المطلب الثاني: مفهوم ميزانية الدولة ومبادئ اعدادها

لقد اهتمت المالية الكلاسيكية بالجانب المحاسبي للميزانية باعتبارها عمل قانوني يوضح ضوابط تسيير المال العام وصلاحيات كل من البرلمان والحكومة في مجال إعداد وتنفيذ ميزانية الدولة، غير أن تطور وظائف الدولة واتساع مجالات تدخلها احدث تغيير في مفهوم المالية العمومية، حيث لم تعد تنحصر في تحديد الموارد والوسائل اللازمة لسير المصالح الإدارية وفقط بل أصبحت الميزانية عبارة عن خطة مالية تكرس سياسة الدولة في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما تعتبر إحدى أهم أدوات السياسة المالية والنقدية.

ونتيجة لذلك فقد شهدت المبادئ والقواعد التقليدية المتعلقة باعداد الميزانية والتي كانت تهدف اساسا الى تكريس الرقابة البرلمانية على النشاط المالي للحكومة تراجعا واضحا من خلال ادخال العديد من الاستثناءات بهدف اضفاء مرونة اكثر في التسيير.

وعليه سنتطرق الى تعريف الميزانية(اولا)، ودراسة المبادئ والقواعد المتعلقة باعداد الميزانية والاستثناءات الواردة عليها(ثانيا)

اولا: تعريف الميزانية

تتمثل المالية الكلاسيكية للدولة في نظر الأستاذ "موريس دوفارجي" في مجمل الوسائل التي تتمكن بموجبها الدولة والجماعات العمومية الأخرى بتحصيل الإيرادات اللازمة لتغطية النفقات العمومية وذلك بتوزيع الأعباء على الأفراد.

كما تعرف ميزانية الدولة في ظل المالية الكلاسيكية أنها بيان رقمي تقديري لفترة مستقبلية محددة تقدر اعباء الدولة ومختلف إيراداتها وترخص بتنفيذها، فهي وثيقة محاسبية تسهل عملية الرقابة على المبالغ المخصصة للوحدات الإدارية لاقتناء اللوازم والوسائل المتعلقة بوظائفها من حيث مدى احترامها لتخصيص النفقات وعدم تجاوز المبالغ المرخص بها. لذلك اصطلح عليها بـ"ميزانية الوسائل" لأن اعدادها قائم على ضمان المدخلات وليس على تقييم المخرجات، حيث تتضمن الميزانية التقليدية نفقات إدارية تتمثل أساسا في وسائل ومستلزمات متكررة تحتاج لها الوحدات الحكومية في آدء مهامها، وبالتالي يستند غالبا في اعدادها على ميزانية السنة السابقة، بمعنى أنها لا تؤدي اي وظيفة تنموية ولا تترجم بتاتا تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وإنما هي وثيقة تتضمن فقط تقديرات الأعباء الخاصة بتسيير الهيئات الادارية ، وبالتالي تعتبر ترجمة لحياد الدولة وعدم تدخلها في الحياة الاقتصادية.

لذلك فالميزانية هي وسيلة رقابة لأن هيكلها وطريقة عرضها تسهل عمل البرلمان والهيئات الرقابية في مراقبة مدى التزام الوحدات الإدارية ببنود الميزانية والاعتمادات المخصصة لها من حيث مدى احترام تخصيصات النفقات وكذا اسقاف المبالغ المرخص بها.

إن إعداد ميزانية الدولة وفق منطق الوسائل يرتكز أساسا على ضمان الموارد المالية اللازمة لتغطية لوازم وحاجيات الوحدات الإدارية وكيفية توزيعها وتخصيصها ومراقبة الانضباط في استعمالها واحترام اسقاف النفقات المرخص بها وضمان التوازن المالي، ونتيجة لذلك تقسم النفقات العمومية وفق منطق الوسائل وفق معيارين، التقسيم الأول إداري يحدد الجهة الإدارية المكلفة بتنفيذ النفقة، أما التقسيم الثاني فهو تقسيم حسب البنود يحدد طبيعة وموضوع كل نفقة، وكذا اسقاف النفقات التي لايمكن تجاوزها.

غير أن تطور وظائف الدولة وانتقال هذه الأخيرة من مفهوم الدولة الحارسة الى مفهوم الدولة المتدخلة صاحبه تغير في مفهوم المالية العمومية، فخصائص الميزانية الحديثة مخالفة تماما لخصائص الميزانية الكلاسيكية.

لقد أصبح لميزانية الدولة وظيفة منتجة بحيث تلعب دور هام في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية عكس الميزانية الكلاسيكية والتي تميزت بالحياد، وبالتالي فهيكل ومضمون ميزانية الدولة الحديثة أكثر حجم وأوسع من مضمون الميزانية الكلاسيكية وذلك نتيجة توسع وتزايد حجم النفقات العمومية.

والمشرع الجزائري من خلال تعريفه لقانون المالية اخذ بالمفهوم الحديث لميزانية الدولة باعتبارها وثيقة رسمية ترخص لسنة مدنية مجموع موارد الدولة وأعبائها الموجهة لانجاز برامج الدولة طبقا للأهداف المحددة والنتائج المنتظرة ، مع مراعاة التوازن الميزاني والاقتصادي الناتج عنه.

من خلال هذا التعريف يمكن القول ان من خصائص الميزانية:

1- خاصية التقدير: بمعنى ان اعداد الميزانية يكون بهدف تنفيذها لفترة مستقبلية وبالتالي لاتعتبر عمل نهائي بل مجرد توقعات اولية للايرادات المفترض تحصيلها والنفقات المقدر تنفيذها.

2- خاصية الدورية: باعتبار ان الميزانية عمل قائم على التنبؤ والتوقع لفترة مستقبيلة ولكي تكون عملية التقدير قريبة للصحة والصواب وجب ان يكون اعداد الميزانية ذو طابع دوري اي لفترة زمنية محددة ومعقولة وهذا يسهل عمل التقييم والرقابة الدورية على الاموال العمومية.

3- وثيقة ترخيص: حيث انه لايمكن للحكومة مباشرة تنفيذ الميزانية الا بعد مصاقة البرلمان عليها واعطائها الطابع الرسمي من خلال اصدارها في شكل نص قانوني يعرف بقانون المالية.

ثانيا: مبادئ وقواعد اعداد الميزانية

لقد كرست مختلف الدول في تشريعاتها المتعلقة بتسيير الميزانية مبادئ وقواعد كبرى تؤطر ميزانية الدولة منها ماتعلق باسباب فنية ومنها مايرجع لاسباب سياسية تسهل عمل البرلمان في مراقبة الحكومة فيما يخص استعمال الاموال العمومية ومدى التزامها بالرخصة الممنوحة في اطار تنفيذ ميزانية الدولة.

ومن اهم هذه المبادئ نذكر مايلي:

1 – مبدأ السنوية: حيث يتم إعداد ميزانية الدولة لتنفذ خلال مدة زمنية محددة غالبا بسنة مدنية، بمعنى أن الرخصة الميزانية صالحة لمدة سنة والسلطة التنفيذية ملزمة بتنفيذ العمليات المالية المرخص بها في حدود سنة.

حيث يهدف مبدأ السنوية الى تكريس الرقابة البرلمانية على استعمال الأموال العمومية بصفة منتظمة ومتكررة وفعالة، كما أن إعداد الميزانية لمدة سنة يسهل عملية التقدير على السلطة التنفيذية وتكون اقرب للصواب، وبالتالي التحكم في مبالغ تخصيصات النفقات العمومية والموارد المالية اللازمة لتغطيتها.

غير ان التزايد المستمر للنفقات العمومية نتج عنه ظهور مشاريع عمومية كبرى تتطلب في انجازها مدة زمنية تتجاوز سنة مدنية، كما أن الجهاز الإداري من الناحية العملية لم يعد باستطاعته تنفيذ كل النفقات العمومية المتزايدة في سنة واحدة، وعليه تم استحداث رخص البرامج الاستثمارية والتي تفتح لأكثر من سنة وتنفذ عن طريق اعتمادات الدفع السنوية.

كما تعتبر قوانين المالية التصحيحية استثناء على مبدأ السنوية كونها تتضمن تعديلات في التقديرات الاولية الواردة ضمن قوانين المالية للسنة كما انها تتعلق بالتصديق على اعتمادات اضافية تتعلق بنفقات طارئة واستعجالية لم ينص عليها قانون المالية.

للاشارة فقد اعتمدت العديد من الدول في إطار عصرنة أنظمة الميزانية اطار النفقات المتعدد السنوات، وبالتالي أصبح هناك تراجع واضح لمبدأ السنوية في إعداد وتنفيذ الميزانية.

2 – مبدأ الوحدة: حيث تظهر ميزانية الدولة في شكل وثيقة واحدة تتضمن كل موارد الدولة ونفقاتها، بمعنى أن كل الموارد المالية للدولة مهما كان مصدرها وكذا كل النفقات ومهما كانت طبيعتها تظهر في الوثيقة نفسها.

يهدف مبدأ وحدة الميزانية الى تسهيل العمل الرقابي للبرلمان في مراقبة مبالغ الإيرادات ومصادرها ومجالات الإنفاق وطبيعتها في آن واحد، هذا من جهة، ولتسهيل عملية الموازنة بين إيرادات الدولة ونفقاتها من جهة أخرى.

غير أن طبيعة بعض النفقات العمومية واتساع مجالاتها وفي ظل تكريس مبادئ التسيير العمومي الحديث، انفصلت عن الميزانية العامة للدولة العديد من الميزانيات والإعتمادات أو الحسابات لتقدم في وثائق مستقلة، ونذكر على سبيل المثال في النظام الميزاني الجزائري الحسابات الخاصة بالخزينة.

3- مبدأ الشمولية: يفيد مبدأ الشمولية (العمومية) أن تقيد جميع إيرادات الدولة المتوقع تحصيلها في شق الإيرادات لتغطية جميع نفقات الدولة المقدر صرفها في شق النفقات، بحيث لا يتم إجراء مقاصة بين أي إيراد أو نفقة معينة كما لا يتم تخصيص أي إيراد لتغطية نفقة محددة.

وعليه فكل إيرادات الدولة تغطي في مجملها كل نفقات وأعباء الدولة وهذا مايعرف بأسلوب الحاصل الخام وعدم التخصيص.

إن مبدأ الشمولية يسهل على البرلمان مراقبة المبالغ الإجمالية سواء في شق الإيرادات أو في شق النفقات وكذا جميع العمليات المالية المرتبطة بهما، وبالتالي معرفة مصادر الإيرادات ومبالغها ومبالغ النفقات وطبيعتها وإجراء الموازنة بين إيرادات الدولة و نفقاتها.

غير ان هذا المبدأ شهد هو الاخر استثناءات تتعلق ببعض العمليات المالية المنفصلة على الميزانية العامة للدولة اي تخصيص مبالغ ايرادات لتغطية نفقات معينة كما هو الحال بالنسبة لحسابات التخصيص الخاص، الهبات والوصايا المتنازل عليها للدولة، المبالغ المستردة من طرف الخزينة والمدفوعة بدون وجه حق.

4- مبدأ تخصيص النفقات: يتمثل مبدأ تخصيص النفقات في ضرورة تقسيم المبلغ الإجمالي للنفقات العمومية حسب الوحدات الإدارية المكلفة بتنفيذها، وكذا توزيعها على بنود تعكس أوجه الإنفاق ومجالاته و الاسقاف المرخص بها، بحيث يلتزم في صرف كل نفقة بموضوعها والحد الأقصى للمبلغ المخصص لها، ولا يمكن نقل أو تحويل أي مبلغ مرخص به من بند لآخر إلا بترخيص.

تساعد قاعدة تخصيص النفقات في ضمان تغطية أوجه الإنفاق المرخص بها، كما تتيح للبرلمان متابعة ومراقبة الإنفاق العمومي ومجالاته وفق ما تم الترخيص به.

غير ان متطلبات المرونة في التسيير و اعطاء حرية اكثر للمسؤولين في تحقيق الاهداف المسطرة تم احداث استثناء على هذا المبدأ من خلال ما يعرف بشمولية الاعتمادات، كما تفتح بعض الاعتمادات غير المخصصة باعتبارها نفقات غير متوقعة ويسمح للمسؤولين باجراء عمليات تحويل ونقل للاعتمادات حسب المستجدات المتعلقة بتنفيذ الميزانية.

5- مبدأ التوازن المالي: يعتبر هذا المبدأ في ظل المالية الكلاسيكية أمر مقدس، بحيث يعتبر التوازن المالي للميزانية دلالة على حسن التسيير، وعليه يجب أن تكون إيرادات الدولة المقدر تحصيلها تساوي مبلغ النفقات المقدر صرفها بدون أي زيادة أو نقصان.

لقد برر الكلاسيكيون ضرورة احترام التوازن المالي على أساس أن عجز الميزانية يدفع بالدولة الى الاستدانة والقرض أو زيادة الضرائب وهذا يؤثر سلبا على مالية الأفراد، كما أن وجود فائض في الميزانية أمر غير مقبول لأن مصادر الإيرادات ماهي إلا ضرائب يتحملها الأفراد ومن غير المنطقي إقرار ضرائب غير مبررة.

ومع ذلك فقد تظطر الدولة الى احداث عجز في اعداد الميزانية في اطار حل بعض المشكلات الاقتصادية ولا سيما المتعلقة بمعالجة التضخم وتدعيم الطلب الكلي الى غير ذلك، وهذا مايعرف بالتوازن الاقتصادي باعتبار ميزانية الدولة جزء من الخطة الاقتصادية للدولة.