الدرس الأول:
رابعا: تطور الفكر الاقتصادي و الأنظمة الاقتصادية
1- النظام الاقتصادي الرأسمالي
يستخدم تعبير الرأسمالية للدلالة على مرحلة تاريخية معينة وهي تلك التي تلت النظام الإقطاعي ابتداء من القرن 16 حيث بدأت أوروبا تظهر كقوة اقتصادية أولى في العالم حيث سيطرت على مراكز الإنتاج والتسويق والمواد الأولية والاكتشافات العلمية ويرجع هذا لعدة عوامل أهمها :
- اتساع النشاط الاقتصادي والسوق بظهور أنشطة اقتصادية جديدة فاقت النشاط الزراعي مثل التجارة والصناعة والملاحة والنقل.
- تكون المدن التجارية التي أدت إلى نزوح الفلاحين وهروبهم من الإقطاعيات إليها للبحث عن فرص العمل مما عزز ظهور أنشطة حديثة جراء زيادة عروض العمل في التجارة والصناعة إضافة إلى هذا تحرر هذه المدن من سلطات أسياد الإقطاع حيث شكلت هذه المدن بعد تزايد نموها وحدات سياسية واقتصادية مستقلة وكان ذلك سببا في انهيار النظام الإقطاعي.
- توافر أدوات التمويل والنقود جراء توسع النشاط الاقتصادي حيث ساهم اكتشاف القارة الأمريكية في تدفق الذهب والفضة على أوروبا وكذا اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح إلى تنشيط التجارة مع العالم الخارجي إضافة إلى اتصال أوروبا بالشرق الإسلامي جراء الحروب الصليبية مما أدى إلى نمو الاقتصاد النقدي على حساب الاقتصاد الطبيعي سمة النظام الإقطاعي الأمر الذي أدى إلى تنامي دور النقود في الحياة الاقتصادية مما ساعد على نمو حجم المعاملات النقدية وازدياد حجم السوق.
- التخلص من قيود الكنيسة وخاصة ما تعلق بفكرة الثمن العادل وتحرير سعر الفائدة مما أدى إلى نمو الروح التجارية و الفردية والتي تجعل الحصول على أكبر ربح ممكن هدف أي نشاط اقتصادي .
إلى جانب هذا فقد ظهرت الدولة بمعناها الحديث بعد القضاء على سلطات أمراء الإقطاع حيث ظهرت كجماعة تقوم على أساس قومي وتخضع لسلطة مركزية واحدة يرأسها حاكم هو الملك وتشعر بمصالحها المستقلة عن مصالح بقية الدول وهذا بعد تعاون التجار مع الملوك في القضاء على أسياد الإقطاع وهذا بعد موت الكثير منهم في الحروب الصليبية وفقر أغلب الباقين جراء انحسار دور النشاط الزراعي.
فهذه كانت معالم النظام الرأسمالي والذي ظهر بصورة الرأسمالية التجارية والذي تطور في القرون اللاحقة تطورا كبيرا من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية مع الثورة الصناعية حيث سيطر رأس المال الصناعي على النشاط الاقتصادي .
- المذاهب الاقتصادية الرأسمالية :
عرف تاريخ الفكر الاقتصادي بعد تلاشي النظام الاقتصادي الإقطاعي مذاهب ومدارس اقتصادية أرست الأسس الاقتصادية للنظام الرأسمالي عند نشأته وأثناء تطوره وساهمت بشكل كبير في نشأة وتميز علم الاقتصاد عن باقي العلوم الأخرى بطرق تحليليه وأبحاثه .وتمثلت هذه المذاهب الفكرية والمدارس فيما يلي :
1- مذهب التجاريين ( الرأسمالية التجارية ) MERCHANTILISM :
ظهر تيار الفكر التجاري منذ بداية القرن 15 واستمر سائدا من الناحية الفكرية ومن ناحية توجيهه للسياسة الاقتصادية في أوروبا حتى منتصف القرن 18.ويتمحور فكر المركانتالية في الإجابة عن التساؤلات حول ما هو مصدر الثروة؟ وما هي الوسائل العملية لإناء الأمة والأمير الذي يجسمها؟ وما هو دور الدولة في تحقيق الثروة ؟ وما الوسائل الكفيلة لضمان قوة الدولة؟ وما هي السياسات المالية والاقتصادية التي يجب أن تنتهجها للبحث عن مصادر الثروة والمحافظة عليها؟
وظهر الفكر التجاري في شكل مقالات وكتيبات ألفها تجار وسياسيون بهدف الحصول على امتيازات من حكوماتهم حيث دعوا إلى تدخل الدولة لحماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية وتشجيعها للتجارة والتي تعد النشاط الرئيسي بينما الصناعة وباقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى تعتبر تابعة للتجارة وفي خدمتها.
ويمكن تلخيص أهم أفكار المذهب التجاري التي تشكل فلسفتهم العامة فيما يلي :
* يجب أن تكون الدولة قوية ويجب أن تكون غاية النظام الاقتصادي تحقيق هذه القوة لذا سميت نظريتهم بنظرية الاقتصاد للقوة.
* الثروة هي أهم ما يحقق قوة الدولة ويعتبر الذهب والفضة وبقية المعادن النفيسة أهم أنواعها وأشكالها فمقياس ثروة الفرد يجب أن تقاس بما يحوزه من ذهب وفضة وما يصدق على الفرد يصدق على الدولة فلكي تكون الدولة قوية يجب أن تعمل وتوجه النشاط الاقتصادي للحصول على أكبر كمية من المعادن النفيسة عن طريق تشجيع الصادرات والإقلال من الواردات ، لهذا يرى التجاريون ضرورة تدخل الدولة لتحقيق هذه الغاية عن طريق التجارة الخارجية الأمر الذي جعل من التجارة في الفكر التجاري هي محور ومركز النشاط الاقتصادي .
* يعتبر التجاريون أن الثروة الكلية في العالم ثابتة الحجم مما يعني أن اكتساب أي دولة لهذه الثروة يكون عن طريق ما تفقده دولة أخرى منها لذا نادى التجاريون في كل بلد بأن يسعى بلدهم للحصول على الذهب والفضة من البلاد الأخرى الأمر الذي أدى إلى تسابق الدول الكبرى كفرنسا وبريطانيا ...إلى الاستيلاء على المستعمرات لجلب هذين المعدنين.
* في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية يرى التجاريون أنه يجب على الدولة أن تصدر أكثر مما تستورد أي يجب أن تبيع سلع وخدمات إلى الخارج أكثر مما تشتري وهذا لزيادة دخول عنصر الذهب والفضة وذلك عن طريق عن الصناعات الوطنية من الضرائب ومنحها إعانات كي تستطيع منافسة الصناعات الأجنبية في الخارج وبزيادة الرسوم الجمركية على الواردات من السلع المصنوعة وخفضها على واردات المواد الأولية التي تحتاجها الصناعات المحلية ولتحقيق هذا التوسع في التصدير وتقليل المنافسة من الخارج لا بد أيضا من الاستيلاء على المستعمرات لتصدير منتجاتها إليها دون منافسة من الدول الأخرى.
* في سبيل رفع معدل حصول الدولة من الذهب والفضة ظهرت هناك ثلاث سياسات مختلفة في كل من اسبانيا وفرنسا وبريطانيا على النحو التالي :
· التجاريون الإسبان ( أنصار السياسة المعدنية ) :تتلخص سياستهم في منع تصدير المعادن النفيسة إلى الخارج واشتراط استيفاء ثمن البضائع المصدرة بالمعادن الثمينة وبهذه السياسة بلغت اسبانيا في القرن 16 عصرها الذهبي حيث تكاثرت كمية الذهب والفضة الواردة عليها من مستعمراتها الأمريكية وتأسست صناعتها الضخمة وانتعشت أسواقها.
· التجاريون الفرنسيون ( أنصار سياسة التصنيع ) : وتقوم هذه السياسة على أن فرنسا في سبيل الحصول على الذهب والفضة من الخارج يجب أن تتجه لزيادة الصادرات على الواردات ،على أن تكون الصادرات من المنتجات الصناعية وليست من المحاصيل الزراعية ذلك أن الصناعة لا تخضع لتقلب العوامل الطبيعية الغير منتظمة مثل الزراعة ولتحقيق هذا قامت الدولة بفرض رسوم جمركية عالية على السلع الخارجية .
· التجار الإنجليز ( أنصار التبادل التجاري ) : وتقوم هذه السياسة في الحصول على المعادن النفيسة من الخارج عن طريق التجارة بين البلدان المختلفة وقد ساعد انجلترا على هذه السياسة الاقتصادية أسطولها التجاري الضخم الذي تميزت به على الدول الأخرى ،ولكي تشجع الدولة التجارة الإنجليزية فرضت قوانين تحمي بها تجارتها مثل قانون الملاحة الذي أصدره " كرومويل " سنة 1651 والذي استلزم أن تكون السفن القائمة بالتجارة بين انجلترا ومستعمراتها مملوكة لأشخاص إنجليز وأن يكون 4/3 البحارة من الإنجليز وأن لا تنقل البضائع الواردة من الخارج إلى انجلترا إلا بسفن إنجليزية أو تابعة للبلاد المنتجة لتلك البضائع.
* حاول التجاريون تفسير ارتفاع الأسعار في عهدهم في كافة الدول الأوروبية بالكشف عن السبب الحقيقي لهذا الارتفاع حيث أعطيت تفسيرات عديدة أهمها ما قال به " جان بودان " 1568 والذي أرجع سبب ارتفاع الأسعار لزيادة كمية النقود التي دخلت أوروبا على إثر زيادة دخول الذهب والفضة إليها حيث أن زيادة النقود أدت إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية والعكس صحيح أي أن تغيرات مستوى الأسعار متوقف على تغيرات كمية النقود وبهذا يكون بودان قد أسس لنظرية عرفت باسم النظرية الكمية في النقود .
- ملاحظة : وإن دعا التجاريون الدولة لأن تتدخل لحماية النشاط الاقتصادي من المنافسة الخارجية في كل دولة و أن تكون على جانب كبير من القوة إلا أن اقتصادهم فردي يعترف بالملكية الفردية ويجعلونها أساسا للنشاط الاقتصادي وما تدخل الدولة إلا من جهة التنظيم .
2- المذهب الحــر : أدى إسراف وتمادي الحكومات في تطبيق مبادئ التجاريين وكثرة التدخل في الشؤون الاقتصادية إلى شل الحياة الاقتصادية مما أدى إلى ظهور فلسفة المذهب الفردي أو المذهب الحر .وقد انتشر هذا المذهب في القرن 18 على إثر ظهور الطبيعيين في فرنسا والتقليديين أو الكلاسيك في انجلترا.
1- مدرسة الطبيعيين ( الفيزيوقراط )LES PHYSICORAYES :
تنسب إلى مجموعة من المفكرين بفرنسا في القرن 18 يتزعمها الطبيب " فرنسوا كيناي " ( 1694-1774 ) وأطلق لفظ الطبيعيين على مؤسسي المذهب الفردي بفرنسا لاعتقادهم بفكرة القانون الطبيعي والتي مفادها أن الظواهر الطبيعية تخضع لنظام طبيعي وقوانين طبيعية ثابتة ومطلقة وأبدية لخدمة سعادة البشرية لذا يجب ترك هذه القوانين تقوم بوظائفها تلقائيا دون معوق أو معطل لنشاطها لذلك نادوا بوجوب ترك الحرية للأفراد بما يحقق مصلحتهم الخاصة والتي هي في نفس الوقت مصلحة الجماعة وبناءا عليه تقوم الحياة الاقتصادية في نظرهم على مبدأين طبيعيين هما:
مبدأ المنفعة الشخصية التي تشكل الحافز الذي يحث الناس على النشاط الاقتصادي باعتبار أن كل شخص يهتدي في كل أنشطته الاقتصادية بما يحقق منفعته الذاتية، فهي القوة التي تدفعه لمباشرة هذا النشاط.
ومبدأ المنافسة حيث يدخل كل فرد في منافسة مع بقية أفراد مجتمعه وهذا لسعيهم جميعا لتحقيق منافعهم الشخصية .
كما نادوا بحرية التبادل في داخل البلاد وخارجها وعبروا عن هذا بشعارهم المشهور أتركه يعمل أتركه يمر LAISSER FAIRE,LAISSER PASSER أي دع الأفراد يعملون ودع السلع تنتقل بين البلاد دون أي تدخل من الدولة.
وبناءا على هذه الحرية السياسية والاقتصادية للطبيعيين فقد نادوا بعدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية وترك النشاط الاقتصادي حرا حيث ينحصر دور الدولة في نظرهم في حماية النظام الطبيعي من الاعتداء عليه وذلك بقيامها بصيانة الأمن في الداخل وإقامة العدالة بين الناس والدفاع والاهتمام بالتعليم باعتبار أن المتعلمين يحترمون من أنفسهم النظام الطبيعي أكثر من غيرهم.
* فكرة الناتج الصافي :يرى الطبيعيون أن ثروة الأمم إنما تكون بما تقوم به من إنتاج والذي عرفوه بأنه كل عمل يخلق ناتجا صافيا جديدا بأن يضيف مقدارا أكثر مما بذل في العملية الإنتاجية وبناءا على هذه الفكرة فإن النشاط الزراعي
هو النشاط الوحيد المنتج وذلك أن المحصول الزراعي يكون أكبر مما تم استهلاكه من البذور المستخدمة وبالتالي فالزراعة هي المصدر الوحيد للثروة أي التي تنتج ناتجا صافيا بعكس الأنشطة الأخرى من تجارة وصناعة والتي بالرغم من كونها نافعة إلا أنها تعتبر عقيمة غير منتجة لاقتصارها على مهمة تحويل السلع من شكل لآخر أو نقلها أو توزيعها لذا يرى الطبيعيون أن من واجب الدولة أن تقوم بحماية الملكية الزراعية بصفة خاصة والتي هي أساس النظام الطبيعي وكذلك إقامة المشروعات العامة كشق قنوات السقي وإقامة الجسور وتعبيد الطرق لتمكين الأفراد من حسن استغلال الملكية الزراعية .
* فكرة توزيع الثروة : بناءا على فكرة الناتج الصافي الذي يحققه النشاط الزراعي يطرح التساؤل كيف يتم تداول وتوزيع الناتج الصافي بين طبقات المجتمع المختلفة في الدولة ؟
حاول فرانسوا كيناي الإجابة عن هذا التساؤل من خلال ما سماه بالجدول الاقتصادي حيث انطلاقا من مهنته كطبيب فقد شبه تداول المنتجات والثروة في الجسد الاقتصادي في الدولة بتداول دوران الدم وفق ما يلي :
الناتج الصافي الذي يحصل عليه المزارعون يدفع جزء منه لملاك الأراضي الزراعية مقابل استخدامهم لأراضيهم ويحتفظون بالباقي .
ملاك الأراضي ما يحصلون عليه من المزارعين من نقود يدفع بعضه للمزارعين للحصول على ما يلزمهم من منتجات زراعية ويدفع بعضه للتجار والصناع للحصول على ما يلزمهم من منتجاتهم .
التجار والصناع يتلقون بعضا من دخول المزارعين في مقابل حصولهم على ما يلزمهم وما يحتاجونه من التجار والصناع. وما يحصل عليه هؤلاء التجار والصناع من ملاك الأراضي والمزارعين من دخل نقدي ينفقونه لدى المزارعين للحصول على ما يلزمهم من المنتجات الغذائية والمواد الأولية اللازمة لنشاطهم الاقتصادي.
وبالتالي يلاحظ من خلال هذه الدورة الاقتصادية في تحليل كيناي أن كل الدخل يؤول في النهاية بعد أن يدور في الجسد الاقتصادي لطبقة المزارعين حيث أن المنتجات والدخول تمر بدورة تبدأ من طبقة المزارعين وتنتهي بهم ،مما يبين أهمية الزراعة في النشاط الاقتصادي باعتبارها النشاط الوحيد المنتج عند الطبيعيين .
* نظام الضريبة الواحدة : بناءا على اعتبار الزراعة النشاط الإنتاجي الوحيد فقد نادوا بنظام الضريبة الواحدة بأن يقتصر فرض الضريبة على الإنتاج الصافي لدى المزارعين إذ لو فرضت الضريبة على الصناع والتجار فإن هذا سينعكس على ثمن المنتجات التي سيبيعونها للمزارعين وكذا لو فرضت ضريبة على ملاك الأراضي الزراعية فعبئها سينتقل أيضا إلى المزارعين برفع ثمن استخدام الأرض مما ينتج عنه أن المزارعين في النهاية هم الذين يتحملون عبء الضريبة . فتوفيرا إذا لجهد الدولة وإعمالا للمنطق يجب الاقتصار منذ البداية على فرض ضريبة وحيدة على الطبقة المنتجة وهي طبقة المزارعين وحدها.
2 – المدرسة الكلاسيكية( التقليديين ) :
ظهرت المدرسة الكلاسيكية كصورة جديدة للمذهب الحر في انجلترا متحاشية الانتقادات الموجهة للمدرسة الطبيعية .وقد ظهرت المدرسة الكلاسيكية في خضم تطورات كبيرة شهدتها أوروبا سواء من الناحية الفكرية ومن الناحية السياسية والاقتصادية مع مطلع القرن 18.
أ) - التطور الفكري :
* من الناحية الفكرية عرفت فكرة القانون الطبيعي تناميا كبيرا وانتشارا واسعا ،ومفاد هذه الفكرة أن هناك قوانين علمية عامة تحكم العالم كله ومن ثم تخضع لها جميع الموجودات والظواهر الاقتصادية والاجتماعية في كل زمان ومكان وتنحصر مهمة العالم الاقتصادي أو الاجتماعي في الكشف عن هذه القوانين وذلك عن طريق العقل .إضافة إلى هذا يتجه التيار الفكري العام في هذه الفترة إلى الاهتمام بالفرد وتحريره من سيطرة كل المعتقدات والأفكار المفروضة عليه من خارج ذاته سواء من أفكار الكنيسة أو من تعاليم الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون وظهر هذا الاتجاه الذي يكرس النزعة الفردية بصورة واضحة عند "ديكارت" ( 1596-1650 )والذي قرر(( أنا أفكر ،فأنا إذن موجود )) والذي جعل بهذه المقولة أساس المعرفة عند كل فرد هو ذاته وحدها ووجوده الخاص.
* ومن الناحية السياسية فقد بدأت تتبلور وتظهر فلسفة جديدة في بناء الدولة وأساس قيامها من خلال فكرة ( العقد الاجتماعي ) الذي قال بها " جون لوك "( 1632- 1704 ) والذي هاجم بها فكرة الحق المطلق للملوك حيث أرجع أساس بناء السلطة والدولة إلى اتفاق أو عقد اجتماعي بين الأفراد تنازلوا بموجبه عن بعض حريتهم لتقوم الدولة وتكون لها سلطة عليهم .فأساس السلطة ومصدرها بموجب فكرة العقد الاجتماعي هو الفرد باعتبار أن المجتمع يتكون من مجموع الأفراد. وبهذه الفكرة هدمت فكرة الحق الإلاهي للملوك في الحكم المطلق وبالتالي إهدار أي حق للكنيسة في فرض الهيمنة الدينية والمدنية.
* وفي نطاق الفكر الأخلاقي ظهرت الفلسفة النفعية في انجلترا التي يتزعمها " جيريمي بنثام " ( 1748- 1832 ) والتي تقوم على أساس أن الفرد هو أفضل من يرعى مصلحته الذاتية ويحقق منفعته الشخصية حيث يسعى دائما لتحقيق أكبر قسط من اللذة بأقل قدر ممكن من الألم ، ومن خلال سعي الفرد لتحقيق مصلحة وسعادة نفسه تتحقق المصلحة والسعادة الجماعية لأن هذه الأخيرة ما هي إلا مجموع السعادات الفردية.
ب) – التطور الاقتصادي :
تعتبر الثورة الصناعية أهم حدث وصورة للتطور الاقتصادي الحاصل في أوروبا في هذه الفترة والتي تجلت في صورة الاختراعات والابتكارات المتلاحقة في منتصف القرن 18 والتي أدت إلى تغيير الفن الإنتاجي من خلال إحلال الآلات الحديثة محل الأدوات اليدوية البسيطة بدأ بالآلات اليدوية التي يديرها العامل بقوة ذراعه إلى الآلات المدارة بالقوة المحركة والتي غزت مختلف الفروع الإنتاجية كالصناعات النسيجية واستخراج الحديد والفحم ،الأمر الذي أدى إلى استقطاب رؤوس الأموال وانجذابها نحو المشاريع الصناعية ذات التقنية الحديثة في ذلك الوقت ومن هنا سميت هذه المرحلة باسم ( الرأسمالية الصناعية ) تمييزا لها عن الرأسمالية التجارية وهذا نظرا لضخامة رؤوس الأموال التي أصبحت توظف في الصناعة .وبذلك أصبحت الصناعة هي النشاط الحاكم في الاقتصاد الأوروبي حيث أصبحت التجارة في خدمة الصناعة من خلال البحث عن الأسواق سواء في الداخل أو الخارج لتصريف الكميات الكبيرة المنتجة من السلع الصناعية وبهذا أيضا أصبح رجل الصناعة هو الشخص الرئيسي من الناحية الاجتماعية بدل التاجر.
إضافة إلى هذا ومن الناحية الاجتماعية فقد ارتبطت بظهور الرأسمالية الصناعية طبقة العمال الصناعيين الذين يعيشون على بيع قوتهم العاملة كسلع لأصحاب رؤوس الأموال والمشروعات نظير أجور يتقاضونها ،الأمر الذي قسم المجتمع
إلى طبقتين طبقة المنتجين الصناعيين الذين يملكون رؤوس الأموال وطبقة العمال الصناعيين الذين يملكون قوتهم العاملة مما أدى إلى ظهور مشكلة جديدة هي مشكلة البطالة الفنية جراء استخدام الآلات التي مكنت من زيادة الإنتاج مع تقليل عدد العمال غير أنها بطالة عابرة حيث لا يلبث العمال أن يجدوا لأنفسهم وظائف في صناعات حديثة تنشأ بوتيرة متسارعة .غير أن هناك بطالة من نوع آخر وهي البطالة الناجمة على التقلبات الاقتصادية أي البطالة الناتجة عن كساد المنتجات وعدم القدرة على تصريفها في الداخل أو الخارج الأمر الذي يضطر المنتجين إلى توقيف مؤقت لنشاطهم وتسريح للعمال .وهكذا أصبح العمال مهددين دائما لخطر البطالة.
الفكر الاقتصادي الكلاسيكي : في خضم هذه التطورات المختلفة ظهرت المدرسة الكلاسيكية في انجلترا والتي تعد أهم مدرسة في تاريخ الفكر الاقتصادي في ذلك الحين والتي وضع أكثر أسسها " آدم سميث " ( 1723- 1790 ) وتطورت أفكارها وقويت على يد "دافيد ريكاردوا" ( 1772-1823) إلى جانب " مالتس " ( 1766-1834) الذي أخذت عنه نظريته في السكان .وفي فرنسا فقد روج للفكر الكلاسيكي " جان باتست ساي"(1768-1812) وسيطر فكر المدرسة الكلاسيكية على تعليم الاقتصاد في الجامعات الأوروبية خاصة في فرنسا وانجلترا .
ويمكن تلخيص أهم الأفكار الاقتصادية للمدرسة الكلاسيكية - رغم تعدد مفكريها وكتابها واختلافهم في الكثير من الجزئيات- فيما يلي :
· اعتقد الكلاسيك أن هناك قوانين طبيعية خالدة تتحكم في تسيير أمور الطبيعة والكون والمجتمع وقد أخذ الكلاسيك هذه الفكرة من مدرسة الطبيعيين. هذه القوانين ثابتة ومطلقة لا يستطيع الأفراد أو الدولة تغييرها أو الخروج عن منطق الخضوع والإذعان لها هذه القوانين تحث مفعولها في النشاط الاقتصادي بصورة مستقلة عن وعي الناس و إرادتهم .ولما كانت هذه القوانين خالدة لا تتغير في نظر التقليديين فإن الظواهر الاقتصادية تكوّن نظاما اقتصاديا أبديا عندهم.
كما آمن الكلاسيك بفكرة الحرية الاقتصادية بوصفها دعامة أساسية للنشاط الاقتصادي وإطارا ضروريا لتحقيق التقدم الاقتصادي .والحرية هنا تشمل حرية التجارة الداخلية والخارجية وحرية العمل وحرية التعاقد وحرية مزاولة أي نشاط اقتصادي وهذا ما يكرسه شعار المذهب الحر ( أتركه يعمل أتركه يمر ) والذي يرفع في وجه أي تدخل من الدولة في الحياة الاقتصادية .
· الفرد هو الوحدة الرئيسية للنشاط الاقتصادي والذي يقوم به بدافع المصلحة الخاصة فالمصلحة في النهاية هي المحرك الأساسي لنشاطه الاقتصادي ومن خلال هذا المبدأ يستنبطون القوانين التي تحكم النشاط الاقتصادي كله.
· تتمثل المصلحة الخاصة للفرد في حياته الاقتصادية في سعيه لتحقيق أكبر قدر نفع شخصي ممكن فالمنتج بنشاطه الإنتاجي لا يقصد إشباع حاجات الناس ولكن لرغبته في بيع منتجاته والحصول على أكبر ربح ممكن وهذا تطبيقا لمبدأ المنفعة ( بنثام ) في مجال النشاط الاقتصادي ولهذه الرغبة يقوم التنافس بين الأفراد جميعا لتحقيق مصالحهم الخاصة والتي في مجموعها تتحقق المصلحة العامة من خلال عملية المبادلات التي بمقابل أثمان تدفع في مقابل السلع والخدمات تتحكم وتوجه العمليات الإنتاجية نحو ما يحتاج جمهور المجتمع ،فإذا زادت رغبة الجمهور في سلعة لا تنتج إنتاجا كافيا يزداد الطلب عليها فيرتفع ثمنها مما يزيد من ربح المنتجين الأمر الذي يدفعهم لزيادة إنتاج هذه السلعة فتتحقق الرغبة العامة لجمهور المستهلكين في المجتمع وبالعكس فإذا اتجه نشاط المنتجين لإنتاج سلعة بكميات غير مرغوب فيها مما يزيد من عرضها ويقلل الطلب عليها
فينخفض ثمنها ويقل الربح المتأتي منها أو تسبب خسارة فينصرف المنتجون عن إنتاجها .
وبهذا يعمل جهاز الثمن داخل السوق من خلال تغيرات الثمن إلى التحكم في إشباع الأفراد فلا يقوم الفرد بأي نوع من النشاط الاقتصادي إلا إذا كان موافقا لرغبات الجماعة الأمر الذي جعل الكلاسيك يقولون بأنه لا تناقض بين المصالح الخاصة والمصالح العامة حيث أن هناك يدا خفية توجه المصالح الخاصة في تضاربها وتفاعلها الوجهة التي تحقق المصلحة العامة.
ولهذه الفلسفة فضل الكلاسيك النظام الرأسمالي الذي يقوم على الملكية الخاصة للأموال وعلى حرية التعاقد والإنتاج والاستهلاك وعلى اعتبار الربح النقدي هو الدافع والمحرك للنشاط الإنتاجي ولأجل هذا يقوم النظام الرأسمالي على نظام السوق الذي يقوم بتصريف المنتجات. حيث يرى الكلاسيك أنه نظام طبيعي لأنه يستجيب للخصائص الطبيعية الموجودة في النفس البشرية من حب التملك ومن تفضيلها للحرية وسعيها وراء مصلحتها الشخصية.إضافة إلى أننهم يعدونه أفضل الأنظمة لأنه يحقق الإشباع الكامل حيث أن الإنتاج يتحدد فيه وفقا لرغبات المستهلكين عن طريق جهاز الثمن الذي يوصل هذه الرغبات إلى المنتجين فيعملون بمقتضاها . كما أنهم يعدونه أفضل الأنظمة لأنه يحقق الرفاهية الاقتصادية للمستهلكين في نظرهم وذلك من خلال المنافسة التي تقوم في ظله بين المنتجين هذه المنافسة التي تؤدي تنمية الإنتاج وتحسين السلع والإكثار من عرضها مما يؤدي إلى انخفاض أثمانها فتتحقق الرفاهية المنشودة.
- نظريتهم في الإنتاج : يرى الكلاسيك أن الإنتاج هو خلق المنافع وزيادتها حيث يذهب آدم سميث من خلال ما طرحه في كتابه ثروة الأمم ( نشر سنة 1776 ) أن المصدر الوحيد للثروة هو الإنتاج في جميع فروع النشاط الاقتصادي ( خرجوا بذلك على آراء التجاريين والطبيعيين في الإنتاج ) والذي يقوم على عناصر أساسية هي الطبيعة والعمل ورأس المال ،ويرى آدم سميث أن العمل هو العنصر الرئيسي الذي يحتل المكان الأساسي بين تلك العناصر حيث افتتح كتابه ثروة الأمم بقوله ((أن العمل السنوي لكل أمة من الأمم هو المصدر الذي يمدها أساسا بكل ما تستهلكه سنويا من سلع سواء كانت السلع ناتجا مباشرا لهذا العمل الوطني أو متأتية من بيع هذا الناتج وشراء سلع في مقابله من الأمم الأخرى))
ويقصد بالعمل كل الجهد الإنساني الذي يضيف منفعة أو يزيد منها ،أي أن العمل المنتج هو ذلك العمل الذي يضيف قيمة إلى المواد الخام التي تشتغل بها الأيدي العاملة فالعمل المنتج عنده إذا هو ذلك العمل الذي يؤدي على إنتاج سلع مادية .
ولزيادة الإنتاج وتحسينه فقد تناول آدم سميث بالدراسة ظاهرة تقسيم العمل حيث ذهب إلى أن تقسيم عملية إنتاج سلعة من السلع إلى عدة عمليات جزئية يقوم بكل واحدة منها شخص أو أشخاص يتخصصون فيها يؤدي إلى زيادة الإنتاج وتحسين نوعه بإتقان العامل لعمله وهذا أفضل من أن يحاول كل منهم إنتاج السلعة كلها بمفرده وهذا يقتضي الضرورة استخدام الآلات ومراعاة حجم السوق وحرية المبادلة في الداخل والخارج فإذا كانت السوق كبيرة من المنتجات أمكن من تطبيق تقسيم العمل على نطاق واسع والعكس صحيح.
- نظريتهم في السكان : أخذ الكلاسيك عن مالتس نظريته في السكان والتي أصبحت أساس بحوثهم في موضوعات أخرى والتي ربط فيها مالتس بين الزيادة المستمرة في السكان وبؤس وشقاء طبقة العمال في القرن 18 وبداية القرن 19 .وخلاصة هذه النظرية أن انتشار البؤس والفقر وصراع الإنسان مع أخيه الإنسان يرجع لعدم التوازن بين عدد السكان والمواد الغذائية أي بين نمو السكان ونمز الموارد الغذائية حيث قرر أن السكان يتزايدون على أساس متتالية هندسية ( 2، 4 ،8 ،16 ،32 ......) ويتضاعف عددهم كل 25 سنة بينما تزداد الموارد الغذائية وتنموا على أساس متتالية عددية ( 2، 4 ،6 ،8 ،10......) وفي نفس الفترة الزمنية فإذا تجاوز السكان العدد المناسب في أي مجتمع وأصبحت الموارد غير كافية له تدخلت الطبيعة تلقائيا لإعادة التوازن بين السكان والموارد عن طريق ما سماه بالموانع الإيجابية مثل المجاعات والأوبئة والأمراض والحروب والتي تعمل بقوة لدى الشعوب المتأخرة في حين هناك موانع وقائية من إيجاد الإنسان مثل تأخير سن الزواج والامتناع عن الزواج المقترن بالعفة وهو ما يسود الشعوب المتقدمة.
وبهذه النظرية يجعل مالتس مشكلات البطالة والجوع والفقر مشكلات حتمية طبيعية إذ أن الفقراء بتكاثرهم يجلبون لأنفسهم الشقاء والبؤس لهذا عارض بشدة أي قانون لإغاثة الفقراء باعتبار أن الإغاثة تشجع على الكسل والزواج وزيادة نسل الفقراء كما تقيد الصناعة من خلال تقليل مواردها بسبب زيادة الضرائب التي تذهب لتمويل استهلاك العاطلين والفقراء.
- نظريتهم في القيمة : تعتبر نظرية القيمة عند الكلاسيك أهم فكرة في تحليلهم الاقتصادي حيث يقوم عليها كل البناء النظري لمدرستهم .وقد فرق الكتاب الكلاسيك بين قيمة الاستعمال وقيمة المبادلة ،فقيمة الاستعمال هي المنفعة التي تعود على الشخص من استهلاكه لسلعة ما وقيمة المبادلة هي النسبة التي تحصل على أساسها مبادلة سلعة بسلعة في السوق .وتتحدد قيمة أي سلعة عند الكلاسيك على أساس حجم العمل المبذول في إنتاجها أي على أساس عدد ساعات العمل التي بذلت في إنتاجها سواء كان عملا مباشرا أي المجهود الإنساني المبذول أثناء صنعها أو من خلال رأس المال والمواد الأولية ،فالعمل إذن هو مصدر القيمة ومقياسها في نفس الوقت وعرفت هذه النظرية بنظرية (قيمة العمل).فمثلا إذا استلزم إنتاج وصنع سلعة ( أ ) 5 ساعات من العمل وسلعة ( ب ) 10 ساعات من العمل فالمبادلة بين السلعتين تتم في السوق على أساس أن وحدتين من السلعة ( أ ) في مقابل وحدة واحدة من السلعة ( ب ).
وعلى أساس القيمة يتحدد ثمن السلعة حيث يفرق الكلاسيك بين الثمن الطبيعي للسلعة وثمن السوق ،فالثمن الطبيعي يتحدد على أساس تكلفة ونفقة إنتاجها أي أن الثمن الطبيعي يساوي نفقة الإنتاج بينما ثمن السوق فتحدد تقلبات العرض والطلب فهو ثمن متذبذب يتحدد ابتداء من نفقة الإنتاج أي يساوي الثمن الطبيعي ولكنه قد يزيد عنه أو ينقص باعتبار تقلبات العرض والطلب في السوق فإذا زاد الطلب على السلعة ارتفع ثمنها عن الثمن الطبيعي والعكس.
- نظريتهم في التوزيع :اهتم الكلاسيك بالكشف عن القوانين التي تحكم توزيع الناتج الكلي حيث اعتبر "ريكاردو" أن بحث مشكلة التوزيع هي موضوع اهتمام ودراسة علم الاقتصاد.
وقد اهتم الكلاسيك بمشكلة التوزيع بناء على افتراضهم أن حجم الإنتاج يبقى ثابتا دائما عند مستوى واحد مادام أن التشغيل في نظرهم يكون دائما تشغيلا شاملا لكل العمال على أساس أنه عند حدوث أية بطالة تنخفض الأجور وتبقى تنخفض إلى مستويات أدنى حتى تمتص سوق العمل كل العاطلين عن العمل . فخلال زمن معين يبقى حجم
الإنتاج القومي ثابتا جراء التشغيل الشامل ولا يتغير هذا الحجم إلا بتغير عدد السكان أو الفن الإنتاجي ( طريقة الإنتاج ) أو تغير مقدار رأس المال.
وبهذا فمادام الناتج الكلي يبقى ثابتا فإن المشكلة تنحصر فقط في معرفة القوانين التي تخضع لها عملية توزيع هذا الناتج ولم يهتم الكلاسيك في تحليلهم للتوزيع بتوزيع الدخل بين الأفراد والأشخاص على حسب الطبقة الإنتاجية التي ينتمون إليها وهو ما يعرف( بالتوزيع الشخصي ) بل اهتموا بما يعرف ( بالتوزيع الوظيفي ) أي توزيع الدخل القومي بناء على عناصر الإنتاج المختلفة من عمل ورأس مال وطبيعة ( أرض ) على أساس وظيفة كل عنصر في العملية الإنتاجية .فيتوزع الناتج الكلي على شكل ريع ( مقابل استخدام عنصر الأرض ) وأجور ( نظير عنصر العمل ) وأرباح وفوائد ( مقابل تشغيل عنصر رأس المال ) .
أولا – الريع : وهو ما يحصل عليه ملاك الأراضي من ناتج الأرض نظير سماحهم للغير باستخدامها وهذا راجع لمحدودية الأرض وندرتها والتي أدت إلى نشوء ملكية خاصة عليها .فالريع إذن يمثل الثمن الذي يدفع للملاك نظير احتكارهم ملكية الأرض جراء ندرة الأرض وتفاوت خصوبتها.
ولندرة المنتجات الزراعية جراء ارتفاع الطلب عليها مع تزايد السكان ( نظرية مالتس ) يلجأ الأفراد لزراعة الأراضي الأقل خصوبة والتي تتطلب نفقة إنتاج أعلى من نفقة الإنتاج في الأراضي الخصبة ، وعلى أساس أن ثمن السلع يتحدد في السوق على أعلى نفقة إنتاج أنفقت على الكميات اللازمة لسد الطلب فالريع إذن هو الفرق بين ثمن السلعة الذي يتحدد في السوق وفق نفقات إنتاجها في الأراضي الأقل خصوبة وبين تكاليف الإنتاج في الأراضي الخصبة التي زرعت أولا .ويحصل على الريع أصحاب الأراضي الخصبة هذا الريع الذي يميل نحو الارتفاع نتيجة لزراعة الأراضي الأقل خصوبة . ومما سبق يتضح أن الريع راجع لعاملين هما تكاثر وتزايد السكان وبالتالي تزايد طلباتهم على المواد الزراعية وعامل الالتجاء لزراعة الأراضي الأقل خصوبة.
ثانيا – الأجر :يعتبر الكلاسيك من خلال ما طرحه " دافيد ريكاردو " أن العمل يعتبر سلعة كباقي السلع يقابله ثمن يتمثل في الأجر .هذا وبناء على نظريتهم في القيمة و ربطهم ثمن السلع بعدد ساعات العمل فإن أجر العامل يتحدد على عدد ساعات العمل اللازمة لإنتاج سلعة العمل وهي الساعات اللازمة لإنتاج كمية السلع الضرورية لحفظ حياة العامل وتمكينه من الاستمرار في العمل وهذا هو الأجر الطبيعي والذي لا يمكن للعمال ولا لأرباب العمل مخالفة مقتضاه باعتباره قانونا طبيعيا لذا سمي أيضا هذا القانون بالقانون الحديدي للأجور وسمي الأجر الطبيعي بالأجر الحديدي لأن العمال مقيدون به ولا يستطيعون مخالفته بتحسين أجورهم خلاف مقتضاه .
هذا الأجر الطبيعي أو الحديدي أو أجر الكفاف أجر ثابت في مستواه لمدة طويلة لا يمكن أن يرتفع أو ينخفض عن هذا المستوى .إذ لو ارتفعت الأجور عن المستوى اللازم لمعيشته العمال المعيشة الضرورية فستتحسن حالة العمال وتزيد رفاهيتهم فيقبلون على الزواج مما يزيد النسل ويزيد بذلك عدد العمال بحيث يصبح الطلب على العمل أقل من العرض مما يترتب عليه انخفاض الأجر إلى المستوى الذي يتساوى فيه مع نفقة المعيشة الضرورية.
أما لو انخفض أجر العمال عن مستوى الأجر الطبيعي فستسوء حالتهم وينقص زواجهم وتناسلهم كما ينقص عددهم جراء الأمراض وعدم القدرة على العلاج مما يجعل عرض العمال ينقص ويزيد الطلب على اليد العاملة ومن ث ارتفاع أجورهم إلى المستوى اللازم للحفاظ على مستوى معيشتهم الضرورية .
وهذه الفكرة مبناها افتراض الكلاسيك أن الطبقة العاملة تستهلك ولا تدخر أي أنه لا يوجد لديها فائض في دخلها يزيد على حد الكفاف.
ثالثا – الربح والفائدة : لم يميز الكلاسيك الأوائل من أمثال " ريكاردو " بين المنظم وهو الذي يشرف على المشروع ويتحمل مخاطره وبين الرأسمالي الذي يقرض نقوده حتى جاء " جان باتست ساي " وميز بينهما بوضوح حيث بين أن الربح هو دخل المنظم والفائدة هي دخل صاحب رأس المال .وتتحدد الفائدة عندهم على أساس عرض وطلب الادخار فالفائدة إذن تمثل ثمن الادخار فإذا زاد عرضه عن طلبه انخفض سعر الفائدة وإذا زاد الطلب على الادخار عن عرضه ارتفع سعر الفائدة ،وتؤثر تغيرات سعر الفائدة أيضا في عرض وطلب الادخار مثلما تؤثر تغيرات ثمن أي سلعة في عرضها وطلبها.
أما بالنسبة للربح فقد أوضح " ريكاردو "أن المنافسة تفرض معدلا متجانسا للأرباح عن طريق اجتذاب رأس المال إلى النشاطات والمجالات تقدم معدلا يزيد عن المتوسط وإبعاده عن المجالات الإنتاجية التي تقل فيها الأرباح عن المتوسط.
ويعتقد الكلاسيك أن معدلات الأرباح تتجه نحو الهبوط مع التقدم الاقتصادي لأن ازدياد وتراكم رؤوس الأموال يصحبها ازدياد المنافسة بين الرأسماليين وهذا يعمل على خفض الأرباح.
- نظريتهم في النقود : يعتبر الكلاسيك النقود أنها مجرد وسيط للمبادلة وأداة لقياس القيم فقط فلم يعطوا أهمية لوظيفتها كمخزن للقيم وأداة لحفظ المدخرات فهي عندهم أداة تسهل سير المبادلات الاقتصادية ولا تحدث أي أثر ضار بالاقتصاد باعتبار أنها مجرد ستار وغطاء يخفي الطبيعة العينية للاقتصاد عن نظرنا و مع هذا كانوا يعتقدون بأهميتها ودورها في تسهيل أداء النشاط الاقتصادي فهي أشبه بالزيت الذي يوضع بين أجزاء الآلة لكي يتيسر تشغيلها برفق وليونة.
وفي تفسيرهم لتقلبات مستوى الأسعار العام ( أو ما يسمى أيضا قيمة النقود ) فقد اعتمدوا على النظرية الكمية في النقود التي مقتضاها أنه كلما زادت كمية النقود لا بد وأن تؤدي حتما إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار وكل نقص في كميتها ينعكس على الأسعار فيؤدي إلى انخفاضها.
- نظرتهم إلى التجارة الخارجية : على خلاف ما كان ينادي به التجاريون دافع الكلاسيك على التجارة الخارجية مع الدول مبررين ذلك بأن إتباع سياسة تجارية حرة يؤدي بكل بلد إلى أن يتخصص في إنتاج السلع التي يتمتع فيها بأكبر ميزة نسبية في مواجهة البلاد الأخرى هذا التخصص سينعكس بالفائدة الاقتصادية لكل بلاد على حده كما ينعكس بالفائدة على العالم كله بتحقق كميات المنتجات المحتاج إليها بصورة أكبر مما لو لم يحدث التخصص بأن تحاول كل بلد إنتاج كل السلع على إقليمه الوطني. فتخصص كل بلد في إنتاج السلع التي يمكن أن ينتجها بنفقة نسبية أقل يزيد من الرفاهية الاقتصادية للشعوب في نظر الكلاسيك حيث يمكن شراؤها بأثمان أقل.
وقد نادى المفكرون الكلاسيك بهذا التخصص الدولي لما كان يحقق من مصلحة اقتصادية كبرى لانجلترا حيث أنها كانت وقتئذ بلدا صناعيا في حين كانت كل البلدان الأخرى بلدانا زراعية.ومقتضى فكرة التخصص الدولي أن تبقى هذه البلدان زراعية تصرف فيها انجلترا منتجاتها الصناعية وتستورد منها المواد الأولية.
3 – مدرسة التقليديين الجدد ( النيوكلايك ) :
وتعرف أيضا بالمدرسة الحدية .ويعتبر الاتجاه الكلاسيكي الجديد امتدادا للاتجاه الكلاسيكي الذي يقوم على الليبرالية بترك الأفراد أحرارا في مجال الحياة الاقتصادية فير أنهم أكثر تجريدا وفردية في تحليلهم وفكرهم الاقتصادي حيث يرون أنه من الممكن استخلاص القوانين الاقتصادية بالنظر إلى فرد معين يتمثل في الرجل الاقتصادي الرشيد أي الذي يخضع سلوكه الاقتصادي - سواء وهو منتج أو مستهلك – للدافع الاقتصادي فقط دون أي دافع آخر ويتمثل هذا الدافع في المصلحة الذاتية أي الموازنة بين الآلام والمنافع ( فلسفة بنثام ) للفرد أي تحقيق أكبر نفع أو لذة ممكنة مقابل بذل أقل جهد أو تحمل أقل لألم ممكن ، ولهذا أعطوا الأهمية لعنصر الطلب ورغبات الأفراد أكثر من عنصر نفقة الإنتاج في تحليلهم الاقتصادي .
أي أن الاقتصاد في منظورهم يهتم بالبحث في علاقة الإنسان بالأشياء بعيدا عن العلاقات الاجتماعية عكس الكلاسيك الذين يرون أنه يبحث في علاقات الأفراد خلال عمليات إنتاج وتوزيع وتبادل المنتجات والثروة.
ولكي يمكن للرجل الاقتصادي الرشيد في منظورهم من تحقيق أكبر منفعة بأقل جهد ممكن داخل السوق التي تضمن له تحقيق ذلك لابد أن تكون هاته السوق سوقا تنافسية أي تقوم على مبدأ المنافسة الكاملة لا الاحتكار ويتحقق هذا عندهم من خلال توفر شروط تحقق السوق التنافسية منها * تعدد البائعين ( المنتجين ) والمشترين *وتجانس السلع من ناحية الإشباع الذي تقدمه *وحرية الدخول والخروج من السوق أي ألا يكون في استطاعة المشروعات التي تتنافس في إنتاج السلعة أن تعارض و تمنع دخول مشروع جديد إلى ميدان إنتاج السلعة *والعلم بكامل ظروف السوق والتي منها أثمان السلع المتداولة عند بيعها أو شرائها * وكذا حرية انتقال عناصر الإنتاج بين فروع الإنتاج المختلفة.
ومن أهم أقطاب هذه المدرسة النمساوي " كارمنجر " (1840-1921) والبريطاني " ستانلي جيونفر "( 1830-1882 )والسويسري "ليون فال راس" ( 1834- 1910 ) .وتعد نظريتهم في القيمة من خلال فكرة المنفعة الحدية أهم أفكار هاته المدرسة حيث بعد تزايد الاعتراض على نظرية العمل طرح أصحاب هذه المدرسة نظرية المنفعة الحدية وهذا بناء على ما لاحظوه من أن قيمة الأشياء ترتفع إذا ما زاد إقبال المشترين وتقل إذا ما قل ذلك الإقبال دون تغير في قيمة العمل المبذول في إنتاجها أو في تكاليف إنتاجها ،إذا فما هي العوامل التي تحدد قيمة الأشياء ؟
يجيب مفكرو المدرسة الحدية مستندين على فلسفة اللذة والألم بأن قيمة كل سلعة تصدر عن منفعتها لا عن العمل أي منفعتها الحدية ويراد بالمنفعة ما يعود على المستهلك من استهلاك السلعة بسبب ما فيها من صفات أي الإشباع الحاصل باستعمالها للحاجة المتعلقة بها ويقصد بالحدية ما تعلق بالوحدة الحدية أو الأخيرة من السلعة أي أن القيمة تتحدد بمنفعتها النهائية الحدية المستمدة من الوحدات الأخيرة منها هذه المنفعة الحدية تتناقص باستمرار بزيادة الوحدات المستهلكة من السلعة ولأن الإنسان قدرته في الاستهلاك محدودة حيث لا يمكنه أن يستمر في استهلاك السلعة إلى ما لا نهاية بل هناك حد يصل فيه المستهلك إلى حالة من الإشباع الكامل ،فمتى حصل الفرد على كميات كبيرة من خلال استهلاك وحدات متتالية من السلعة تكون المنفعة الحدية تناقصت إلى مستوى يساوي الثمن المدفوع فيها .
وأساس هذه النظرية أن الحاجة القابلة للإشباع تكون قبل إشباعها ملحة إلحاحا كبيرا فكلما زدنا من وحدات السلعة المستخدمة في إشباع الحاجة قل تدريجيا إلحاح تلك الحاجة وبالتالي انخفاض منفعتها الحدية و عليه كلما زاد عدد الوحدات المستهلكة من السلعة كلما قل الثمن الذي يكون المستهلك مستعدا لدفعه ،وعليه تتضح الصلة بين درجة الإشباع الحاصلة باستعمال السلعة وندرة السلع الاقتصادية فإذا كان عدد وحدات السلعة التي نستخدمها للإشباع
ضئيلا تضل منفعتها الحدية مرتفعة ولا تنزل والعكس إذا لم تكن السلعة نادرة بأن كانت الوحدات المستخدمة منها في الإشباع كبيرة فإن المنفعة الحدية لهذه السلعة تنزل إلى مستوى منخفض وهذا ما يعرف بتناقص المنفعة الحدية .وعلى هذا فالبرغم من أن الماء أو الخبز مثلا يعتبران من أهم السلع وأنفعها إلا أن النسبة بين الكميات الموجودة والحاجة إلى كل منهما في معظم المجتمعات أكبر بكثير من مثيلتها من الماس أو الذهب لهذا كانت المنفعة الحدية للماء أو الخبز ( في معظم المجتمعات ) منخفضة جدا إذا قورنت بالمنفعة الحدية للماس والذهب وعلى هذا ولارتباط القيمة بالمنفعة الحدية فإن الماس والذهب أكبر قيمة من الماء والخبز.
وكذا فإن الهواء وأشعة الشمس لا قيمة لهما في السوق لأن لهما منفعة حدية منخفضة جدا تساوي الصفر لتوفرهما بكميات كبيرة جدا لذا لا قيمة لهما تبادلية في السوق وكل هذا يعبر عن مدى الصلة بين درجة إشباع الحاجة وندرة الأموال والسلع الاقتصادية فإذا كان عدد وحدات السلعة التي نستخدمها في الإشباع ضئيلا لم تنزل المنفعة الحدية إلى مستوى منخفض بلل تظل مرتفعة ويبقى سعرها مرتفعا وعلى العكس إذا لم تكن السلعة نادرة فمنفعتها الحدية تنزل إلى م
خصائص وطريقة أداء النظام الرأسمالي :
مما سبق من أفكار المدارس الاقتصادية الرأسمالية المختلفة يمكن استخلاص أهم مميزات وخصائص النظام الرأسمالي فيما يلي :
1- إيديولوجية النظام : تعبر الإيديولوجية عن الأساس الفكري للنظام الاقتصادي وهي التي تفسر الكثير من وظائفه وخصائصه وطريقة أدائه .وتعتبر فكرة القانون الطبيعي مصدر إيديولوجية النظام الرأسمالي وقد عبر عنه آدم سميث بالأيدي الخفية التي تنظم الحياة الاقتصادية كما تنظم الحياة الاجتماعية والسياسية وبطريقة تلقائية والإنسان في ظل هذه القوانين الطبيعية يعتمد على العقل والتفكير المنطقي والذي يقود سلوك الإنسان وتصرفاته.
وانطلاقا من فكرة أن الإنسان سلوكه مقيد وخاضع للنظام الطبيعي فلا بد إذن أن يكون هذا الإنسان حرا مما يجعل من الليبرالية مصدرا آخر للفكر الرأسمالي وهذا ما يستدعي اعتبار المصلحة الشخصية أساس التقدم الاقتصادي وقد لخص هذه الفكرة آدم سميث بقوله إن من يعمل لمصلحته الشخصية يعمل في نفس الوقت لمصلحة المجتمع.
2- هدف النظام : تحقيق الربح ،حيث انطلاقا من النظرية الفردية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي فغاية هذا النظام تنبع من منطق الذاتية للفرد والذي يرغب ويسعى دائما نحو تحديد الحد الأقصى من الأرباح وهو منتج وذلك من خلال سعي المشروع الاقتصادي إلى تحقيق هذا عن طريق خفض تكلفة الإنتاج أو بزيادة الإيراد مما يجعل الربح هو المعيار الذي يحكم به على كفاءة المشروع الاقتصادي وحسن أدائه في النظام الرأسمالي .وكذا تحقيق الحد الأقصى من الإشباع وهو مستهلك باختياره السلعة التي يحدد كميتها بطريقة يضمن بها أكبر قدر ممكن من الإشباع وخلال هذا يقارن بين ما حققه من إشباع وبين ما يضحي به مقابلها أي ما يدفعه من نقود ثمنا للسلعة المختارة.
3- وسيلة النظام الرأسمالي لتحقيق هدفه : الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ،أي ملكية القادرين على حيازة وسائل الإنتاج .أي أن قوى الإنتاج المادية لا بد أن تكون مملوكة للأفراد ،ويراد بقوى الإنتاج رأس المال للرأسماليين والمنظمين ،المواد الأولية وموارد الطبيعة لأصحابها والٍأرض للفلاحين وقوى العمل للعمال .وكل منهم يقدم ما يملكه للآخر لإتمام عملية الإنتاج مقابل ثمن معين يتمثل في الفوائد والأرباح للرأسماليين والمنظمين وأثمان المواد الأولية لأصحابها والريع لملاك الٍأراضي الزراعية والأجر للعمال عن طريق ما ينشأ من علاقات تعاقدية بينهم وبين المشروع المملوك ملكية خاصة للرأسمالي أو المنظم مما يترتب عليه تشكل طبقتين اجتماعيتين طبقة العمال الأجراء يقدمون قوتهم العاملة مقابل أجر وطبقة الرأسماليين أو المنظمين الذين يستحوذون على نتيجة النشاط الاقتصادي أي الأرباح وينحصر دور الدولة أمام هذا على تحقيق التوازن بين الطبقتين دون تدخل في الحياة الاقتصادية ولكنها ملزمة بحماية حق الملكي للرأسمالي وحماية حق التعاقد بالنسبة للعامل.
4- آلية التوزيع ( اقتصاد السوق ): انطلاقا من فكرة القانون الطبيعي فإن عملية الإنتاج والتوزيع في النظام الرأسمالي تتم بطريقة طبيعية وتلقائية من خلال السوق وعبر جهاز الثمن حيث أن المنتج يحصل على عناصر الإنتاج مقابل ثمن وهو أيضا يبيع منتجاته في السوق مقابل ثمن معين والعامل يقدم قوة عمله من أجل الحصول على دخل أو ثمن هو الأجر يحصل من خلاله على احتياجاته من الأسواق من سلع استهلاكية بغرض إشباع احتياجاته مقابل ثمن ويتم كل داخل السوق باعتبارها مركز تلاقي وتوافق قوى العرض والطلب دون تدخل الدولة ودون أي إرادة منفردة من أي طرف من أطراف التعامل.
وعليه يمثل الربح الفرق بين ثمن المنتجات النهائية وثمن عناصر الإنتاج، والأجر هو ثمن قوة العمل التي يبذلها العامل في الإنتاج ويتوقف على عرض العمل من جانب العمال والطلب عليه من جانب أصحاب الأعمال، والفائدة هي الثمن الذي يدفع لممول رأس المال.
5- تصور حل المشكلة الاقتصادية في النظام الرأسمالي : ينطلق النظام الرأسمالي في تصوره لحل المشكلة الاقتصادية من فكرة السلوك الرشيد ومعناها أنه إذا ترك الشخص حرا في تصرفاته فإنه يسعى إلى تحقيق القدر الأعظم من مصلحته الشخصية مما يستلزم تحقيق الحرية التامة للفرد في تملك الأموال والتصرف فيها وفي العمل ،وهكذا في ظل النظام الرأسمالي تتحدد الحلول على أساس افتراض الحرية الفردية وحرية التصرف الاقتصادي في شتى مجالات الإنتاج والاستهلاك والادخار ........الخ وفي ظل هذه المبادئ التي ينطلق منها هذا النظام يتم اتخاذ القرارات الخاصة بنوع الإنتاج وكميته وكذلك أسلوب الإنتاج على أساس تفاعل القرارات والتفضيلات الشخصية التي يقوم بها الأفراد وعلى أساس الموازنة بين الجهد المبذول والعائد وكلاهما يتم تقريره في ظل السوق باعتبار أن نظام السوق هو الكفيل بتحقيق التناسق بين جميع القرارات الاقتصادية ،قرارات الأفراد كمستهلكين وقرارات الأفراد كمنتجين بحيث يصبح الإنتاج النهائي محققا لرغبات الاستهلاك .
وعليه فإنه تخصيص الموارد لإنتاج سلعة ما أو خدمة ما يتم عبر نظام السوق الذي يعبر عن حجم الحاجات من خلال نظام العرض والطلب على المنتجات الاقتصادية فسعر السلعة أو الخدمة هو الذي يوجه الموارد ويخصصها لإنتاج السلع والخدمات فإذا ارتفع سعر سلعة معينة دل ذلك على ندرتها وحجم الحاجة لها وبالتالي فإن الموارد وبدافع الربح تتجه إلى إنتاج هذه السلعة و إذا انخفض سعرها أي قل الطلب عليها فإن الموارد يعاد توجيهها إلى إنتاج سلع أخرى وهكذا فالأثمان إذا هي التي تحدد كيفية توزيع عوامل الإنتاج على القطاعات الإنتاجية المختلفة حسب رغبات المستهلكين. فازدياد طلب المستهلكين على سلعة من السلع يؤدى إلى ارتفاع ثمنها وزيادة أرباح منتجيها والتوسع في إنتاجها. ونقص طلب المستهلكين على سلعة من السلع يؤدى إلى انخفاض ثمنها ونقص أرباح منتجيها وانكماش إنتاجها أو توقفه. ويشترط لقيام جهاز الأثمان بدوره في توجيه النشاط الاقتصادي طبقاً لرغبات المستهلكين أن تتمتع عوامل الإنتاج بحرية الانتقال بين فروع الإنتاج المختلفة، وبالتالي يؤدي نظام السوق دور الموجه في تخصيص الموارد.
ومنه فإن حل المشكلة الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي يعود إلى أسلوب السوق الذي تحدد قواه توزيع الموارد المحدودة على الحاجات المتعددة وما يستلزم ذلك من إقامة التوازن بين الإنتاج والاستهلاك وبين العرض والطلب.