل الأحوال الشخصية، ص 65-66.
[15]- النساء: الآية 65.
[16]- المائدة: الآية 42.
[17]- مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، حديث رقم 1731. 2/828-829.
[18]- السرخسي: المبسوط،21/62.
[19]- الشربيني: مغني المحتاج،4/506.
[20]- انظر، محمود محمد عوض سلامة: الصلح في مسائل الأحوال الشخصية، ص 76-77.
[21]- ابن العربي: أحكام القرآن،2/622-623.
[22]- النساء: الآية 35.
[23]- النساء: الآية 19.
[24]- الجصاص: أحكام القرآن، 2/109.
[25]- الجصاص: أحكام القرآن، 2/188.
[26]- كما نصت على ذلك الفقرة الأولى من المادة 37 من قانون الأسرة الجزائري بموجب الأمر 05-02:"لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر".
[27]- راجع شروط الحكمين بالتفصيل: ابن قدامة: المغني، 10/265.
[28]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/265.
[29]- اختيار الحكمين من أهل الزوجين، يقصد منه الاستفادة من عاطفتهما، وحرصهما على مصلحة الزوجين القريبين منهما، كما أن اطلاعهما على أسرار حياة الزوجين، لا يشكل إحراجا كبيرا، كاطلاع الأجانب ضمن المحاكم العامة، إضافة إلى تجاوز هذا التحكيم العائلي قيود ونفقات المحاكم العامة. لكن ذلك مشروط بأن يأتي كل واحد من الحكمين بقصد الإصلاح، وعودة الانسجام والوئام بين الزوجين، لا بقصد الانتصار لطرف، أو الانتقام من الآخر.
[30]- يفترق المحكم عن القاضي الرسمي بأمور منها: أن سلطة القاضي وصلاحيته عامة على سائر الناس في منطقة قضائه. أما سلطة المحكم فمقصورة على المحتكمين إليه، لأنه في الأصل ليس منصوبا للقضاء من مرجع له سلطة الإلزام العام، وإنما جعل حاكما بإرادة من اختاروه، فلا ينفذ حكمه إلا في حقهم وفي الحدود التي قيدوه بها. الزرقا: المدخل الفقهي العام، 1/620.
[31]- الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/345.
[32]- الماوردي: الحاوي الكبير، 9/602-603.
[33]- البقرة: الآية 229.
[34]- النساء: الآية 130.
[35]- الباجي: المنتقى شرح موطأ مالك، 5/404-405.
[36]- الشيرازي: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 2/488.
[37]- ابن قدامة: المغني، 10/264.
[38]- الباجي: المنتقى، 5/404.
[39]- انظر،الجصاص: أحكام القرآن، 2/191.
[40]- الشيرازي: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 2/488.
[41]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/264.
[42]- ابن القيم: زاد المعاد، 5/190.
[43]- ابن العربي: أحكام القرآن،1/426.
[44]- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن،6/292.
[45]- الصاوي: بلغة السالك، 1/440. شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام، ص 603.
[46]- الدردير: الشرح الصغير، 1/440.
[47]- محمد بلتاجي: دراسات في الأحوال الشخصية، ص 97.
[48]- الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005.
[49]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخ في 23/4/2008.
[50]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخ في 23/4/2008.
[51]- كما يمكن ندب الحكمين في صورتي الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج، أو الخلع بطلب من المرأة ، ذلك أن سبب الفرقة في هاتين الحالتين لا تخلو من الشقاق، وقلّما تحصل الفرقة بغير سبب معقول.
[52]- لم يرد في نص المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري حكم ما إذا لم يوجد حَكَم من أهل كل من الزوجين أو من أهل أحدهما، وبالتالي يتعين الرجوع إلى إعمال حكم المادة 222 من نفس القانون والتي تقضي بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية.