II- كرونولوجيا تطور مفهوم " الاخلاق" في سيااق الفكر الانساني
1-الأخلاق عند فلاسفة اليونان:
كان السفسطائية تدعو إلى أن الطبيعة الإنسانية شهوة وهوى، ووضعت التشريعات بناءً على ذلك، وللرجل القوي بالعصبية أو بالمال أو بالبأس أو بالدهاء أو بالجدل أن يستخف بها أو ينسخها ويستبدلها، وقد أقام السفسطائيون المعرفة أيضًا على الإحساس، أين ذهب زعيمهم بروتاجوراس إلى القول:" بأن الفرد هو مقياس الأشياء جميعًا، وأن الإنسان هو مقياس الحقيقة؛ فما يراه الإنسان صحيحاً فهو صحيح في مقياسه وخاطئ لدى غيره،"، وبهذا تتعدد الحقائق بتعدد مدركيها وامتنع وجود حق أو باطل في ذاته. ولأن كانت هذه النظرية في المعرفة، إلا أنهم مدوا أثرها إلى مجال الأخلاق، فقد جادلوا فيها أيضاً أهي وراثة اجتماعية أم مولودة بمعنى مغروزة في الإنسان منذ الولادة وأصبحت القيم والمبادئ الخلقية -تبعًا لذلك -نسبية تتغير كما قلنا بتغير الزمان والمكان. لقد أطاحوا بالحقائق الثابتة في مجال المعرفة وأبطلوا القول بالمبادئ المطلقة في مجال الأخلاق.
الفكر الأخلاقي عند سقراط:
كان سقراط "أول من اهتم اهتمامًا ملحوظًا بدراسة السلوك الإنساني. حيث تصدى لمغالطات السفسطائية التي تستهدف زعزعة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، مما دعاه إلى الاهتمام في فلسفته بالإنسان وسلوكه بعد أن كان هذا الموضوع يشغل مكانًا ثانويًا في البحث الفلسفي السابق. فلم يحفل سقراط بالطبيعيات والرياضيات في عصره وآثر النظر في الإنسان، فانحصرت الفلسفة عنده في محيط الأخلاق لأنها-حسبه- أهم ما يتصلب الإنسان ويهمه وهذا معنى قول شيشرون إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أو أنه حول النظر من الفلك والعناصر الحسية إلى النفس، وتدور الأخلاق عند سقراط على ماهية الإنسان.
رأى سقراط لزامًا عليه أن يهدم نظرة السفسطائيين في المعرفة أولًا لأنها أساس البناء الأخلاقي لهم، فأقام الحقائق الثابتة على العقل في ميدان المعركة بعد فصله بين موضوع العقل وموضوع الحس، وأصبح يرى أن الإنسان له عقل وجسم حيث قوة عقله هي التي تسيطر على دوافع الحس ونزواته، مثبتًا أنه إذا كانت قوانين الأخلاق تتعارض مع الجانب الحيواني في طبيعتنا، فإنها تتمشى مع طبيعتنا الإنسانية العاقلة، فقد أراد بناء الأخلاق على العقل وتأسيسها على قواعد ثابتة، ومنها أطلق سقراط عبارته المشهورة:" الفضيلة علم والرذيلة جهل". وهي ذاتها التي رسمتها الآلهة في قلوب البشر، فالذي يحترم هذه القوانين فإنه يحترم العقل والنظام الإلهي أيضًا، وحتى إذا احتال البعض لمخالفتها تفاديًا للعقاب الذي قد يتعرض له في الدنيا، فسوف يُؤخذ بالقصاص -لا محالة- في الحياة المقبلة.
الفكر الأخلاقي عند أفلاطون :
يعتبر الفكر الأفلاطوني امتداداً طبيعياً لتعاليم سقراط وتوجيهاته فقد كان أفلاطون يجلس بين يدي أستاذه سقراط طالباً مجتهداً ومنصتاً لكلامه الذي كان ينم عن شخصية مربية تحمل قبل الفلسفة قيما أخلاقية ومعايير كثيرة من الفضيلة. لهذا جعل أفلاطون من الأخلاق عنصراً أساسياً في مختلف تصوراته الفلسفية التي ترتبط بمعاني العدالة والسياسية والحكمة وغيرها. فقد تابع أفلاطون أستاذه سقراط ابستمولوجيًا وأخلاقيًا؛ ففي المعرفة فصل بين المعرفة الظنية بالمحسوسات والماهيات المفارقة للمادة "المُثل"، ومن هنا عد الخير أسمى المثل وهو عنده مصدر الوجود والكمال. ولأفلاطون دور كبير في إبطال الاتجاه السفسطائي الذي أقام الأخلاقية على الوجدان، إذ استهدف أفلاطون جعل القانون الأخلاقي عامًا للناس في كل عصر ومكان، ولا يتيسر هذا إلا بإقامته على أسمى جانب مشترك في طبائع البشر ونعني به العقل، فرأى أن الفعل الخلقي يتضمن جزاءه في باطنه؛ حيث الإنسان الفاضل يؤدي الفعل الخير لذاته باعتباره غاية في نفسه، واعتبر أفلاطون -كأستاذه سقراط- أن النفس أسمى من الجسد، فهي الحاصلة على الوجود الحقيقي وما وجود الجسد إلا وجودًا ثانويًا وغير مؤكد "وهو الذي يحمل قواها الروحية النبيلة ويوجهها وجهة غير أخلاقية لأنه مصدر الشرور والآثام. ولهذا فإن النفس تشقى بهذا الوجود الأرضي وتعود فتحاول الانطلاق من محبسها لتصعد إلى العالم المعقول.
ولما كان اهتمام أفلاطون بالفرد ككائن اجتماعي أيضًا يعيشه في ظل نظام سياسي معين فإن الأخلاق ارتبطت عنده بالسياسة، ولهذا فإن الحكيم في السياسة بوجه خاص يجب عليه الاعتدال وضبط شهواته قبل حكمه على الآخرين وإلا فسدت حاله وحالهم. وردًا على حياة اللذة التي تصورها أتباع المذهب السوفسطائي فإن أفلاطون رأى العكس أن خفة الانفعال وضعف اللذة والألم- سمة الحياة الفاضلة- هي ألذ حياة، بينما حياة الرذيلة هي التي تتسم بالألم الذي يغلب ويدوم.
والفضائل عنده أربعة؛ ثلاثة منها تدبر قوى النفس وهي:
* - الحكمة فضيلة العقل تكمله بالحق، وهي أولى الفضائل ومبدؤها.
* - العفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء.
*- الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية. وإذا ما تحققت الفضائل الثلاث للنفس تحقق فيها التناسب والنظام، الحالة التي يسميها أفلاطون العدالة، وهي الفضيلة الرابعة (العدل والحكمة -في رأي هنري سيدجويك -هما الفضيلتان الرئيسيتان عند أفلاطون).
يذهب أفلاطون إلى ضرورة فرض أنواع من العقوبات على المنحرفين إلى الرذيلة، فليس أشنع من ارتكاب المرء جريمة ثم الإفلات بلا عقاب يصلحه ويقومه. ويظهر تأثر أفلاطون بالمذهب الفيثاغوري في تصوره الجسم بأنه مصدر شقاء النفس وأصل جميع الشرور؛ فهي سجن النفس ومانعته من الانطلاق إلى العالم الأعلى، ولا خلاص لها إلا بالتطهر والمجاهدة، وهكذا تنتهي الأخلاق عند أفلاطون إلى نوع من الزهد والنسك.
الفكر الأخلاقي عند أرسطو:
إذا كان أفلاطون قد وضع الشروط التي ينبغي توافرها في المقاييس الخلقية، فإن أرسطو هو وضع المذهب الأخلاقي المستند إلى فكرة السعادة يقول أرسطو في مقدمة كتابه "الأخلاق النيقوماخية": "إن كل فن وكل فحص وكذلك كل فعل واستقصاء يقصد به أن يستهدف خيرًا ما، ولهذا السبب فقد قيل بحق إن الخير هو ما يهدف إليه الجميع". ويفصل الغايات من الأفعال واختلافها، فيتساءل "فما هو إذن الخير في كل واحد منها؟" أليس هو الشيء الذي من أجله يصنع كل الباقي؟ " ويعدد الأمثلة التي يشرح بها رأيه فيقول "في الطب مثلًا هو الصحة، وفي فن الحركات العسكرية هو الظفر، وهو البيت في فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر. لكن في كل فعل، وفي كل تصميم أدبي، الخير هو الغاية نفسها التي تبتغي".
ويختلف الناس في فهم السعادة حيث يقسمهم أرسطو إلى مراتب ثلاث من حيث السلوك الأخلاقي:
*- الغوغائية العامية ترى السعادة في اللذة، إذ يختار أكثر الناس بمحض ذوقهم عيشة البهائم.
*- أصحاب العقول الممتازة النشيطة وغايتهم تحقيق السعادة في المجد أو الكرامة السياسية .
*- تبقى المرتبة الثالثة من مراتب السلوك الأخلاقية وهي مرتبة حياة الحكمة والتأمل أو العيشة التأملية والعقلية وهي السعادة الحقة عند أرسطو. (ويمكن أن ننوه هنا إلى أن أرسطو اتخذ منذ البداية نفس موقف سقراط وأفلاطون في محاربة اللذة، واعتبر السعادة غاية قصوى.)
وترتبط السعادة في مذهب أرسطو بالفضيلة التي تنقسم عنده إلى قسمان؛
*- فضيلة السيطرة على الشهوات والأهواء بواسطة العقل.
*- وفضيلة الصنف الثاني في حياة التأمل -فضيلة الأخلاق- وهي أسمى من الأول بكثير.
فالفضيلة العقلية تنتج دائمًا من تعليم وإليه يسند أصلها ونموها، وهي بحاجة إلى التجربة والزمان، وأما الفضيلة الأخلاقية فإنها تتولد على الأخص من العادة والطبع الشيم، فالفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، وليست فينا كذلك ضد إرادة الطبع، ولكن الطبع قد جعلنا قابلين لها، وأنما العادة تنميها وتتمها فينا.
ومن هذه العبارة ندرك أهمية التربية المنتجة للفضائل عند أرسطو، وإذا تساءلنا عن كيفية تحديد الفضائل الخلقية عند أرسطو؟ لعثرنا على إجابته عندما يتحدث عن أفعال الإنسان وضرورة الأخذ بفكرة الوسط، فكما أن كثرة الأطعمة تفسد الصحة فكذلك قلتها عن الحد اللازم، فالأمر كذلك بالنسبة للفضائل الإنسانية كالعفة والشجاعة وغيرهما "إن الإنسان الذي يخشى كل شيء ويفر من كل شيء ولا يستطيع أن يحتمل شيئا هو جبان، والذي لا يخشى البتة شيئًا ويقتحم جميع الأخطار هو متهور.
كذلك الذي يتمتع بجميع اللذات ولا يحرم نفسه واحد منها هو فاجر. وهذا الذي يتقيها جميعًا بلا استثناء هو بنوع ما كائن عديم الحساسية، وذلك بأن العفة والشجاعة تنعدمان على السواء إما بالإفراط وإما بالتفريط، ولا تبقيان إلا بالتوسط(الفضيلة إذن هي وسط بين طرفين كلاهما رذيلة) ولكن هذا الوسط الذي يعنيه أرسطو هو وسط اعتباري يتغير بتغير الأفراد والظروف التي تحيط بهم، والعقل وحده هو الذي يعين هذا الوسط.
فالإسقاط المجرد لفلسفة أرسطو الأخلاقية تعتمد مطابقة المفهومين ببعضهما (الفضيلة والأخلاق) و الفضيلة هي وسيلة لغاية هي السعادة، ولذا فإن الفضائل إرادية تتعلق بنا، شأنها شأن الرذيلة فهي تتعلق بنا أيضًا، أي إذا كان إتيان الفعل الصالح يتعلق بنا فإنه يتعلق بنا أيضًا ترك الفعل المخجل.
هذا بإيجاز بعض معالم المذهب الأرسطي في الأخلاق الذي لم يسلم من بعض المآخذ التي وجهت إليه -لا سيما في فكرة الوسط -فإن هذا الضابط لا يصلح لكل الفضائل، فإن الصدق مثلًا هو مطابقة الخير للواقع، ويظهر تكلف أرسطو حين يقول: "إن الصدق وسط بين التبجح وبين التواضع الكاذب"
.2- الفكر الأخلاقي في الأديان السماوية:
إن المجتمع الديني يرى قيمه الأخلاقية منطلقة من المصادر الدينية التي توارثها عبر مراجعه
الأساسية ومرجعياته الدينية الممتدة عبر التاريخ أو المعاصرة له، فيشكل من تلك المصادر منظومة قيمي ة متعددة الاتجاهات يحتكم إليها ويرى نفسه بمقدار التزامه بها، ومنظومة القيم كما يراها عبد اللطيف خليفة هي مجموعة القيم المترابطة التي تنظم سلوك الفرد وتصرفاته، ويتم ذلك غالب ا من دون وعي الفرد، وبتعبير آخر هي عبارة عن الترتيب الهرمي لمجموعة القيم التي يتبناها فرد أو أفراد المجتمع ويحكم سلوكه أو سلوكهم دون وعي.
فأخلاق الإنسان في نظر المجتمع الديني ببساطة إما أن تكون صالحة أو شريرة، وعلى أساس
صلاحها من عدمه يحصلُ الثواب والعقاب، وجاء الأنبياء عموما ليحققوا مكارم الأخلاق، وبذلك
توثقت العلاقة بين القيمة الأخلاقية والمعتقد الديني، وذلك لأن الإنسان يبني منظومة قيمي ة خاصة يراها كاملة، يرى نفسه متجها إلى الكمال بها ويحكم على مجتمعه من خلالها، فيقيم الآخرين من تلك المنطلقات، ويحاكم مجتمعه على أساسها.
. - 1 فلسفة الأخلاق في الفكر المسيحي: -
جاءت الديانة المسيحية لتؤسس منظومة أخلاقية تستمد مفاهيمها الأساسية من العقيدة الدينية التي تبشر بالمسيح المخلص الداعي إلى السلام والأخوة بين البشر، غير أن النص الديني تعرض للعديد من التعديل والتشويه، وانتهى الأمر إلى اعتبار الكتاب المقدس )الإنجيل( الوثيقة الرسمية للكنائس المسيحية التي اختلفت فيما بينها في العديد من المضامين من حيث الشكل والمحتوى . . يقول المصلح اللاهوتي وعالم الاخلاق الامريكي كارل باول رينهولد نيبوهر Karl Paul Reinhold Niebuhr إن الكتاب المقدس المصدر الرئيس الذي ينهل منه المسيحيون في مجال الأخلاق thos ، وأن النظرة المسيحية للأخلاق تنبع من مصدر يشترك فيه الكل وهو: الإيمان بطبيعة الله، وعلى هذا فإن الحياة المسيحية هي التجاوب بمحبة مطيعة لله وتحقيق إرادته، وهذه هي الوصية الأولى والعظمى، وإرادته هي محبة القريب مثلما أحب الله الإنسان )الأخلاق(. ولذلك فإن النظريات الأخلاقية جميعها تترابط رأسيا مع الله وأفقيا مع القريب. يضيف نيبوهر قائلا: إن الأخلاق المسيحية Ethics عبر التاريخ واحدة وفي نفس الوقت متعددة القيم الأخلاقية Values ، إذ إن هناك خيط يربط أشد الاتجاهات اختلافا ، Ethos فالحب الذي يربط البشر بالله هو الوصية العظمى والعامل المشترك بين كل التوجهات الأخلاقية. ويرى نيبهور أن اللاهوتيين العظام الذين كتبوا في علم u1575 الأخلاق أمثال اكليمندس وأغسطينوس وتوما الأكوينى وغيرهم، يرجعون إلى الكتاب المقدس بالرغم من إننا لا
نستطيع أن نفهم فكرهم بمعزل عن الخط الفكري اليوناني الروماني، إلا أن التراث الكتابي يظل خط اأساسيا في كتاباتهم وأفكارهم. ويبدأ نيبهور في تتبع التسلسل التاريخي من:
1 / العهد القديم : حيث اللاهوت والأخلاق لا ينفصلان في الكتاب المقدس، وهذا له أهمية قوية للبعد - الأخلاقي في العهد القديم لأنه مؤسس بالتحديد على هُوِيَّة هذا الإله
/2 الكنيسة في القرن الأول : تتضح الملامح الأولى للأخلاقيات في وحدة الجماعة وهو ما يعود - للتقليد اليهودي الذي نبعت منه المسيحية والانفصال عن العالم والعداوة له والاعتزاز بالمواطن السماوية. وبتغلغل المسيحية وسط ثقافات مختلفة كان أمامها خيارين إما التشدد أو المرونة. عندما دخلت المسيحية القرن الثاني الميلادي بدأت ترك ز على الدفاعيات ضد الهراطقة والأفكار الغريبة التي دخلت الكنيسة، وكانت تشدِ د على حفظ الإيمان والثبات فيه وتحديده في ألفاظ تحفظها وتكررها الكنيسة.
3 / الموعظة على الجبل : تركز الموعظة على المعية البشرية وأهمية محبة القريب. -
4 / رسائل بولس: إن العلاقات المسيحية عند بولس هي أخلاقيات الجماعة التي يكون الله في المسيح أو المسيح مع الله حاضرا على الدوام وعاملا على الدوام كمصدر للخير وحيث كل فرد عضو في الجماعة، إنها أخلاقيات جماعة ملكوت الله كحقيقة واقعة وكرجاء مستقبلي.
5 / إكليمندس السكندري: في القرن الثالث الميلادي كانت الكنيسة تقوى على المجتمع الروماني واليوناني والعكس أيضا، وكانت الإسكندرية مركزا ثقافي ا وفكري ا وُعرفت الإسكندرية بمكتبتها التي تحوى الكتابات الفلسفية اليونانية والرومانية، ولذلك فإن نظرية اكليمندس في الأخلاق تجمع بين مبادئ السلوك المسيحي والهيلنيستي، والخطية عنده ليست طبيعة متأصلة في الإنسان ولكنها تصرف خاطئ أو هي الحيدان عن الصواب.
نماذج من الفكر الأخلاقي في العصور الوسطي وبدء الإصلاح الإنجيلي في الغرب :
* توماس الإكويني 1224-1274 :
* مارتن لوثر - 1483 - 1546 :
* جون كالفن - 1509 - - 1564 :
2-II- 2 الأخلاق في الفكر الإسلامي: -
لقد اقتحم التفكير الأخلاقي كلَّ مناحي الحياة؛ كالأدب والطب والكيمياء، والبصريات، والفلك،
والرياضيات...، والتي لم يكن هدفها السيطرة على الكون وتغيير طبيعته )كما هو حال الحداثة
الغربية(، وإنما كان هدفها فهم حِكمة الله في خلق الكون؛ من أجل استلهام سُبل الاهتداء بالعلم
والأخلاق والعدل الإلهي في الأرض.
وبعد مدة من الزمن تراجعت القوة التأثيرية للأخلاقيات الدينية في المجتمع، حينها طفق المفكرون
الكبار من الأخلاقيين الصوفية إلى بناء نظرية أخلاقية صوفية ذات منطلقات قرآنية، تمكَّ نوا بفضلها من التأثير الأخلاقي في الحياة الفردية خاصَّة ومواجهة الثغرات الأخلاقية الفردية التي بدأت تظهر على النفوس. ومن بين المفاهيم والأسس الأخلاقية المبتكرة عندهم حينها والتي بحثوها آنذاك؛ سياسة النفس، علم السلامة، المراجعة أساس السلوك، مراتب العمل، المقامات والأحوال، أصول الأخلاق، رياضة النفس، "فكرة الضمير".
ويبدو أن الراغب الأصفهاني كان أولَ من استعار النموذج الأفلاطوني في تقسيم الفضائل الخُلقية إلى أربع: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة، ثم اقتدى به غيره فيما بعد، فأصبح أغلب الإنتاج الأخلاقي في دائرة الفكر الإسلامي حينها خلي طا بين ما هو قرآني وما هو يوناني. وقد أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن بعض الأقلام الإسلامية في مجال الأخلاق استعارت بعض خصائص التفكير الأخلاقي من النظام الأخلاقي الفارسي، ومن ذلك الإمام الماوردي في كتابيه "نصيحة الملوك" و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك"؛ حيث "كان يف كر من منظور ينتمي في هذا المجال إلى الموروث الفارسي".
وأمام هذا الخلط بين المرجعيات الأخلاقية ينبري سؤالان مهمَّان: هل ثمة نموذج أخلاقي نظري
معاصر نابع من القرآن الكريم، يصلح أن يكون نسق ا أخلاقيًّا قرآنيًّا خال صا؟ وما هي أركان هذا النموذج وأُسسه؟
* النظرية الأخلاقية الإسلامية -
هي نسق معرفي نظري جامع لمبادئ النظام الأخلاقي وقواعده في القرآن الكريم والسنة النبوية،
ويش كل إطا را معياريًّا يصلح أن تُبنى عليه الممارسات الأخلاقية وتُق وم بقواعده.
إن نظرية الأخلاق في القرآن كما صاغها محمد عبد الله دراز )ت 1958 م( تناولت الأخلاق النظرية، بكيفية تأصيلية تجاوز فيها منهجية السابقين التي لم تزد على اجترار أفكار أخلاقية ذات مرجعية يونانية في الغالب؛ كوصفِ مَلَكات النفس ومراتبها، وأقسام أمهات الفضائل وغيرها، إلى وضع إطار نظري جامع للجوانب الكلية والقضايا الجامعة لعلم الأخلاق في القرآن.