نشأة وتطور القضاء الاداري في فرنسا
مرحلة القضاء المفوض (القضاء البات)
في هذه المرحلة اصبح مجلس الدولة يصدر قراراته دون الحاجة الى تصديق رئيس الدولة، وبالتالي حقق استقلالية عن الجهة الادارية التي كان تابعا لها، وبالتالي لم تعد أحكامه بحاجة إلى تأييد من السلطة الإدارية.
ففي 24 ماي 1872 صدر قانون تنظيم مجلس الدولة ليكمل له الاختصاص القضائي[1] (الى جانب الاختصاص الاستشاري الموروث من المراحل السابقة)، وبذلك تم إنهاء مرحلة القضاء المحجوز أو القضاء المقيد، وبدأت مرحلة جديدة و هي مرحلة القضاء المفوض، حيث أن مجلس الدولة أصبح يبت بصفة سيادية ومستقلة في القضايا المعروضة أمامه، كما أصبحت قراراته ملزمة، فتحول بذلك الى جهة قضائية مستقلة تماما عن القضاء العادي وتملك الاختصاص الشامل والاصلي في المنازعات الادارية.
لقد منح هذا القانون لمجلس الدولة سلطة البت النهائي في المنازعات الإدارية التي يتم رفعها أمامه. وبذلك كانت هذه الأحكام تعد نافذة بمجرد صدورها، و بدأ في إرساء القواعد القانونية بما له من سلطة خاصة في هذا الشأن و منذ هذه اللحظة بدأ القانون الإداري كفرع قانوني متخصص في التكون و التطور[2].
كما أنشأ قانون 24 مايو 1872 محكمة تنازع[3] مشكلة من قضاة من محكمة النقض ومجلس الدولة، مكلفة بتسوية تنازع الاختصاص الذي يمكن أن ينشأ بين جهات القضاء العادي والاداري، وقد لعبت هذه الاخيرة من خلال حكم "بلانكو"[4] (Blanco) الشهير في 08 فيفري 1873، دورا بارزا في ارساء قواعد القانون الإداري في فرنسا من خلال إقرار مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن المرافق العامة، و اختصاص القضاء الإداري بالفصل في المنازعات المتعلقة بها.
ظل مجلس الدولة يمارس هذا الاختصاص باعتباره جهة استئنافية للإدارة القاضية، بحيث لم يكن بالإمكان رفع الدعوى مباشرة أمامه ما لم يقم المعني بالأمر برفع تظلمه أمام الوزير المختص، وهذا الى غاية 13 ديسمبر 1889 اين تخلص مجلس الدولة الفرنسي نهائيا من قيد السلطة التنفيذية، واستقل تماما عن جهة الإدارة، وذلك بمناسبة حكمه الشهير في قضية [5]Cadot والذي أقر فيه حق الافراد في الالتجاء مباشرة الى رفع دعوى ادارية امام مجلس الدولة دون الحاجة الى اللجوء مسبقا الى الإدارة ، وبموجب هذا الحكم اصبح مجلس الدولة صاحب الاختصاص العام في المنازعات الإدارية .
غير أنه وبسبب كثرة المنازعات وتراكم القضايا أمام مجلس الدولة فقد تم انشاء المحاكم الادارية ( حلت محل مجالس المحافظات )، بموجب اصلاحات 1953، وأصبحت هذه الاخيرة صاحبة الاختصاص العام في المنازعات الإدارية، باستثناء المنازعات التي عهد بها القانون الى مجلس الدولة او الى جهات اخرى. واصبحت في المقابل اختصاصات مجلس الدولة محددة على سبيل الحصر إلى جانب اختصاصه كمحكمة نقض بالنسبة لأحكام بعض المحاكم الإدارية الخاصة وأيضا باعتباره محكمة استئناف بالنسبة لأحكام المحاكم الإدارية
في 1987 انشأت المحاكم الاستئنافية الادارية[6] التي يتم الطعن بالنقض في احكامها امام مجلس الدولة. ليكتمل بذلك النظام القضائي الاداري المستقل عن الادارة وعن القضاء العادي ويتحقق الازدواج القضائي الذي يتميز به النظام الفرنسي.
[1] - Article 9 de la loi du 24 mai 1872: « Le Conseil d’État statue souverainement sur les recours en matière contentieuse administrative et sur les demandes d’annulation pour excès de pouvoir formés contre les actes des diverses autorités administratives. »
[2] إبراهيم عبد العزيز شيحا ، القضاء الإداري، مبدا المشروعية، تنظيم القضاء الإداري، منشأة المعارف، الاسكندرية، مصر ،2003ص 286.
[3] - أسست محكمة التنازع الفرنسية بموجب المادة 89 من دستور 1848 لتسوية تنازع الاختصاص بين السلطة الإدارية والسلطة القضائية، ثم الغيت مع ظهور الإمبراطورية الثانية في 1852، وأعيد إنشاؤها بموجب قانون 24 ماي 1872.
[4] - تتلخص الوقائع في أن طفلة باسم "بلانكو " تعرضت لحادث تسببت فيه عربة تابعة لشركة فرنسية لصناعة التبغ وأدى الى اصابتها بجروح ، فرفع والد الفتاة دعوى أمام المحكمة العادية للمطالبة بالتعويض على اساس المسؤولية المدنية عن الضرر اعتمادا على المواد 1382 إلى 1384 من القانون المدني، وعندما رفض طلبه ، رفع الأمر إلى محكمة التنازع التي أسندت الاختصاص إلى القضاء الإداري للفصل في النزاع.
و بذلك أقر قرار بلانكو مسؤولية الدولة ووضع حدّا للمفهوم القديم القاضي بعدم مسؤوليتها، غير أنه أخضع هذه المسؤولية لنظام خاص يميزها عن المبادئ الواردة في القانون المدني في باب المسؤولية بين الأفراد وذلك بفعل حاجيات المرفق العام.
[5]- تتلخص وقائع القضية في أن بلدية مرسيليا ألغت وظيفة المهندس مدير الطرق و المياه التي كان يشغلها "كادو". فطالبها بالتعويض عما لحقه من أضرار, فلما رفض مجلس البلدية الاستجابة لطلبه رفع دعوى أمام المحاكم العادية التي قضت بعدم اختصاصها, فرفع دعواه أمام مجلس الإقليم الذي قضى بدوره بعدم اختصاصه, فقدم طلبه إلى وزير الداخلية الذي أجاب بأنه مادام مجلس مرسيليا قد رفض طلب التعويض, فلا يمكنه هو نفسه أن يستجيب له, وكان هذا الرفض محل طعن السيد " كادو" أمام مجلس الدولة . اعتبر مجلس الدولة أن الوزير كان على حق في الامتناع عن النظر في أمور ليست في الحقيقة من اختصاصه, كما قرر أن النزاع الذي خلقه العقد المبرم بين بلدية مرسيليا وبين مهندس الطرق و المباني "كادو" هو نزاع إداري يرجع الاختصاص فيه إليه وحده.
[6] - بموجب القانون رقم 87-1127 بتاريخ31 ديسمبر 1987