دروس ومحاضرات في مقياس فك الرابطة الزوجية ،الأستاذ الدكتور بن صغير محفوظ
Topic outline
-
-
Forum
-
جامعة محمد بوضياف المسيلة
كلية الحقوق
سنة أولى ماستر تخصص قانون الأسرة
دروس ومحاضرات السداسي الثاني
فك الرابطة الزوجية
إعداد: أ.د/ محفوظ بن صغير
السنة الجامعية 2022/2023
-
-
-
Lesson
المحاضرة الأولى
انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق
تناولت المادة 47 من قانون الأسرة الجزائري طرق انحلال الرابطة الزوجية، حيث جاء فيها:"تنحل الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة"([1]). ومن هنا يتضح بأن المشرع قد حصر أنواع الفرقة بين الزوجين في الطلاق أو الوفاة كأسباب عامة، غير أن هذه المادة قد أغفلت النص على كون الفسخ صورة من صور انحلال الزواج لاختلافه عن الطلاق([2]). أما انحلال الرابطة الزوجية بالوفاة فليس لإرادة أحد الأطراف دخل في ذلك، ويترتب عنها كافة الآثار الشرعية والقانونية وهذا بالاتفاق. ومن هنا لا بد من بيان طرق انحلال الرابطة الزوجية في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري بصورة موجزة، وذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: الفُرَق وأنواعها في الفقه الإسلامي
الفرع الأول: معنى الفرقة وأنواعها
أولا: معنى الفرقة
الفرقة في باب النكاح هي:" إنهاء عقد الزواج، والتفريق بين الزوجين لانقطاع العلاقة الزوجية بينهما لأي سبب يقتضي ذلك كطلاق، أو خلع، أو لعان، أو بواسطة التفريق القضائي، ونحو ذلك من أسباب الفرقة، كموت أحد الزوجين، أوفسخ عقد الزواج لأي سبب من الأسباب الشرعية التي توجب ذلك"([3]).
ومن هنا يتبين أن الفرقة أعمّ من الطلاق؛ لأنها تشمله كما تشمل غيره من أنواع الفرق الأخرى.
ثانيا: أنواع الفُرَق
تكون الفرقة بين الزوجين بأحد أمور ثلاثة:
أولا: تكون بالطلاق من الزوج، وقد ثبت حقه فيه بنصوص خاصة قطعية الثبوت والدلالة لا تحتمل تأويلا، ولا تحتاج إلى تفسير، فهي من المحكم الذي لم يتناوله نسخ كلي أو جزئي، ويجب العمل به كما هو، ومن أنكر ذلك فقد أنكر شيئا علم من الدين بالضرورة.
ثانيا: تكون بالفسخ من القاضي، وقد ثبت حقه في التفريق بأدلة عامة ترجع إلى قاعدة منع الضرر.
ثالثا: أن يوجد عند العقد ما ينافي قيام الزوجية شرعا أو يطرأ بعده ما ينافي بقاءها، وحينئذ ينفسخ الزواج من غير طلاق من الزوج ولا فسخ من القاضي([4]).
ومنه لا بد من بيان الفرق بين الطلاق والفسخ واختلاف المذاهب في ذلك بإيجاز من خلال ما يأتي:
الفرع الثاني: أهم الفروق بين الطلاق والفسخ
لمعرفة الفرق بين الطلاق والفسخ، لابد أولا من تعريف الفسخ وبيان معناه.
أولا: معنى الفسخ
هو إزالة ما يترتب على العقد من أحكام، وقد يكون الفسخ لخلل صاحب نشوء العقد، كما لو نشأ العقد غير لازم، وقد يكون الفسخ لخلل طرأ على العقد بعد نشوئه تاما صحيحا([5]). وفسخ عقد الزواج عبارة عن نقضه ورفعه وإزالة ما يترتب عليه من الأحكام في الحال([6]). ويكون فسخ عقد الزواج إما بسبب خلل مقارن للعقد،كما لو تبين أن العقد كان فاسدا بسبب أن المرأة المعقود عليها ليست محلا للعقد بالنسبة لمن تزوجها بأن ظهر أنها أخته من الرضاع، أو كانت زوجة للغير أو معتدة وقت إنشاء العقد،كما يكون الفسخ بسبب خلل طارئ على العقد بعد تمامه، كارتداد أحد الزوجين المسلمين عن دين الإسلام([7]).
ثانيا: الفرق بين الطلاق والفسخ
تختلف حقيقة الطلاق عن حقيقة الفسخ، وفي ذلك يقول أبو زهرة:" إن حقيقة الطلاق توجب إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة، وهو لا يكون إلا في نكاح صحيح، وهو من آثاره التي قررها الشرع حتى لو عقدا عقد النكاح واشترطا فيه ألا يطلق الزوج زوجته كان الشرط لاغيا لأنه شرط فاسد إذ هو مناف لمقتضى العقد. أما الفسخ فحقيقته أنه عارض يمنع بقاء النكاح، أو يكون تداركا لأمر اقترن بإنشاء العقد فجعله غير لازم، وهذا الفسخ يكون لنقض العقد من أصله، ومثال الأول ردة أحد الزوجين، ومثال الثاني الفسخ بخيار البلوغ"([8]). ويفترق الفسخ عن الطلاق من وجوه([9]):
أ- يعتبر الطلاق إنهاء لعقد الزواج، أما الفسخ فقد يكون نقضا لعقد الزواج لخلل رافق نشوءه أو عارض طرأ على الزواج فمنع بقاءه بعد أن نشأ صحيحا، أو حادث أصاب أحد الزوجين فأعطى للآخر حق طلب الفسخ.
ب- يكون الطلاق بائنا لا رجعة فيه، ورجعيا يجوز للزوج مراجعة زوجته ما دامت في العدة، أما الفسخ فهو فرقة بائنة لا رجعة فيها.
ج- الفرقة التي تعد طلاقا تنقص من عدد الطلقات الثلاث التي يملكها الزوج، أما الفسخ فلا يعتبر من الطلقات الثلاث، أي لا ينقص العدد.
د- أن الطلاق لا يكون إلا في نكاح صحيح، أما الفسخ فقد يكون في نكاح صحيح أو غير صحيح.
ثالثا: ضابط ما يعتبر طلاقا وما يعتبر فسخا
ضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق عند أبي حنيفة ومحمد أن كل فرقة من جانب الزوج، ولا يمكن أن تقوم من قبل المرأة فهي طلاق، كالفرقة بسبب الإيلاء([10])، وكل فرقة من قبل الزوجة ولا يمكن أن تكون من قبل الزوج فهي فسخ كالفرقة بسبب عدم كفاءة الزوج لزوجته([11]). إلا أن أبا حنيفة خلافا لمحمد يعتبر الفرقة بسبب ردة الزوج فسخ؛ لأنه يرى أن الردة كالموت من حيث أن صاحبها مهدر الدم، فتشبه الفرقة بالموت، والفرقة بالموت لا يمكن جعلها طلاقا([12]).
وأما ضابطه عند المالكية فيتمثل في السبب الموجب للفرقة([13])، فإن كان راجعا إلى الزوجين فهو طلاق، أما إذا لم يكن راجعا لأحد الزوجين، بحيث لو أرادا الاستمرار على حياتهما الزوجية المشتركة لما جاز لهما ذلك كان هذا فسخا([14]). وأما الشافعية والحنابلة فقد ذهبوا إلى أن الفرقة التي تقع بين الزوجين تعتبر طلاقا إذا أوقعها الزوج أو نائبه وما عدا ذلك من الفُرَق فهي فسخ([15]).
رابعا: الآثار المترتبة على هذه الفروق
تختلف الآثار المترتبة على هذه الفروق باختلاف أسبابها؛ لأن فرق النكاح ليست ذات طبيعة واحدة.
- فبعضها يوجب حرمة مؤبدة، لا تحل المرأة للرجل بعدها أبدا، كالفرقة الحادثة بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه.
- وبعضها يوجب حرمة مؤقتة، تزول بزوال سببها وتعود المرأة حلالا للزوج متى عقد عليها بعد ذلك، كالفرقة بسبب خيار البلوغ، أو الردة، أو الإباء عن الإسلام، فإنه متى زال السبب حلت المرأة للرجل.
- وبعضها محل خلاف بين الفقهاء في كونه يوجب حرمة مؤبدة، أو مؤقتة، مثل اللعان عند أبي حنيفة ومحمد ومن وافقهما، حيث يرون أن الفرقة به لا تكون مؤبدة وأن للزوجين أن يستأنفا الحياة الزوجية بينهما إذا كذّب الرجل نفسه فيما قذف به امرأته، أو فقد أحدهما أهلية اللعان([16]).
بينما يرى جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب المختلفة، وبعض فقهاء الحنفية([17]) أن الفرقة بسببه تكون مؤبدة، لا يحل للمتلاعنين بعدها أن يعودا أبدا([18]).كما أن منها ما هو فسخ بالاتفاق، كالردة، ومنها ما هو طلاق بالاتفاق كالفرقة الواقعة بصريح اللفظ أو كناياته، ومنها ما هو محل خلاف بين الفقهاء في كونه فسخا أو طلاقا.
موقف المشرع الجزائري
كما سبقت الإشارة إليه فإن المشرع لم يجعل الفسخ صورة من صور انحلال الرابطة الزوجية، ذلك لأن إنهاء الحياة الزوجية كما يكون بالطلاق يكون بالفسخ، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، إنما الخلاف بينهم فيما يتناوله كل من الفسخ أو الطلاق من فرق الزواج، فما يعدّ فسخا في بعض المذاهب قد يعدّ طلاقا في مذاهب أخرى([19]) -كما سبق بيان ذلك-.
وأما انحلال رابطة الزوجية بالطلاق فقد تناولته المادة 48 والتي نصت على ما يلي:"مع مراعاة أحكام المادة 49 أدناه يحل عقد الزواج بالطلاق الذي يتم بإرادة الزوج أو بتراضي الزوجين أو بطلب من الزوجة في حدود ما ورد في المادتين 53 و 54 من هذا القانون"([20]).
ومن هذا النص يتضح أن المشرع قد حصر طرق الفرقة بين الزوجين في الطلاق بإرادة الزوج وبالإرادة المشتركة بين الزوجين، و بطلب من الزوجة عن طريق التفريق القضائي طبقا للمادة 53 ، أو عن طريق الخلع طبقا للمادة 54. كما أن المادة 55 أضافت حالة الطلاق بسبب نشوز أحد الزوجين كأسباب قانونية. وفيما يلي نتناول الصورة الأولى من صور فك الرابطة من خلال ما يأتي:
المطلب الثاني: الطلاق بإرادة الزوج في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
جاء في المادة 48 من قانون الأسرة:"يحل عقد الزواج بالطلاق الذي يتم بإرادة الزوج". حيث اعتبرت هذه المادة الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج صورة من صور فك الرابطة الزوجية، إلا أنه يلاحظ من خلال هذا النص أن المشرع قد عزف عن تبني تعريف قانوني للطلاق، واكتفى ببيان إحدى حالات انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق، ولم يتطرق حقيقة إلى تعريفه وبيان أركانه وشروطه وضوابطه، وفي ذلك محاولة منه التملص من أي التزام يقع عليه لتبنيه إحدى التعاريف الفقهية، وترك ذلك لما هو مقرر في الفقه الإسلامي على غرار مسائل فقهية أخرى([21]) ضمنها في المادة 222 من قانون الأسرة عندما نص على أنه:"كل ما لم يرد النص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية"([22]).
وقد تناول المشرع أحكام هذه الصورة ( الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج ) من خلال المواد (49-50-51-52). حيث نصت الفقرة الأولى من المادة 49 على ما يلي:"لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولات صلح يجريها القاضي دون أن تتجاوز مدته ثلاثة أشهر ابتداء من تاريخ رفع الدعوى"([23]).
ونصت المادة 50 على أنه:"من راجع زوجته أثناء محاولة الصلح لا يحتاج إلى عقد جديد، ومن راجعها بعد صدور الحكم بالطلاق يحتاج إلى عقد جديد"([24]).
وما يمكن ملاحظته بشأن الفقرة الأولى من المادة 49 أن الطلاق لا يثبت إلا بموجب حكم قضائي وأن أي طلاق عرفي يقع شفهيا ضمن قواعد الفقه الإسلامي لا يعتد به قانونا، ولا يحتج به تجاه الغير([25])، كما يفهم أيضا من هذا النص أنه إذا حصل الطلاق بحكم قضائي ثم راجع الزوج زوجته دون توثيق عقد الزواج من جديد، فإن هذا الزواج لا يحتج به قانونا تجاه الغير من حيث ترتب الآثار القانونية عليه، وهذا مخالف لما هو مقرر في الفقه الإسلامي من حيث ترتب الآثار الشرعية على الطلاق أو الرجعة- وسيأتي بيان ذلك في موضعه-.
أما ما يمكن إبداؤه كإشكاليات فقهية بشأن المادتين فهو:
أولا: لم تنص المادتين صراحة على نوعي الطلاق الرجعي و البائن بينونة صغرى. لذلك ينبغي إعادة صياغة مواد الطلاق بالشكل الذي يستجيب لأحكام كل من الطلاق الرجعي والبائن.
ثانيا: يمكن للزوج أن يتلفظ بالطلاق، وتطول إجراءات الحكم به طبقا للمادة 49، وقد تنعقد جلسة الصلح بعد نهاية العدة الشرعية، التي يبدأ حسابها من وقت تلفظ الزوج بالطلاق، فإذا نجحت هذه الجلسة وراجع المطلق مطلقته بلا عقد جديد طبقا للمادة 50، فقد حصل تعارض بين القانون وأحكام الشريعة الإسلامية، إذ أن الطلاق صار بائنا بينونة صغرى من الناحية الشرعية، يحتاج المطلق لإرجاع زوجته إلى عقد جديد، بينما لا يحتاج إليه بمقتضى المادة 50.
ثالثا: قد يؤدي تطبيق المادتين إلى بروز ظاهرة ازدواجية العدة: عدة شرعية تبدأ من تاريخ تلفظ الزوج بالطلاق، وعدة قانونية تبدأ من تاريخ صدور الحكم بالطلاق، وهذا يؤدي إلى تعارض بين القانون والشريعة على عدة مستويات، خاصة بعد فوات العدة الشرعية واستمرار العدة القانونية.
أما ما يتعلق بحكم الرجعة في الطلاق الثلاث فقد نصت المادة 51 على أنه:"لا يمكن أن يراجع الرجل من طلقها ثلاث مرات متتالية إلا بعد أن تتزوج غيره، وتطلق منه أو يموت عنها بعد البناء"([26]).
حيث يفهم من نص هذه المادة عدم وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، وهذا مخالف لمذهب الجمهور القائلين بوقوع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
وأما فيما يخص استعمال الرجل لحقه الأصيل في إيقاع الطلاق بحكم أنه مخول في الشريعة الإسلامية للزوج، ولا يترتب على استعماله من الأحكام سوى استحقاق الزوجة المطلقة لمؤخر صداقها، ونفقة عدتها، التي يراعى في تقديرها حالة المطلق المالية([27])، فقد نصت المادة 52 على أنه:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها"([28]). حيث يفهم من نص هذه المادة أن المشرع قد جعل الأصل في الطلاق الحظر إلا إذا دعت الحاجة إليه، فيعدّ متعسفا-إلا إذا أثبت العكس- من طلق زوجته دونما سبب معقول. ومنه يجوز للقاضي أن يحكم للزوجة بالتعويض على مطلّقها بحسب حالة ودرجة تعسفه، إلا أن المشرع لم يبين حدود مجاوزة استعمال الحق في الطلاق بالنسبة للزوج،كما أنه لم يبين الطرف الذي يقع على عاتقه إثبات التعسف من عدمه، ولم يضع حدًّا للتعويض المالي الذي ينشأ في ذمة الزوج المتعسف، بل تركه لسلطة القاضي التقديرية، وفقا لطبيعة الطلاق التعسفي، ولحالة الزوج المالية. كما أنه لم يوضح مقصوده من التعويض هل هو حق الزوجة في متعة الطلاق المقررة في الشريعة الإسلامية، أم أنه التعويض بسبب التعسف في استعمال الحق([29])؟.
ومن ثم يمكن القول بأن هذه المواد 49-50-51-52 والمتعلقة بالطلاق تطرح عدة إشكالات فقهية وقانونية وقضائية -بخصوص وقوع الطلاق وأحكام الرجعة ومعيار تقدير التعسف في إيقاع الطلاق- يجيب عليها الفقه الإسلامي وفق ما يأتي:
أولا: الجانب الفقهي
مما لا شك فيه أن فقهاء الشريعة الإسلامية من القدامى والمعاصرين قد تناولوا موضوع الطلاق وبينوا جميع أحكامه وآثاره، وفصلوها على قدر كبير من البيان والوضوح، بما لا يدع مجالا للبحث والاستقصاء - وهي مثبتة في كتبهم- إلا ما جدّ أو يجدّ من قضايا ووقائع تتطلب حلولا جديدة ملائمة لروح الشريعة ومقاصدها، فإنها تكون محل بحث واجتهاد. ومنه فإن المسائل التي تكون محل البحث والدراسة - في موضوع الطلاق- هي القضايا التي لها علاقة بما هو منصوص عليه في قانون الأسرة من مواد قد تكون محل مناقشة وتقويم بحسب موافقتها أو مخالفتها لأحكام الشريعة الإسلامية، والتعرض لبعض ما يخص الطلاق من أحكام إنما يكون بقدر الحاجة وبحسب ما يخدم الموضوع.
وقبل الخوض في تحليل هذه الإشكاليات ومناقشتها والإجابة عليها وفق ما قررته أحكام الشريعة الإسلامية، لابد أولا من التطرق إلى تعريف الطلاق شرعا وبيان حكمته وحكمه.
الفرع الأول: تعريف الطلاق لغة واصطلاحا
أولا : في اللغة، الطلاق لغة يرجع لعدة معاني([30]):
- الترك : ومنه طَلَّق البلاد تركها وطَلّقْت القوم تركتهم.
- الفراق : ومنه طَلَّقت البلاد فارقتها.
- التخلية : ومنه أَطْلَقْت الأَسير أَي خلّيته .
- الإرسال : ومنه ناقة طالق بلا خطام، وهي التي ترسل في الحي فترعى من جَنابِهم حيث شاءت لا تُعْقَل إذا راحت ولا تُنحّى في المسرح.
- من لا قيد عليه : ومنه وحبسوه في السجن طَلْقا؛ أي بغير قيد، والطالق من الإبل .. التي لا قيد عليها؛ بمعنى حل القيد والإطلاق، ومنه ناقة طالق؛ أي مرسلة بلا قيد، وأسير مطلق؛ أي حل قيده وخلي عنه.
وطلاق النساء يأتي لمعنيين([31]) : أحدهما :حل عقدة النكاح. والآخر: بمعنى التخلية والإرسال .
لكن العرف خص الطلاق بحل القيد المعنوي وهو في المرأة، فيقال: طلق الرجل زوجته، فهي طالق، وطَلَقت المرأة من زوجها طلاقاً؛ أي تحلّلت من قيد الزواج وخرجت من عصمته([32]).
ثانيا: في الاصطلاح، عرف فقهاء المذاهب الطلاق بتعاريف عديدة متقاربة:
حيث عرّفه الحنفية بأنه:" هو رفع القيد الثابت شرعا بالنكاح"([33]). فيحترز بلفظ "شرعا" عن رفع القيد الثابت حسّا، وهو حلّ الوثاق. ويحترز بالنكاح عن العتق لأنه رفع قيد ثابت شرعا، لكنه لا يثبت ذلك القيد بالنكاح. أو هو"رفع قيد النكاح في الحال بالبائن، أو في المآل بالرجعي بلفظ مخصوص وهو ما اشتمل على الطلاق"([34]).
وعرّفه المالكية بأن:"صفة حكمية ترفع حلّية متعة الزوج بزوجته"([35])، أو هو"إزالة القيد وإرسال العصمة لأن الزوجة تزول عن الزوج"([36]).
كما عرّفه الشافعية بأنه :"حلّ عقد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه"([37]).
وعرّفه الحنابلة بأنه:"حلّ قيد النكاح أو بعضه". وبعض قيد النكاح إذا طلقها طلقة رجعية([38]).
وعرفه من المعاصرين عبد الرحمن الصابوني بأنه:" الصيغة الدالة على إنهاء الحياة الزوجية في الحال أو المآل الصادرة من أهله في محله، قاصدا لمعناه أمام الشهود"([39]). وقد راعى في هذا التعريف تضييق نطاق الطلاق كما شرع في الكتاب والسنة.
والمختار في تعريفه أن يقال([40]):" إنهاء عقد الزواج الصحيح في الحال أو في المآل بالصيغة الدالة عليه"([41]).
الفرع الثاني: مشروعية الطلاق وحكمته وحكمه
وبيان ذلك بإيجاز فيما يأتي:
أولا: مشروعية الطلاق
الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقد وردت آيات كثيرة تدل على جواز الطلاق وحله منها قوله تعالى:]الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[([42]) وقوله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[([43]).
وأما السنة: ففيها أخبار كثيرة بوقوع الطلاق تدل على مشروعيته، منها:" أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- طلّق امرأته وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله r عن ذلك فقال:"مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"([44]).
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الطلاق. ونقل البهوتي الإجماع على جوازه([45]).
ثانيا: حكمة مشروعية الطلاق
نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية من محاسنها ومن دلائل واقعيتها وعدم إغفالها مصالح الناس في مختلف ظروفهم وأحوالهم، إذ طبيعة النفوس وما يعتريها من تغيّرات منها ما يؤدّي إلى التنافر والخلاف، وقد يستعصى حل الخلاف وإزالة النُّفرة فيما بين الزوجين فتكون المصلحة في هذه الحالة هو وقوع الطلاق والفرقة، حيث لا يبقى مصلحة في النكاح ومقاصده فتغلب مصلحة الطلاق؛ لأن في بقاء الرابطة الزوجية بعد فساد الحال بين الزوجين مفسدة ومضرة وسوء معاشرة من غير فائدة. وقد يكون العقم وعدم النسل بسبب من الزوج، والمرأة تتطلع إلى الذرية والنسل فتطلب الطلاق بالخلع أو بدون عوض لتحقق أمنيتها مع زوج آخر([46]).
قال الكاساني:"شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى للنكاح مصلحة، لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد-أي مقاصد النكاح- فتغلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه"([47])، وقال ابن قدامة:"ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررا محضا بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه"([48]).
ثالثا: حكم الطلاق
الطلاق تصرف شرعي يقوم به الزوج، وتعتريه الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة، فهو يباح عند الحاجة لسوء خلق الزوجة ولسوء عشرتها، ويكره في غير حاجة، ويحرم في الحيض والنفاس، ويجب كطلاق المُولي بعد التربص أربعة أشهر من حلفه إذا لم يفيء، وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأياه، ويستحب عند التفريط في حقوق الله تعالى كترك الصلاة، أو في التفريط في حقوق الزوج أو للبغض الشديد للزوجة([49]).
وهنا تعرض مسألة بيان الأصل في حكم الطلاق بين الحظر و الإباحة، وقد اختلف الفقهاء في الحكم الأصلي للطلاق فقال بعضهم بالإباحة، وقال البعض بالحظر، والخلاف هنا متعلق بحكم أصل الطلاق قبل أن تعتريه الأحكام الخمسة؛ لأنّ الطلاق من حيث هو طلاق جائز، وذلك على قولين في الجملة:
القول الأول: الأصل في الطلاق الإباحة: قال الإمام القرطبي في تفسيره:"دلّ الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. وقال ابن المنذر: ليس في منع الطلاق خبر يثبت". وقال السرخسي:"وإيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء"([50]). وقال ابن عابدين:"إيقاع الطلاق مباح عند العامة لإطلاق الآيات وهو المذهب"([51])؛ أي عند الحنفية وغيرهم، ولكن هناك من الحنفية من ذهب إلى أن الأصل في الطلاق الحظر([52]).
والحجة لهذا الرأي قوله تعالى:]لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ[([53])، وقوله تعالى:]فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[([54])، وذلك يقتضي إباحة إيقاع الطلاق، وأن الأصل فيه الإباحة لا الحظر. وقد طلّق النبي r حفصة رضي الله عنها حتى نزل عليه الوحي بمراجعتها لأنها صوّامة قوّامة.كما طلّق غير واحد من الصحابة-رضي الله عنهم-([55]).
القول الثاني: أن الأصل في الطلاق الحظر، وبهذا قال أكثر الفقهاء. والحجّة لذلك: أنّ الزواج عقد مسنون، بل هو واجب أحيانا، فكان الطلاق قطعا للسنة، وتفويتا للواجب، فيكون الأصل فيه الحظر والكراهة إلا أنه رخّص للتأديب أو التخليص كما قال الكاساني([56]). جاء في روضة الطالبين:"وأما المكروه فهو الطلاق عند سلامة الحال"([57])، وجاء في مغني المحتاج:"ومكروه كمستقيمة الحال"([58]). فيفهم من هذا القول أن الأصل في الطلاق عند الشافعية هو الحظر، وإلا لما كان مكروها بالنسبة للزوجة المستقيمة، وعند سلامة الحال. وجاء في كشاف القناع:"ويباح الطلاق عند الحاجة إليه.. ويكره الطلاق من غير الحاجة إليه"([59]).
وقال ابن عابدين:"وأما الطلاق فإن الأصل فيه الحظر، بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه، وهو معنى قولهم: الأصل فيه الحظر والإباحة للحاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقا وسفاهة رأي ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها ولأولادها، ولهذا قالوا: إن سببه الحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فليست الحاجة مختصة بالكبر والريبة، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعا يبقى على أصله من الحظر، ولهذا قال تعالى:] فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا[([60]) أي لا تطلبوا الفراق"([61]). ومعنى ذلك أنّ الزوجة إذا تركت النشوز وأطاعت زوجها فإن طلاقها بعد ذلك يكون اعتداء عليها وظلما لها، وإيذاء لأهلها وأولادها، وهذا لا يجوز لعدم وجود سبب([62]).
وقال ابن تيمية([63]):"لولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا، وإن الله يبغض الطلاق وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال الله تعالى: ) فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ(([64])، وفي الصحيح عن النبي r قال:"إن الشيطان ينصب عرشه على الماء ويبعث جنوده، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم فيقول: مازلتُ به حتى شَرب الخمر، فيقول: الساعة يتوب، ويأتي الآخر فيقول: مازلت به حتى فرّقت بينه وبين امرأته فيقبِّله بين عينيه ويقول: أنتَ أنتَ"([65])، ولقوله r:" أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"([66]).
وهناك اتجاه ثالث يرى بأن الحظر في الطلاق دياني لا قضائي؛ بمعنى أن الزوج الموقع للطلاق بغير مبرر شرعي يكون آثما، وعلى هذا فإن الموضوع يتعلق بأمر نفساني قد لا يستحسن معرفته، فالأمر موكول إلى ضمير الزوج. أما قضاء فالطلاق واقع، ولا يجوز للقاضي التدخل لمعرفة السبب حرصا على سمعة الأسرة([67]).
وعلى هذا فالراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الرأي الثاني من أنّ الأصل في الطلاق الحظر لعموم الأدلة التي تنفر من الفرقة وترغب في استقرار الحياة الزوجية واستمرارها بشكل يتلاءم و مقصد الديمومة في الزواج.
وقد أخذ المشرع الجزائري بهذا الرأي من خلال المادة 52 من قانون الأسرة الجزائري، والتي جاء فيها:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها"([68]).
الفرع الثالث: جعل الطلاق بيد الرجل والحكمة من ذلك
أولا: تقرير حق الطلاق للرجل والحكمة منه
إن صاحب الحق الأصيل في الطلاق هو الرجل والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى:] لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً[([69])، فالخطاب في هذه الآية موجه إلى الأزواج.
كما دلّ حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- على ذلك وفيه:"مُره فليراجعها"([70]).
فليس لغير الزوج من ولي أو وصي أن يوقع الطلاق حتى وإن كان هو الذي تولى عقد النكاح([71]). فإن قيل: فلِمَ اشترك الزوجان في النكاح وتفرد الزوج بالطلاق؟ قيل لأمرين([72]):
أحدهما: أنه لما اشترك الزوجان في الاستمتاع جاز أن يشتركا في عقد النكاح، ولما اختص الزوج بالتزام المؤنة جاز أن يختص الزوج بإيقاع الفرقة.
والثاني: أنّ المرأة لم يجعل الطلاق إليها؛ لأنّ شهوتها تغلبها فلم تؤمن منها معاجلة الطلاق عند التنافر، والرجل أغلب لشهوته منها، وأنه يؤمن منه معاجلة الطلاق عند التنافر.
فمن الأمور المقررة شرعا أن الله تعالى راعى في تشريع الأحكام لعباده ما هو غالب من أمورهم وأحوالهم، وما يناسب طبائعهم، وجعل المناط في أحكامه المظان الكلية دون الفردية، وراعى ما هو الشأن في المكلفين من الرجال؛ لأن الوقائع الفردية لا تنتهي عند حدّ، فلهذا جعل الطلاق بيد الرجل له حق إيقاعه مستقلا دون أن يتوقف على رضا الزوجة([73])، ودون أن يكون أمام القاضي. ذلك أن فصم رابطة الزوجية أمر له خطره تترتب عليه آثار لها أهميتها في حياة الجماعات والأسر، فلا بد أن يوضع بيد من يقدّر هذه العواقب ويفكر في الأمور ويزنها بميزان العقل، دون تأثر برغبة عارضة أو غضبة ثائرة([74]). ولأن الله تعالى جعل للرجل القيام على المرأة بسبب قوامته وبما كلف به من دفع المهر لها والإنفاق عليها([75])، وذلك لقوله تعالى:]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[([76])، ومن لوازم هذا أن تكون العصمة بيده، إن شاء أمسك وإن شاء طلق([77]). ولقوله تعالى:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ[([78])، وقوله تعالى:] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ[([79])، حيث جعل الله الطلاق لمن ينكح، إن شاء أمسك وإن شاء طلق؛ ولأن الرجل أعقل من المرأة وأضبط لعواطفه وأدرى بالتبعات التى تترتب على الطلاق بخلاف المرأة([80]).
كما أن قوله r: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"([81])، يفيد جعل الطلاق بيد الرجل([82]).
فمن تتبع النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة يجدها تدل دلالة صريحة على أن الطلاق حق للزوج وليس حقا للزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظا على الزواج، وتقديرا لمخاطر إنهائه بنحو سريع بحل الرابطة الزوجية التي عقدت في الأصل لتكون طوال العمر، فلا يجوز التعجل في إنهائها.
والملاحظ الذي يؤيده الواقع أن الرجل أكثر احتمالا وصبرا على ضبط عواطفه وانفعالاته عند الغضب ودواعيه من المرأة، ولا يقدح في هذا أن بعض النساء قد يكنَّ أقدر وأكمل، ولكن هذا على النادر والأحكام تُبنى على الغالب. ولأن الزواج والطلاق يحمّل الزوج تبعات مالية -بأصل قوامته-مما يحْمله على التأنِّي وعدم العجلة في تطليق زوجته([83]).
على أن الشريعة الإسلامية لم تهمل جانب المرأة وحقها في موضوع الطلاق، فمنحتها الحق في طلب التطليق وأوجبت على القاضي أن يجيبها إلى طلبها ويفرق بينها وبين زوجها، إذا كان هناك من الأسباب ما تقره العدالة وتؤيده الشريعة، كما إذا تضررت من الزوج، وثبت أنه يؤذيها بما لا يليق بأمثالها([84]). وجعل لها أن تفتدي نفسها بمال تدفعه للزوج وهو ما يسمى بالخلع، وأجاز الشارع للزوج أن يفوض زوجته في إيقاع الطلاق؛ لأن القاعدة الشرعية تنص على أنه "من ملك تصرفا يملك الإنابة فيه إن كان قابلا للإنابة"([85]).
وبهذا يكون الشرع قد وازن بين المصلحتين من جانب الزوج في أن يكون صاحب الحق في الطلاق، وراعى أيضا جانب المرأة أمام ظلم الزوج لها فأعطاها الحق في طلب التطليق إذا توافرت أسبابه الشرعية فيستجيب لها القاضي.
ولا يصح أن يقال بأن الطلاق لا يقع إلا باتفاق الزوجين؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لتعنت أحدهما ليوقع الآخر في ضرر لا يمكنه التخلص منه([86]).كما لا ينبغي القول بأن الطلاق يتوقف على حكم القاضي لأن الطلاق حق للزوج بمقتضى النصوص الشرعية، وتقييد وقوعه بأن يكون صادرا من القاضي أو بإذنه يفتقر إلى الدليل. وفيما يلي بيان ذلك:
ثانيا: تقييد الطلاق بالقضاء
من المعروف أن الشريعة الإسلامية أعطت الزوج الحق في طلاق زوجته بإرادته المنفردة، وقد انتقد البعض هذا الاتجاه ونادى بأن يكون الطلاق بحكم القاضي بعد إثبات مبرر له، كما هو الحال في معظم القوانين الوضعية، حتى يتاح فرصة للتفكير في الطلاق وللصلح بين الزوجين قبل الطلاق، وحتى يمنع الزوج من ظلم زوجته عند طلاقه إياها دون مبرر.
ومسلك الشريعة في جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد القاضي- في الأصل- أولى بالعمل به لصالح المرأة ولصالح الرجل والأسرة. ذلك أن مفتاح بقاء الحياة الزوجية يجب أن يكون بيد الرجل في الأصل باعتبار أنه هو الذي أنشأ الأسرة وهو القيّم الأول عنها والمكلف بالإنفاق عليها، فإذا طلّق فلا يستساغ أن تفرض عليه زوجة لا يقبل التعاون معها، وبالتالي لا يتحقق في الأسرة السكن والمودة والرحمة إذا أجبر القاضي الزوج الكاره على أن يستمر في الحياة الزوجية، ولهذا عدلت الشريعة بينهما([87]).
وتكليف الزوج بأن يلجأ للقاضي للحكم له بالطلاق إذا كان هناك مبرر له، أمر ليس في صالح المرأة؛ لما فيه من كشف لعيوب الزوجة بإثبات سوء سلوكها، ولهذا وغيره لم تجعل الشريعة الإسلامية الطلاق بيد القاضي، وإنما جعلته بيد الرجل في الأصل، وألزمته بكافة أعباء الطلاق سواء كان مخطئا في طلاقه، أم كان خطأ زوجته هو الذي أدى إلى الطلاق، وذلك رحمة بالنساء وسترا لعيوبهن، وقد كان العدل أن يباح للرجل أن يلجأ إلى القاضي طالبا إعفاءه من أعباء الطلاق إذا أثبت أن خطأ زوجته هو السبب في الطلاق، كما لو أثبت سوء سلوكها، ولكن الشريعة الإسلامية قدمت الرحمة بالنساء على العدل مع الرجال، والستر في مجال الأسرة والعائلات على الفضيحة أمام القضاء([88]).
وإذا أقدمت الزوجة الكارهة على الطلاق كان عليها أن تأخذ تفويضا من زوجها أو تتفق معه فيه على ذلك، فإذا لم يتم لها ذلك كان لها أن تلجأ إلى القاضي لينوب شرعا عن زوجها في تطليقها، وهنا نلاحظ أن للزوج طلاق زوجته دون أن يسأل عن مبرر للطلاق، بينما لا حق للزوجة أن تطلب الطلاق إلا بمبرر يخضع لتقدير القاضي، وهذه التفرقة بين الرجل والمرأة ليس فيها تفضيل الرجل على المرأة، بل على العكس فيها تفضيل المرأة على الرجل، ذلك أن عدم مساءلة الرجل عن مبرر الطلاق يعني ستر عيوب الزوجة، بينما سؤال المرأة عن مبرر الطلاق يكشف عيوب الزوج. والشرع لا يبغي كشف عيوب الرجل، إذ حسب الرجل إذا أراد أن يستر عيبه أن يطلق زوجته بإرادته المنفردة إذا طلبت الزوجة الطلاق، وعندئذ لن تلجأ الزوجة إلى القضاء لطلب الطلاق، أو لن يتصدى القضاء للبحث عن مبرر الطلاق إذا كانت الزوجة قد لجأت إليه قبل طلاقها.([89]) من أجل هذا ترفض الشريعة فكرة الطلاق بيد القاضي([90]). فالطلاق حق فردي لا يتوقف على التراضي ولا على القضاء([91]).
وخلاصة القول: أنه لا جدال في أن الإسلام جعل الطلاق بأصل الشرع إلى الرجل يوقعه حين يوقعه دون حاجة إلى قضاء، ولذا لم يسند الطلاق في القرآن إلا إلى الرجال، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة من كل قيد وشرط حتى تعتبر في يد الرجل سلاح استبداد قد يستعمله في غير موضعه، بل لذلك حالات وأوقات تجردها سلطة الرجل من التعسف وتحميها من العبث فلا يستعمل الطلاق إلا في موضعه.
ثانيا: الجانب القانوني
نص المشرع الجزائري في المادة 48 على صور حلّ عقد الزواج، ومنها الطلاق الذي يتم بإرادة الزوج المنفردة، حيث يختص الزوج بإيقاع الطلاق ولا يحق للقاضي أن يطلق امرأة وهي في عصمة رجل إلا إذا طلب الزوج ذلك صراحة؛ إلا أنه ليس للزوج مطلق الحرية في استعمال هذا الحق، بل يخضع هذا لإشراف القضاء وتحت مراقبة القاضي؛ مما يخوّل لهذا الأخير سلطة التأكد من توافر الشروط الواجب توافرها في المطلق وصحة القصد في الطلاق بكل وعي وإدراك وإرادة واختيار بعيدا عن التعسف أو سوء استعمال حق الطلاق، وذلك استنادا إلى أسباب شرعية وقانونية.
ومنه فإن إيقاع الطلاق خارج الدوائر القضائية لا يكون معتدا به ولا يحتج به في مواجهة الغير، ولا يرتب آثارا قانونية، وذلك من خلال نص المادة 49 من قانون الأسرة في فقرتها على أنه :"لا يثبت الطلاق إلا بحكم"([92]).
ويظهر أثر هذا النص من جهة إثبات الضرر واستحقاق التعويض للمطلقة فحسب، أما وقوع الطلاق فتترتب عليه آثاره الشرعية من وقت التلفظ به من قبل الزوج، فلا يقبل أي تعديل أو مراجعة عند وقوعه اعتمادا على ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية.
وهذا ما أقره المشرع الجزائري بعد صدور الحكم بالطلاق، إلا أنه فسح المجال أمام الطرف المتضرر من الحكم بالطعن في جوانبه المادية، وهذا ما نصت عليه المادة 57 من قانون الأسرة([93]):" تكون الأحكام الصادرة في دعاوى الطلاق والتطليق والخلع غير قابلة للاستئناف فيما عدا جوانبها المادية"([94]). وهو ما أكده القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 20/03/1991:"من المقرر قانونا أن الأحكام بالطلاق غير قابلة للاستئناف، ما عدا جوانبها المادية، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون.
ولما كان من الثابت – في قضية الحال – أن قضاة المجلس عدّلوا الحكم المستأنف لديهم القاضي بالطلاق للخلع إلى الطلاق بتظليم الزوج يكونوا قد تطرقوا إلى موضوع الطلاق الذي لا يجوز لهم مناقشته إلا في جوانبه المادية مخالفين بذلك القانون. ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"([95]).
كما أن المشرع الجزائري لم يورد أي نص يتعلق بشروط المطلق مما يوجب الرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية طبقا لما نصت عليه المادة 222 من قانون الأسرة، إلا أنه وبالرجوع إلى نص الفقرة الأخيرة من المادة السابعة فإن المشرع الجزائري قد منح الزوجين اللذين لم يبلغا سنّ الرشد المدني (القاصرين) صلاحية وأهلية التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من نفقة وإثبات النسب والحضانة وطلب الطلاق والخلع وغير ذلك([96]).
الفرع الرابع: شروط المطلق
المطلِّق: هو الذي يملك إيقاع الطلاق ويوقعه فعلا وهو الزوج. لقوله تعالى:]وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ[([97]) ويقول تعالى:]فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ[([98]) ولقوله r:"الطلاق لمن أخذ بالساق"([99]) أي الزوج.
وإذا كان الطلاق بيد الزوج، فلا يمكن إيقاعه على وجه تترتب عليه آثاره، إلا إذا توافرت فيه جملة شروط وهي بإيجازكالآتي:
الشرط الأول: البلوغ والعقل، بأن يكون المطلق بالغا عاقلا، فلا يقع طلاق الصبي وإن كان عاقلا، ولا يصح الطلاق من غير مكلَّف كصبي([100]). وقال الحنابلة: يصح الطلاق من زوج عاقل ولو مميِّزا يعقل الطلاق ولو كان دون عشر سنين لعموم قوله r:" الطلاق لمن أخذ بالساق"([101])، ومعنى كون الصبيّ المميز يعقل الطلاق هو أن يعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه إذا طلقها([102]).
وتعليل عدم صحة طلاق الصبي المميز عند الجمهور: أن كليات الشريعة لا تجيز التصرفات إلا ممن له أهلية التصرّف، وأدناها العقل والبلوغ خصوصا ما هو دائر بين الضرر والنفع.
كما يشترط في الزوج المطلق أن يكون عاقلا فلا يقع طلاق المجنون لقوله r:" رُفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق"([103]) قال ابن قدامة:" أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سُكر([104]) أو ما في معناه لا يقع طلاقه"([105])، ويُلحق بالمجنون النائم والمعتوه والمغمى عليه والمدهوش([106]).
الشرط الثاني: أن يكون المطلق مختارا غير مكره
ذهب الجمهور إلى أن طلاق المكره لا يقع، وهذا مذهب المالكية([107])والشافعية([108])والحنابلة([109]) والظاهرية([110])، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وغيرهم من الصحابة والتابعين، وذهب الحنفية([111]) إلى أنه يقع طلاق المكره، ووافقهم الشعبي والنخعي والزهري والثوري. حيث قالوا بأن العلّة في وقوع طلاق المكره هي حاجته إلى التخلص مما تُوُعِّد به من القتل أو الجرح أو الأذى الذي لا يطيقه، فالمكره عرف الشرّين والضررين: ضرر إيقاع الطلاق، والضرر المهدد به فاختار أهونهما وهو إيقاعه للطلاق فهو مختارا اختيارا كاملا([112]).
قال الجمهور([113]): الإكراه لا يكون مع الاختيار لإفساده إيَّاه، والتصّرف الشرعي إنما يعتبر شرعا بالاختيار، فإن فات الاختيار لم يكن للتصرف اعتبار، وطلاق المكره في الحقيقة قول أكره عليه بغير حق فلا يجوز أن يثبت له حكم. وكيف يصح إيقاع طلاق المكره مع العلم يقينا أنه لا يريد الطلاق ولا يقصده ولا حاجة له فيه؛ لقوله r:" إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"([114])، وقوله r:"لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"([115]). قال ابن تيمية:"الإغلاق انسداد باب العلم والقصد عليه، فيدخل فيه طلاق المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول؛ لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم والقصد، والطلاق إنما يقع من قاصد له عالم به"([116]).
ويتحقق الإكراه بأن يكون المكرِه قاهرا للمكرَه ولا يقدر على دفعه، وأن يغلب على ظن المكرَه أن ما يخافه من المكِره واقع به. وأن يكون ما يهدده به المكِره مما يلحق به ضررا، مثل: القتل والقطع والضرب المبرّح والحبس الطويل ونحوه([117]).
الشرط الثالث: أن يكون المطلق قاصدا الطلاق
وهو كونه ناويا إيقاع الطلاق مريدا له عازما عليه([118]). فالطلاق إنما يكون بلفظ ونية أو بلفظ فقط، وأما الطلاق بالنيّة المجردة، بأن نوى الزوج في قلبه تطليق زوجته أو طلقها في نفسه دون أن يتلفظ بلفظ الطلاق فإن طلاقه لا يقع([119])، وهذا قول عامة الفقهاء خلافا للزهري وابن سيرين. قال الزهري: إذا عزم على الطلاق طلّقت زوجته، وقال ابن سيرين وقد سئل عمّن طلق في نفسه: أليس قد علمه الله ؟ قال السائل: بلى. قال ابن سيرين: فلا أقول فيها شيئا([120]).
وقد ردّ جمهور الفقهاء ذلك بصريح قوله r:"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم "([121]). ومنه فلا بد في الطلاق من لفظ وقصد يدلاّن عليه، فإذا افترق اللفظ عن القصد فلا يقع به طلاق، وكذلك لا يقع الطلاق بمجرد النية، وهذا الرأي أقرب إلى المصلحة وروح التشريع.
ومما سبق تتفرع مسألة وقوع الطلاق من القاصر الذي قد لا يعقل معنى الطلاق، ولا يدرك مخاطره، فهل يقع طلاقه؟ أم يجوز أن يطلق عليه وليه؟ وفيما يأتي بيان ذلك بإيجاز:
طلاق القاصر
الأصل في الطلاق أن يكون بيد الزوج لقوله r:"إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"([122])، ويتحقق ذلك بأن يطلق الزوج بنفسه أو بمن ينوب عنه بالنيابة العامة أو الخاصة([123]).
وللفقهاء كلام في التوكيل بالطلاق([124])وتفويض الزوجة([125]).
فليس للولي مطلقا أن يطلق على من في ولايته صغيرا أو مجنونا([126])، وإن كان له أن يزوجه، وهذا هو مذهب الحنفية([127]) والشافعية([128]) -ورواية- في مذهب أحمد([129])، وأجاز المالكية لولي الصغير والمجنون ذلك إذا كان التطليق بعوض أو فيه مصلحة للصغير أو المجنون([130]). وذهب الإمام أحمد -في قول ثان- إلى أنه يجوز للولي تطليق زوجة ابنه الصغير أو المجنون، لأن ابن عمر طلق على ابن له معتوه.([131])
وقد ذهب المشرع الجزائري إلى جواز سماع دعوى الزوجية للزوج الذي لم يبلغ السن القانونية وقت رفع الدعوى، فلا يتصور أن يقوم القاضي مقام الصبي في الطلاق إن طلبت الزوجة التطليق، طبقا للفقرة الأخيرة من المادة السابعة من قانون الأسرة:"يكتسب الزوج القاصر أهلية التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات"([132])، وأما بالنسبة للمجنون فإن القاضي ينوب عنه إذا ما طلبت زوجته التطليق.
الفرع الخامس: شروط المطلّقة
المطلقة هي: الزوجة التي يقع عليها الطلاق في عقد النكاح الصحيح، ويشترط لوقوع الطلاق عليها:
- قيام الزوجية وقت الطلاق: فيقع عليها الطلاق حال قيام الزوجية الصحيحة قبل الدخول أو بعده، ولا يقع على امرأة غير متزوجة.
- صحة الزواج بالعقد: فلا يقع على امرأة متزوجة زواجا غير صحيح.
- ألا تكون مطلقة قبل الدخول: فلا يقع الطلاق على من تزوجت زواجا صحيحا ثم طلقت قبل الدخول ولا يلحقها طلاق آخر، لأنها لم تكن من ذوات العدد.
- ألا تكون منتهية العدة، أو مطلقة ثلاثا.
وأما المعتدة فقد قالوا: إذا كانت معتدة من طلاق رجعي أو بائن بينونة صغرى فإنها تكون محلا للطلاق لبقاء الزواج حكما، وإذا كانت معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى لا تكون محلا له، لأن الزوج لا يملك عليها بعد الطلقات الثلاث شيئا([133]). وإذا كانت معتدة من فسخ بسبب طارئ لا ينقض العقد بل يمنع استمراره كانت محلا للطلاق وذلك في حالتين: التفريق بسبب ردّة أحد الزوجين، أو بسبب إباء المرأة المشركة الإسلام، وإذا كانت معتدة من فسخ هو نقض للعقد من أصله لا تكون محلا للطلاق، وذلك فيما عدا الفسخ لتبين فساد العقد، أو خيار البلوغ([134]). ومن هنا تبين أن الطلاق لا يلحق الفسخ إلا في صورتين: الفرقة بسبب ردة أحد الزوجين أو بإباء المرأة المشركة الإسلام، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء، وأن الطلاق يلحق الطلاق إلا في حالتين: الطلاق قبل الدخول والطلاق البائن بينونة كبرى([135]).
وتفصيل ذلك كما يلي:
أولا: الطلاق في العدة من طلاق رجعي
الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل، فلزوجها أن يردها إذا شاء بإرادته دون توقف على رضاها مادامت في العدة فيزول كل أثر للطلاق سوى فقدان الزوج طلقة من طلقاته الثلاث التي يملك إيقاعها على زوجته.ومنه فهل يجوز للزوج أن يوقع عليها طلقة أخرى ما دامت في العدة؟
ذهب جمهور الفقهاء([136]) إلى أن المعتدة من طلاق رجعي يقع عليها الطلاق مادامت في العدة؛ لأنها تعتبر بحكم الزوجة ولأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل، قال ابن قدامة:" الزوجة الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه بالإجماع"([137]).
ثانيا: الطلاق في العدة من طلاق بائن بينونة صغرى
لا يقع الطلاق في هذه العدة، وهذا قول الجمهور، قال الشافعي: لا يلحقها الطلاق؛ لأن الطلاق تصرف في الملك بالإزالة، والملك قد زال بالخلع والإبانة وإزالة الزائل محال([138]). وقال ابن قدامة:"المختلعة لا يلحقها طلاق بحال"([139]).وقال الحنفية: يقع الطلاق في العدة من طلاق بائن بينونة صغرى؛ لأنها بالخلع والإبانة لم تخرج من أن تكون محلاً للطلاق([140]).
أما الطلاق في عدة البينونة الكبرى فلا تكون المرأة محلا لإيقاع الطلاق عليها لزوال الملك والحل للزوج، ومن ثم لا يقع عليها طلاقه.
[2]- تطرق المشرع الجزائري إلى فسخ الزواج في المادتين 33 و34 من قانون الأسرة، وكان الأجدر أن يجعل الفسخ صورة من صور انحلال الرابطة الزوجية لقيام العقد في بعض الحالات صحيحا ثم يطرأ عليه عارض يمنع بقاءه بعد أن نشأ صحيحا كردة أحد الزوجين. ولعل عدم ذكره في المادة 47 كونه قد خصه بالزواج غير الصحيح في المادتين 33 و34.
[3]- انظر، محمود بلال مهران: أحكام الأسرة في الفقه الإسلامي، 2/11. محمد سلام مدكور: الوجيز لأحكام الأسرة في الإسلام، ص 208.
[6]- انظر، عبد الحميد الشواربي: فسخ العقد في ضوء القضاء والفقه، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، ط3، 1997، ص114.
[9]- انظر، أبو زهرة الأحوال الشخصية، ص277-278. وعبد الرحمن الصابوني: مدى حرية الزوجين في الطلاق في الشريعة الإسلامية، دار الفكر، بيروت، ط2، 1968، ص75. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/348.
[13]- جاء في بداية المجتهد:"إن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب للتفرق، فإن كان غير راجع إلى الزوجين مما لو أرادا الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح في العدة، وإن كان يجوز لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا". ابن رشد: بداية المجتهد، 2/71.
[17]- قال أبو يوسف وزفر والحسن بن زياد-من فقهاء الحنفية-: هي فرقة بغير طلاق وأنها توجب حرمة مؤبدة. الكاساني:بدائع الصنائع،3/245.
[20]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"الطلاق حل عقد الزواج ويتم بإرادة الزوج أو بتراضي الزوجين أو بطلب من الزوجة في حدود ما ورد في المادتين 53 و54 من هذا القانون".
[21]- انظر، باديس ذيابي: صور فك الرابطة الزوجية على ضوء القانون والقضاء في الجزائر، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، 2007، ص 7-8.
[23]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي دون أن تتجاوز هذه المدة ثلاثة أشهر".
[25]- والواقع فإن ترتب أحكام الطلاق من عدة وغيرها يكون من يوم الوقوع لا من يوم الإجازة (بمعنى بعد صدور الحكم القضائي)، بخلاف طلاق الفضولي إذا أجازه الزوج فإن أحكام الطلاق تعتبر من يوم الإجازة، والفرق بينهما أن الموقع والمجيز هنا واحد، وأما في الفضولي فالموقع له غير المجيز. الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/370. ومنه فإن صدور الحكم القضائي بالطلاق عن طريق إرادة الزوج المنفردة لا ينشئ حكما بذلك، بل يثبته فحسب متى صدر الطلاق من قبل الزوج.
[28]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها، وإذا كانت حاضنة ولم يكن لها ولي يقبل أيواءها، يضمن حقها في السكن مع محضونيها حسب وسع الزوج، ويستثنى من القرار بالسكن مسكن الزوجية إذا كان وحيدا. تفقد المطلقة حقها في السكن في حالة زواجها أو ثبوت انحرافها".
[29]- غير أن الواقع في المحاكم الجزائرية على غرار ما هو حاصل في باقي محاكم الدول العربية والإسلامية، فإن غالبية الأحكام الصادرة في الطلاق يتحمل الزوج تبعاتها ومسؤولياتها، بمجرد إيقاع الطلاق بالإرادة المنفرد للزوج، وقد ذهب المشرع الجزائري إلى أبعد من ذلك في حالة التطليق استنادا لطلب الزوجة، فإنه يجوز الحكم لهذه الأخيرة بالتعويض طبقا للمادة 53 مكرر، غير أنه في حالة نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالتعويض للطرف المتضرر.
[41]- أما قانون الأسرة الجزائري فكان متذبذبا بين التطرق للتعريف وغض النظر عنه، ففي الوقت الذي ألف ترك التعاريف القانونية للفقه للخوض فيها، لم يجسد ذلك في المادة 48 من القانون رقم 84-11 إذ نص صراحة على أن:"الطلاق حل عقد الزواج..."، ثم بين بعدها الصور التي يكون عليها الطلاق من إرادة منفردة أو بتراضي الزوجين أو بطلب من الزوجة في حدود ما أوردته المادتان 53 و 54 من نفس القانون، غير أن التعديل الجديد بموجب الأمر 05-02 لم يتطرق إلى تعريف قانوني للطلاق، واكتفى من خلال المادة 48 بذكر بعض حالات انحلال الرابطة الزوجية.
[46]- انظر، أبو زهرة: الأحوال الشخصية،ص 280. عبد الكريم زيدان:المفصل،7/347. بدران أبو العينين بدران: الفقه المقارن للأحوال الشخصية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1967، 1/304.
[49]- انظر، ابن عابدين:رد المحتار، 3/227. الدسوقي:حاشية الدسوقي،2/361. الرملي: نهاية المحتاج، 6/423. ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/224.
[61]- ابن عابدين: رد المحتار، 3/228. ورحج هذا الرأي الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم، 7/355.
[65]- مسلم:كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعث سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا، صحيح مسلم،2/ 1292.
[66]- أبو داود:كتاب الطلاق، باب الخلع،حديث رقم 2226، سنن أبي داود،2/463.ابن ماجه:كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة، حديث رقم 2055. سنن أبن ماجه، 2/518. البيهقي:كتاب الخلع والطلاق، باب مايكره للمرأة من مسألتها طلاق زوجها،حديث رقم 14860. السنن الكبرى، 7/517.
[72]- عبد الواحد بن إسماعيل الروياني: بحر المذهب في فروع مذهب الإمام الشافعي، تحقيق أحمد عز وعناية الدمشقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2002، 10/7-8.
[73]- الطلاق الذي هو بيد الرجل ليس مطلقا بغير قيد، بل هو مقيد في عدده ومقيد في زمانه ومقيد في حكم وقوعه، وكل هذه القيود تحمي المرأة من تعسف الرجل أو ظلمه، فإذا خرج الرجل عن حدوده وأساء استعمال حقه، ترد إساءته ويردع على جوره بما يتفق والحكمة التي دعت إلى تشريعه، وبما فيه من منع الإضرار بالمرأة زوجة أو مطلقة. انظر، محمد كمال الدين إمام:أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين، منشأة المعارف، الإسكندرية،2001،ص 17-18.
[75]- لقد جعل الله تعالى من الطلاق مغنما للرجل وربطه بالمهر والنفقة اللذين جعلهما الله مغرما عليه، وفي المقابل فقد جعل الله من المهر والنفقة مغنما للزوجة وربطهما بالطلاق الذي جعله مغرما عليها. محمد سعيد رمضان البوطي:المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني، دار الفكر، دمشق، بيروت، 2002،ص 136.
[77]- القوامة على الأسرة في نظام الإسلام وشرعه، قوامة رعاية وإدارة، وليست قوامة هيمنة وتسلط، ثم إنها ليست عنوانا على أفضلية ذاتية عند الله تعالى، وإنما ينبغي أن تكون عنوانا على كفاءة يتمتع بها القائم بأعباء هذه المسؤولية...وإن فهم الأفضلية الذاتية للرجال على النساء مما يتناقض بشكل حاد مع صريح كتاب الله في نصوص كثيرة..فالأفضلية إنما هي أفضلية التناسب المصلحي مع الوظيفة التي يجب النهوض بأعبائها. انظر، محمد سعيد رمضان البوطي: المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني، ص 100-101.
[81]- البيهقي: كتاب الطلاق،باب الاستثناء في الطلاق والعتق والنذور، حديث رقم 15116. السنن الكبرى، 7/590-591.ابن ماجه:كتاب الطلاق، باب طلاق العبد، حديث رقم 2081.سنن ابن ماجه، 2/532.الدراقطني: كتاب الطلاق وغيره،حديث رقم3991. سنن الدارقطني، 5/67.
[85]- انظر، أبو زهرة: الأحوال الشخصية، ص 282. عبد العزيز رمضان سمك: أحكام الأسرة في الفقه الإسلامي، ص 301.
[87]- انظر، أبو زهرة: المرجع نفسه، ص 285. محمد كمال الدين إمام: أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين، ص 18 وما بعدها.
[88]- انظر، زكي الدين شعبان: الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، 352-353. أحمد الغندور:الطلاق في الشريعة الإسلامية والقانون، دار المعارف، مصر، ط1، 1967، ص 308-309.
[90]-انظر، رمضان علي السيد الشرنباصي: أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، (دط،دت)، ص 11-12.
[91]- يدعو بعض الناس إلى جعل الطلاق بيد القاضي والحجر على الزوج، فلا يطلق إلا في ساحة القضاء حماية للأسرة من الانهيار وضمان عدم إساءة الرجال استعمال هذا الحق، وهذه دعوى غير صحيحة لأنها تحكم على جميع الرجال بالسفه، وعدم التقدير وسوء التصرف، لأن الله تعالى جعل الطلاق بيد الرجل كحق شخصي له لا يمكن لأحد سواه أن يوقعه إلا بتوكيل منه أو تفويض، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية. ثم ماذا يفعل القاضي إذا كان سبب الطلاق هو عدم التوافق الطبيعي والنفور وعدم توافق الأخلاق بين الزوجين، فهذه الأمور النفسية من العسير على القاضي إثباتها، كما أنه ليس من المصلحة الاجتماعية كشف خبايا البيوت وفضح أمور الأسر ونشر المستور في دار القضاء على رؤوس الأشهاد في محاضر الجلسات، لا شك أن ذلك أمر له خطره، يجب أن تصان الأسرة والمجتمع من شروره وتحفظ من ضرره. انظر، بدران أبو العينين بدران: الفقه المقارن للأحوال الشخصية، 1/308- 309.
[92]- وقوع الطلاق قضاء معناه الاعتداد به أمام القضاء وفيما يجري عليه العمل في الظاهر في دنيا الناس، أما وقوعه ديانة فيقصد به الاعتداد به في العلاقة مع الله تعالى، ولو لم يثبت قضاء، ولم تقم به البينة الظاهرة، فلو أن امرأة مثلا على يقين من أن زوجها قد أبتّ طلاقها ثلاث مرات فإنها ديانة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيلزمها مفارقته وعدم تمكينه من نفسها ولو لم تسطع أن تثبت ذلك أمام القضاء، ولو جحد ذلك وأقام البينة الكاذبة على خلافه.
[93]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"الأحكام بالطلاق غير قابلة للاستئناف ما عدا في جوانبها المادية".
[94]- وما يمكن ملاحظته حول المادة 57 من قانون الأسرة أنها لم تلغ الطرق الأخرى للطعن، ولو أراد المشرع غير ذلك لجاءت صيغة المادة كالآتي:"الأحكام بالطلاق غير قابلة للاستئناف بجميع طرق الطعن".
[103]- أبوداود: كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق، حديث رقم 4398. 4/363. ابن ماجه:كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، حديث رقم 2041. 2/512. النسائي: كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، حديث رقم 5596. 5/265.
[104]- طلاق السكران: السكران الزائل العقل هل يقع طلاقه ؟ جمهور الفقهاء يفرقون بين سكر بطريق محظور، وبين سكران بطريق غير محظور. فمن سَكر بطريق غير محظور كالذي يشرب شراباً فيسكره، أو تناول دواء فغيّب عقله، أو تناول مسكرا ولم يعلم أنه مسكر فأسكره ففي هذه الحالات إذا طلق لم يقع طلاقه بلا خلاف. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.الحطاب: مواهب الجليل،4/43. الشربيني: مغني المحتاج، 3/383-384. الكاساني:3/99. وقال الظاهرية: طلاق السكران لا يلزم سواء بطريق محظور أو غير محظور. وهذا القول اختاره ابن تيمية وابن القيم وهو رواية عن أحمد وبعض التابعين. وقالوا: معاقبة من سكر بطريق غير مشروع عقوبة غير العقوبة المقدّرة لجريمة السكر وأذى بالمرأة. انظر، ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 14/71 وما بعدها.
[106]- أما طلاق السفيه: فمعتبر لأن السَّفه لا يؤثر في العقل من جهة إدراكه الأمور، فليس في عقله خلل يلحقه بالمجنون. والسَّفَه: خِفَّة تبعث الإنسان على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل.انظر، الشربيني: مغني المحتاج، 3/368.
[113]- ابن رشد: بداية المجتهد،2/81-82. الروياني: بحر المذهب في فروع مذهب الإمام الشافعي،10/119-120. ابن قدامة:المغني، 10/351. ابن حزم: المحلى، 10/202-203.
[118]- ومنه فلا يقع طلاق المخطئ:كأن يريد أن ينادي زوجته باسمها فيسبق لسانه إلى النطق بكلمة طالق مخاطبا إياها بهذا اللفظ، أو يتكلم بما يدل على الطلاق وهو لا يقصد بما نطق به ولكن لسانه سبق إلى ما نطق به.قال الجمهور:لا يقع طلاق المخطئ إن ثبت سبق لسانه وإن لم يثبت قُبل في الفتوى دون القضاء.وقال الحنفية: يقع طلاق المخطئ بالتلفظ بلفظ الطلاق ولا يقبل منه أنه أخطأ لأنه أمر باطني وقد يتخذ وسيلة إلى إحلال ما حرّم الله وهذا في القضاء أما في الفتوى والديانة فإن الطلاق لا يقع إذا علم من نفسه أنه أخطأ ولم يقصد الطلاق.وقال الجمهور: إن الشرع منع الهزل في الطلاق واعتبره كالجِدّ فيه حماية للفروج، أما المخطئ فمعذور ولم يختر التلفظ. انظر، الشربيني: مغني المحتاج، 3/379.
[119]- وعليه فلا يقع طلاق الملقَّن: الذي لُقِّن عبارة الطلاق دون أن يفهمها كالأعجمي، فالطلاق لا يقع لعدم قصده إيقاع الطلاق. وكذا طلاق الحاكي كالفقيه أو للتعليم لا يقع به طلاق. انظر، عبد الكريم زيدان: المفصل، 7/387.
[121]- البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإكراه والكره، حديث رقم 5269. 3/405. مسلم: كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، حديث رقم 127. 1/69.
[123]- هناك ولي خاص وهو الولي على النفس بالنسبة للصغير والمجنون كالأب، وهناك الولاية العامة للقاضي. والفُرق التي تتوقف على القضاء نوعان:فرق الطلاق وفرق الفسخ، وفرق الطلاق التي تتوقف على القضاء عند الحنفية هي الفرقة بسبب اللعان، وقال المالكية في المشهور لا تتوقف ذه الفرقة على القضاء، والفرقة بسبب عيوب الزوج الجنسية، ويفسخ العقد عند الجمهور بسبب هذه العيوب بعد رفع الأمر للحاكم، والفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام في رأي أبي حنيفة ومحمد. انظر، وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته،7/ 354. وزيد في الجزائر عن طريق المادة 53 من قانون الأسرة عدة أسباب تجعل الفرقة متوقفة على القضاء.
[124]- تطليق الوكيل: للزوج أن يوكل من يزوجه وله أن يوكل من يطلق عليه زوجته، فمن صح طلاقه صح توكيله فيه، كما له أن يوكل زوجته بتفويضها طلاق نفسها. وهذا مذهب الأئمة الأربعة. وذهب ابن حزم الظاهري: إلى أنه لا تجوز الوكالة في الطلاق، ولم يأت في طلاق أحد عن أحد بتوكيله إيّاه قرآن ولا سنة فهو باطل. كما لا يجوز أن يظاهر أحد عن أحد أو يلاعن أحد عن أحد. فإذا أرسل الزوج رسولا يبلغ الزوجة طلاقها، فلا يعتبر الرسول وكيلا في الطلاق، فالمرأة يقع عليها الطلاق بعبارة زوجها لا بعبارة الرسول، بينما في الوكالة يقع الطلاق بعبارة الوكيل. انظر، ابن حزم: المحلى،10/196. وقد سكت المشرع الجزائري عن ذكر طلاق الوكيل، إلا أن نص المادة 48 من قانون الأسرة الجزائري، حددت وقوع الطلاق من الزوج أو الزوجة ولم تذكر أي حالة أخرى مما لا يمكن معه تصور قبول طلاق الوكيل.
[126]- أكثر الرويات عن الإمام أحمد أن الصبي إذا عقل الطلاق وعلم أن زوجته تبين منه وتحرم فإن طلاقه يقع. ابن قدامة: المغني،10/348.
[130]- الدسوقي:حاشية الدسوقي، 2/365. قال القرافي:"الصبي ينعقد نكاحه دون طلاقه، لأن عقد النكاح سبب إباحة الوطء وهو أهل للخطاب بالإباحة والندب والكراهة دون الوجوب والتحريم، لأنها للتكليف، والطلاق سبب التحريم بإسقاط عصمة الزوج، وهو ليس أهلا للتحريم فلم ينعقد سببه في حقه".الذخيرة، 4/206.
-
-
-
المحاضرة الثانية
أحكام الطلاق من خلال المواد 49 إلى 51 من قانون الأسرة
تناول هذا المحور تحليل ومناقشة المواد القانونية المتضمنة في قانون الأسرة الجزائري والمتعلقة بأحكام الطلاق، وذلك من خلال ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، لمعرفة مدى موافقة ما ذهب إليه المشرع الجزائري مع أحكام الشريعة الإسلامية في تقرير هذه الأحكام، و ذلك على النحو الآتي:
أولا: الجانب الفقهي
ينقسم الطلاق إلى عدة تقسيمات نظرا لاعتبارات مختلفة:
فمن حيث صيغة اللفظ ودلالته على معناه، واحتياجه إلى النية من عدمه ينقسم إلى طلاق صريح وطلاق بالكناية([1]). ومن حيث وصفه الشرعي ينقسم إلى طلاق سني وطلاق بدعي([2])، وبالنظر إلى اشتمال صيغته على التعليق على أمر مستقبل أو إضافته إلى زمن مستقبل من عدمه ينقسم إلى طلاق منجز وطلاق معلق وطلاق مضاف([3]).
ومن حيث إنهاء رابطة الزوجية وإمكان الرجعة بعده بدون عقد من عدمه، ينقسم إلى طلاق رجعي وطلاق بائن. وهذا القسم الأخير هو المقصود بالبحث طبقا للمادتين 49 و 50 من قانون الأسرة الجزائري، والمتعلقتين بأحكام هذا القسم من الطلاق الرجعي والبائن.
الفرع الأول: الطلاق الرجعي والبائن
ينقسم الطلاق بالنظر إلى إنهاء رابطة الزوجية وإمكان الرجعة بعد الطلاق من غير عقد جديد وعدم إمكان ذلك إلى طلاق رجعي وطلاق بائن.
أولا: الطلاق الرجعي
هو الذي يملك الرجل فيه أن يعيد مطلقته إلى الزوجية أثناء عدتها بدون عقد جديد رضيت بذلك المرأة أم كرهت. وذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة انقلب الطلاق الرجعي إلى بائن، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد.
والطلاق الرجعي هو الأصل؛ لقوله تعالى:]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[([4]).
حكم الطلاق الرجعي وحكمته
أ- حكمه: الطلاق الرجعي هو الذي يوقعه الزوج على زوجته التي دخل بها حقيقة، إيقاعا مجردا عن أن يكون في مقابلة مال، ولم يكن مسبوقا بطلقة أصلا، أو كان مسبوقا بطلقة واحدة-كما سبق بيانه-
وحكمه أنه سواء أكان أول الطلقات أم ثانيها، فإنه لا يغير شيئا من أحكام الزوجية، ما دامت الزوجة في العدة، إلا أنه ينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته، بمعنى أنه متى وقعت طلقة رجعية فإن كانت الأولى لم يبق للزوج إلا طلقتان، وإن كانت الثانية لم يبق له إلا واحدة، وعلى ذلك لا يزيل الملك ولا يرفع الحل([5])، ويترتب على عدم زوال الملك أنّ له أن يعاشرها معاشرة الأزواج بدون عقد ومهر جديدين، ويكون بذلك مراجعا لها ما دامت في العدة.
وإذا مات أحدهما في أثناء العدة ورثه الآخر، كذلك لا يحل بالطلاق الرجعي المهر المؤجل لأقرب الأجلين بالطلاق أو الوفاة لأن هذا الطلاق لا ينهي الزواج بمجرد صدوره بل ينهيه بعد انتهاء العدة من غير مراجعة، وإذا مضت العدة من غير مراجعة كان الرجعي بائنا من كل الوجوه([6]).
ب- حكمته: الحكمة من مشروعية الطلاق الرجعي هي إعطاء الزوج المطلق فرصة لتدارك ما قد عسى أن يكون قد وقع فيه من خطأ وسوء تقدير في تطليق زوجته، وذلك بتمكينه من إرجاعها بإرادته ما دامت في العدة، وفي إرجاعها فرصة للزوجة لتدارك ما قد عسى أن تكون قد وقعت فيه من خطأ ونشوزها، وتقوم بحق الزوج عليها فتدوم الحياة الزوجية بينهما في وئام وعشرة طيبة([7])؛ لأن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما شرع للحاجة والحاجة تندفع بالطلاق الرجعي، وفي هذا يقول الكاساني:"إن الطلاق شرع في الأصل بطريق الحظر للحاجة -على ما بينا- ولا حاجة إلى الطلاق البائن؛ لأن الحاجة تندفع بالطلاق الرجعي، فكان البائن طلاقا من غير حاجة، فلم يكن من السنة، ولأن فيه احتمال الوقوع في الحرام لاحتمال الندم ولا يمكنه المراجعة"([8]).
ج- الأحكام المترتبة على الطلاق الرجعي: يترتب على الطلاق الرجعي الأحكام الآتية:
أ- نقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته، ومعلوم أن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا يرفع الحل.
ب- انقضاء الزوجية بين الزوجين عند عدم مراجعتها أثناء العدة؛ لأن الطلاق الرجعي يصير بائنا بانقضاء العدة، أما قبل انقضائها فإن للزوج الحق في مراجعة زوجته في أي وقت شاء رضيت بذلك المرأة أم كرهت، وبدون عقد جديد.
ج- الطلاق الرجعي لا يمنع التوارث بين الزوجين، فإذا مات أحدهما في العدة فإن الآخر يرثه لأن الزوجية في الطلاق الرجعي تظل قائمة حكما في العدة، ولا توارث بينهما في الطلاق البائن إلا إذا كان فارا من الميراث. كما يلحقها ظهاره ولعانه وإيلاؤه([9]).
د- كما أن الصداق المؤجل لأقرب الأجلين (الموت أو الطلاق) لا يحل بالطلاق الرجعي، وإنما يحل إذا بانت المرأة بانقضاء العدة.
ثانيا: الطلاق البائن، وهو الذي لا يملك الرجل فيه أن يعيد مطلقته إلى الزوجية بعد انقضاء عدتها إلا بمهر وعقد جديدين وبرضا المرأة.
أ- أنواعه: وهو نوعان: بائن بينونة صغرى وبائن بينونة كبرى.
1- الطلاق البائن بينونة صغرى: وهو الذي لا يستطيع فيه الرجل أن يعيد مطلقته إلى الزوجية إلا بعقد ومهر جديدين، سواء في ذلك أن يكون في عدتها أو بعد انتهاء عدتها، ولهذا كانت البينونة صغرى وليست كبرى([10]).
2- الطلاق البائن بينونة كبرى: وهو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد مطلقته إلى الزوجية في العدة كالطلاق الرجعي و لا إعادتها إلى عصمته بعقد ومهر جديدين كالطلاق البائن بينونة صغرى، بل تحرم عليه مطلقته، ولا تنتهي هذه الحرمة إلا بعد أن تنكح زوجا آخر نكاحا صحيحا، ويدخل بها الثاني دخولا حقيقيا، فإذا حدثت فرقة بينهما أو مات عنها زوجها وانقضت عدتها فإنه يجوز أن تعود إلى الأول بعقد ومهر جديدين.
ب- حكم الطلاق البائن بينونة صغرى: إذا كان الطلاق بائنا بينونة صغرى فحكمه أنه يزيل الملك ولا يرفع الحل، ويترتب على زوال الملك أنه لا يحل لأحد الزوجين الاستمتاع بالآخر أو الخلوة به، وتكون منه بمنزلة الأجنبية ولو كانت في العدة، ويحل بالطلاق البائن مؤخر الصداق، ويمتنع التوارث بينهما، فإذا مات أحدهما ولو في العدة لا يرث أحدهما الآخر، سواء كان الطلاق في الصحة أو في المرض، إلا إذا كان المريض مرض الموت قصد بطلاق زوجته حرمانها من الميراث وتوافرت الشروط لاعتبار الزوج فارا من أن ترث منه بطلاقه إياها، فإنه في هذه الحالة يعامل بنقيض مقصوده وترث منه.
ج- الأحكام المترتبة عن الطلاق البائن بينونة صغرى
يترتب على الطلاق البائن بينونة صغرى الأحكام الآتية([11]):
أ- يزيل الملك لا الحل بانقطاع الزوجية بين الزوجين بمجرد وقوعه، ولا يستطيع المطلق إعادة مطلقته إلا برضاها بعقد ومهر جديدين في أثناء العدة وبعدها، كما أنه لا يلحقها ظهار ولا لعان ولا إيلاء ولا توارث بينهما في الطلاق البائن بينونة صغرى، وعلى ذلك فإنه إذا مات أحدهما لم يرثه الآخر ولو كان الموت في العدة، إلا إذا كان الطلاق فرارا من الميراث.
ب- يصبح الصداق المؤجل لأقرب الأجلين واجب الأداء.
ج- إنقاص عدد الطلقات التي يملكها الزوج كالطلاق الرجعي.
د- الأحكام المترتبة على الطلاق البائن بينونة كبرى
يترتب على الطلاق البائن بينونة كبرى([12]) جميع الأحكام المترتبة على الطلاق البائن بينونة صغرى، ويزيد عليها في حالة البينونة الكبرى أنه ينتهي ما يملكه الزوج على زوجته من طلاق، وتحرم عليه المطلقة حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، ويدخل بها الثاني دخولا حقيقيا، ثم تحدث الفرقة بينهما أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه، ثم يتم العقد عليها من جديد وبمهر جديد؛ لقوله تعالى:] فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[([13]).
والعلة في هذا التحريم المؤقت في حالة الطلاق المكمل للثلاث هي أن الشارع يريد أن يعطي الرجل والمرأة درسا واقعيا بعد استنفاذ عدد الطلقات ليضمن عدم تعثر الحياة الزوجية بينهما بعد ذلك، فليس من المصلحة إعادة الحياة الزوجية بينهما بعد الطلاق الثلاث إلا إذا حدث شيء يكون له أثره الفعال فيهما، الأمر الذي يضمن معه نجاح هذه الحياة فيما بعد، وهذا لا يكون إلا إذا تزوجت المطلقة ثلاثا زوجا آخر زواجا شرعيا بنية الدوام لا بنية التحليل([14])، ثم تحدث الفرقة بينهما بالطلاق أو الوفاة وتنتهي عدتها، فيجوز حينئذ أن يتزوجها الأول بعقد ومهر جديدين.
الفرع الثاني: أحكام الرجعة وشروطها
أولا: تعريف الرجعة لغة وشرعا
أ- في اللغة: الرجعة بفتح الراء وكسرها، والفتح أفصح، وهي المرة من الرجوع، وفعلها رجع، ويستعمل تارة لازما، فيتعدى بـ (إلى)، ومنه قوله تعالى:] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا[([15]). وتارة أخرى متعديا بنفسه، ومنه قوله تعالى:]فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ[([16])؛ أي ردّك، كما يقال: رجعه إلى أهله وأرجعه إليهم بمعنى رده إليهم. ويقال:ارتجع إلي الأمر؛ أي رده إلي، وارتجع المرأة وراجعها مراجعة ورجاعا: رجعها إلى نفسه بعد الطلاق، والاسم (الرّجعة) بتشديد الراء مع الفتح والكسر([17]).
ب- في الاصطلاح الشرعي
عرف فقهاء المذاهب الرّجعة بتعاريف تكاد تتفق فيما بينهم على معنى واحد وهو: أن الرجعة إبقاء على عقد الزواج ومنع لزواله، وذلك من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص.
وفيما يلي ذكر هذه التعاريف مفصلة على النحو الآتي:
حيث عرفها الحنفية بأنها:"استدامة الملك القائم من غير عوض يدفعه الزوج لزوجته، وذلك قبل انتهاء العدة"([18]).
كما عرفها المالكية بأنها:"عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد"([19])، فقوله (عود) يفهم منه عود البائن للعصمة بتجديد عقد لا يسمى رجعة بل يسمى مراجعة، لتوقف ذلك على رضا الزوجين، فالمفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين.
وعرفها الشافعية بأنها:"ردّ المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص"([20]).
وأما الحنابلة فقد عرفوها بأنها:"إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد"([21]).
ج- نظرة في التعريفات
نص الأحناف على أن الرجعة هي "استدامة" الملك القائم من غير عوض يدفعه الزوج، وذلك قبل انتهاء العدة، بينما عبر غيرهم عنها بأنها "رد" أو "إعادة"([22]). وتعريف الحنفية أولى؛ لأنه يتفق مع واقع الأمر، فالرجعة إبقاء للزواج السابق على الطلاق الرجعي، وليست إنشاء لعقد جديد ولا إعادة للزواج السابق بعد زواله بالطلاق.
ونص تعريف الحنفية والشافعية على أن تكون الرجعة قبل انتهاء العدة إذ بعدها لا يكون رجعة.
ونص تعريف الشافعية والحنابلة على أن تكون الرجعة من طلاق غير بائن؛ لأنه لا رجعة بعده سواء كانت البينونة صغرى فتعتبر حينئذ مراجعة بعقد ومهر جديدين، أم كانت البينونة كبرى فلا تحل لزوجها إلا بعد أن تتزوج بغيره. بينما سكتت التعاريف الأخرى عن ذلك لمعلوميته.
كما نص تعريف الشافعية على أن تكون بصيغة مخصوصة "كراجعتك و رددتك"، بينما لم تذكره التعاريف الأخرى لتوسعهم فيما تتحقق به فقد تكون قولا أو فعلا([23]).
ثانيا: مشروعية الرجعة
الرجعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول([24]).
أما الكتاب: فقد دلت آيات عديدة على مشروعيتها منها قوله تعالى:] وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا[([25])، ووجه الدلالة أن الله تعالى بين أن الأزواج أحق بمراجعة الزوجات المطلقات رجعيا في العدة، وغير الزوج لا حق له، والبعل هو الزوج، وذلك يدل على بقاء النكاح، إذ لا قدرة لأحد على تملك الأجنبية بغير رضاها([26]).
وأما السنة: فهناك أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الرجعة منها: قوله r:" أتاني جبريل فقال:راجع حفصة-وكان قد طلقها رجعيا- فإنها صوامة قوامة وأنها زوجتك في الجنة"([27])، فدل الحديث بلفظه ومعناه على مشروعية الرجعة.
وأما الإجماع: أجمع العلماء على أنه إذا طلق الزوج زوجته بعد الدخول بها طلاقا رجعيا فهو أحق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة صارت أجنبية عنه فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف([28]). قال ابن قدامة:"وأجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق الحرة دون الثلاث أو العبد إذا طلق دون الاثنتين أن لهما الرجعة في العدة. ذكره ابن المنذر"([29]).
وأما المعقول: فهو أن الحاجة قد تمس إلى الرجعة حين يقع الطلاق ثم يندم المطلّق على فعله ويرغب في إعادة زوجته إليه، فكانت الرجعة فتحا لباب التدارك وتكميلا للمصلحة بإبطال عمل الطلاق، فلو لم تثبت الرجعة بعد ندم الرجل عليها ولم يمكنه التدارك حينها لا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا([30]).
ثالثا: شروط صحة الرجعة
حتى تكون الرجعة صحيحة لا بد من توافر شروط أهمها([31]):
الشرط الأول: أن تكون الرجعة قبل انقضاء العدة الشرعية - بأن يكون الطلاق رجعيا- فإذا انقضت العدة صار الطلاق الرجعي بائنا، وبالتالي لا يكون للمطلق حق في عودتها بطريق الرجعة، بل لا بد لإعادة زوجيتهما من عقد ومهر جديدين في حالة البينونة الصغرى، وأما البينونة الكبرى فلا تحل مراجعتها حتى تنكح زوجا غيره.
والأصل في كون الرجعة في أثناء العدة قوله تعالى:]وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا[([32])، وفي ذلك: أي في مدة التربص، وهي العدة، وقوله تعالى:] فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [([33])، فلو كان حق الرجعة باقيا بعد العدة لما كان يباح للمطلقة النكاح، والرجعة في أول العدة أفضل من آخرها.
قال أبو زهرة:" وإذا انتهت العدة لم يعد للمطلق سلطان وزال حق الرجعة وانقطعت حقوق الزوجية انقطاعا تاما، فإذا أراد أن يستأنف معها حياة زوجية جديدة فلا بد من عقد ومهر جديدين ما دام الحل ثابتا أي لم تكمل الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على زوجته"([34]).
الشرط الثاني: أن تكون منجزة؛ لأنها استدامة للملك، وكل تصرف يفيد الامتلاك لا يقع إلا منجزا، فإذا كانت الرجعة مضافة إلى زمن مستقبل أو معلقة على شرط فلا تصح؛ لأن الرجعة وإن لم تكن إنشاء زواج جديد فهي شبيهة بالزواج من حيث أنها إنشاء لما يفيد دوام الزواج واستمراره([35]).
ولا يشترط لصحة الرجعة إعلام الزوجة بها أو رضاها؛ لأن الرجعة ليست إنشاء زواج جديد بل هي استدامة ملك الزواج الأول، غايته أنه يستحب للزوج أن يحيطها علما بأنه راجعها حتى لا تتزوج غيره بعد انقضاء العدة ظنا منها أنها بانت بانقضائها([36]). كما لا يشترط لصحتها الطواعية والجد والقصد، فتصح الرجعة من المكره والهازل والمخطئ؛ لقوله r:"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة"([37]).
الشرط الثالث: وهو متعلق بالطلاق:
- بأن يكون واقعا فعلا متيقنا منه، فلو شك في طلاق امرأته لم تلزمه رجعتها؛ لأن الطلاق بالشك ملغى، فيسقط حكمه في التحريم مسقط حكمه في الرجعة.
- وأن يكون الطلاق بغير عوض، فإن كان بعوض كان خلعا، والخلع لا رجعة فيه، قال ابن قدامة:" أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق الحرة بعد دخوله بها أقل من ثلاث بغير عوض ولا أمر يقتضي بينونتها فله عليها الرجعة ما كانت في عدتها"([38]).
- وأن يكون الطلاق بعد الدخول، فإن كان قبله فلا رجعة؛ لأنه لا عدة على غير المدخول بها ولا تربص في حقها يرتجعها فيه، والرجعة تملك في العدة.
- وأن يكون الطلاق في نكاح صحيح؛ لأن الطلاق رفع للنكاح فإذا لم يصح النكاح لم يصح الطلاق لأنه فرعه، فإذا كان النكاح فاسدا لم تثبت فيه الرجعة؛ لأن الرجعة يراد بها استدامة النكاح القائم ومنع زواله، والنكاح الفاسد واجب الإزالة بحكم الشرع فلا تجوز فيه الرجعة حتى ولو حصل فيه دخول ووجبت على المرأة العدة وبهذا صرح الفقهاء.
قال الدردير:"يصح ارتجاع من فيه أهلية النكاح طالقا غير بائن في عدة نكاح صحيح"([39])، وقال الدسوقي تعليقا على هذا القول:"وخرج بالنكاح الصحيح الفاسد فإذا فسخ هذا النكاح- أي الفاسد- بطلاق أو بغيره فليس للزوج رجعتها في عدة ذلك النكاح"([40]).
وجاء في كشاف القناع:"أن يكون النكاح صحيحا لأن من نكاحها فاسد تبين بالطلاق فلا تمكن رجعتها، ولأن الرجعة إعادة إلى النكاح فإذا لم تحل بالنكاح لعدم صحته وجب أن لا تحل الرجعة إليه"([41]).
ثانيا: الجانب القانوني
انطلاقا من أن الطلاق بيد الرجل يوقعه إذا دعت الحاجة إلى ذلك متى توافرت أسبابه وشروطه الشرعية، وأن إيقاعه يثبت بمجرد التلفظ به إذا كان المطلق قاصدا غير مكره-كما سبق بيانه- وتترتب عليه آثاره الشرعية، و التي تتمثل في بدء حساب العدة الشرعية وغيرها من الآثار.
والعدة في الاصطلاح الشرعي:" هي الأجل الذي أوجبه الشارع على الزوجة التي فارقها زوجها لانقضاء ما بقي من آثار الزواج بعد الفراق"([42]). أو هي تربص يلزم المرأة عند زوال النكاح، فلا تستطيع أن تتزوج قبل انقضاء عدتها. وإذا تزوجت قبل نهاية مدة العدة فإنها تكون قد خالفت الشريعة وخالفت المادة 30 من قانون الأسرة([43]).
فالعدة واجبة شرعا ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في أنواع منها، وهي من النظام العام فلا يجوز مخالفة أحكامها أو إسقاطها أو التنازل عنها.
كما أن المشرع الجزائري قد تناول أحكامها من خلال بيان أنواعها ومدتها وحقوق المطلقة في أثناء العدة([44]) طبقا للمواد 58-59-60-61.
غير أن ما يجب الوقوف عنده في هذا المقام هو أن المشرع الجزائري لم يقيد فترة الصلح والرجعة دون عقد ومهر جديدين أو المراجعة بعقد ومهر جديدين بالعدة الشرعية حسب ما نصت عليه المادة 50 من قانون الأسرة:"من راجع زوجته أثناء محاولة الصلح لا يحتاج إلى عقد جديد ومن راجعها بعد صدور الحكم بالطلاق يحتاج إلى عقد جديد"([45])، إذ قد تطول إجراءات الحكم به طبقا للمادة 49، وقد تنعقد جلسة الصلح بعد نهاية العدة الشرعية، التي يبدأ حسابها من وقت تلفظ الزوج بالطلاق، فإذا نجحت هذه الجلسة وراجع المطلق مطلقته بلا عقد جديد طبقا للمادة 50، فقد حصل تعارض بين القانون وأحكام الشريعة الإسلامية، إذ أن الطلاق صار بائنا بينونة صغرى من الناحية الشرعية، يحتاج المطلق لإرجاع زوجته إلى عقد جديد، بينما لا يحتاج إليه بمقتضى المادة 50 من نفس القانون.
كما قد يؤدي تطبيق المادتين إلى بروز ظاهرة ازدواجية العدة: عدّة شرعية تبدأ من تاريخ تلفظ الزوج بالطلاق، وعدّة قانونية تبدأ من تاريخ صدور الحكم بالطلاق، وهذا يؤدي إلى تعارض بين القانون والشريعة من عدة أوجه، خاصة بعد فوات العدة الشرعية واستمرار العدّة القانونية، ويترتب على هذه التعارض ما يلي:
1- لزوم المطلقة لبيت الزوجية قانونا لا شرعا طبقا للمادة 61 من قانون الأسرة([46]).
2- حلول مؤخر الصداق شرعا لا قانونا.
3- يستحق الحي منهما ميراث المتوفى قانونا لا شرعا لعدم انحلال الرابطة الزوجية قضائيا.
4- يجوز للزوجة المطلقة المنتهية العدّة شرعا أن تتزوج برجل آخر، ولا يجوز لها ذلك قانونا عند قيام العدة القانونية، بل يمكن لمطلقها أن يتابعها جزائيا([47]).
كما يظهر التعارض بين أحكام الشريعة الإسلامية والمادة 50 من قانون الأسرة الجزائري في أثر كل من الطلاق الرجعي والبائن، ذلك أن من طلق زوجته طلاقا رجعيا ثم راجعها قبل انتهاء عدتها، فإنه لا يحتاج إلى عقد ومهر جديدين، وتحسب له طلقة واحدة، فإذا طلقها مرة أخرى ثم راجعها في عدتها، فإنه يحتاج إلى عقد ومهر جديدين، ولا يحتاج إلى ذلك في قانون الأسرة إذا راجعها في فترة الصلح دون تفريق بين الطلاق الرجعي والبائن.
إلا ما جاء به الاجتهاد القضائي في التفرقة بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن في قراره الصادر بتاريخ 10/2/1986:" من المتفق عليه فقها وقضاء في أحكام الشريعة الإسلامية أن الطلاق الذي يقع من الزوج هو طلاق رجعي، وأن حكم القاضي به لا يغير من رجعيته؛ لأنه إنما نزل على طلب الطلاق. أما الطلاق البائن، فهو الذي ما قبل الدخول أو بناء على عوض تدفعه الزوجة لزوجها للتخلص من الرابطة الزوجية معه، وكذلك الطلاق الذي يوقعه القاضي بناء على طلب الزوجة لدفع الضرر عنها وحسم النزاع بينها وبين زوجها.إن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، ولذلك يستوجب نقض القرار الذي اعتبر الطلاق بإرادة الزوج طلاقا بائنا"([48]).
أما ما يتعلق بمحاولة الصلح، فإن الأصل فيه أن يتدخل الحكمان عند عجز الطرفين عن الاتفاق على إزالة أسباب الشقاق ومهمة الحكمين في هذا واجبة، والأفضل أن يكونا من ذوي القرابة؛ لأنهم أدرى ببواطن الأمور وعمل الحكمين هو التردد على الزوجين وتفحص أحوالهما والتعرف على رغباتهما لا بصفة وكيلين عنهما، بل حاكمين عليهما، وحكمهما نافذ تحكيما لا قضاء([49])، لقوله تعالى:]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[([50]).
غير أن المشرع الجزائري قد جعل الصلح وجوبيا على القاضي قبل الحكم بالطلاق طبقا لنص المادة 49 من قانون الأسرة التي اشترطت محاولة المحكمة الإصلاح بين الزوجين([51])، وقد قضت بأن الهدف من إلزام القاضي بالعمل على الإصلاح بين الزوجين قبل قضائه بالتفريق هو محاولة إزالة أسباب الشقاق وعودة الحياة الزوجية إلى ما كانت عليه من نقاء السكينة وحسن المعاشرة، كما أنه يشترط حضور الزوجين بشخصيهما أمام القاضي لعرض الصلح بينهما، ولا يكفي أن يمثل أحدهما بشخصه والآخر بوكيله أو يمثل الطرفين بوكيليهما المفوضين بالصلح عنهما، غير أنه وطبقا للفقرة الأخيرة من المادة 440 من قانون الإجراءات المدنية:" يمكن بناء على طلب الزوجين حضور أحد أفراد العائلة والمشاركة في محاولة الصلح"([52]).
كما أنه إذا عرضت المحكمة الصلح على الطرفين وقبله طرف ورفضه الآخر اعتبر عجزا من المحكمة في الإصلاح بين الزوجين كما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 443 من قانون الإجراءات المدنية أنه:" في حالة عدم الصلح أو تخلف أحد الزوجين بالرغم من مهلة التفكير الممنوحة له يشرع في مناقشة موضوع الدعوى"([53]). وهذا ما أقره الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ 23/10/1997، حيث جاء فيه: إن عدم حضور أحد الطرفين لجلسة الصلح رغم تأجيل إجرائها عدة مرات يجعل القاضي ملزما بالفصل في الدعوى رغم عدم حضور أحدهما([54]).
على أن النص على وجوب محاولة الصلح قبل الحكم بالطلاق يعتبر نصا إجرائيا، أي أنه يتعلق بإجراءات الطلاق، وإذا لم يتم هذا الإجراء قبل النطق بالطلاق فإن الحكم الصادر بالطلاق يكون باطلا، وهذا ما يفهم من نص المادة 49 من قانون الأسرة الجزائري على الرغم من أنها قد جاءت عامة، إلا أن بطلان حكم الطلاق في حالة تخلف إجراء الصلح يفهم من نص المادة 439 من قانون الإجراءات المدنية التي تفيد وجوب الصلح. وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي في قراره الصادر في 18/6/1991 حيث جاء فيه:" ولما كان من الثابت في قضية الحال أن قضاة الموضوع الذين قضوا بالطلاق بين الزوجين دون القيام بإجراء محاولة الصلح بين الطرفين يكونوا قد أخطأوا في تطبيق القانون"([55]). وعلى هذا فإن أغفلت المحكمة ذلك وقضت في الدعوى دون إجراء الصلح بعرضه على الزوجين، فإن حكمها يكون مشوبا بالخطأ في تطبيق القانون وينحدر به إلى درجة الانعدام.
ويجب أن يتضمن محضر الجلسة ما يدل على قيام المحكمة بعرض الصلح على الطرفين فلا يكفي عرض الصلح على الزوجين مشافهة طبقا للفقرة الثانية من المادة 49 من قانون الأسرة.
والملاحظ في كل هذا أن المشرع الجزائري قد أهمل أثر انتهاء العدة الشرعية وصيرورة الطلاق من رجعي إلى بائن. وعليه فما الفائدة من إجراء الصلح إذا تبين للقاضي -عند مساءلة المطلق- أن العدة الشرعية قد انتهت؟ ذلك أن المشرع لم يبين بداية الأشهر الثلاثة للصلح ونهايتها، فهل تبدأ من تاريخ تلفظ الزوج بالطلاق أم من تاريخ رفع الدعوى؟.
وبما أنه لا وجود للطلاق في نظر المشرع الجزائري إلا إذا صدر به حكم قضائي وفقا لنص المادة 49 من قانون الأسرة، فإن الثلاثة أشهر تسري ابتداء من تاريخ تلفظ الزوج بالطلاق شرعا إذا كان قد نطق به قبل عرض النزاع على المحكمة، فإن لم ينطق به حتى تاريخ الحكم فإن العدة تبتدئ من تاريخ الحكم؛ لأنه يمثل تاريخ النطق بالطلاق فعلا.
والصحيح ما أقره الاجتهاد القضائي الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 17/12/1984:" من المقرر شرعا وعلى ما جرى به قضاء المجلس الأعلى أن تلفظ الزوج بالطلاق يلزمه، ومن المقرر أيضا أن الرجعة لا تعتبر شرعا إلا أثناء قيام العدة، ومن ثم فإن القضاء بخلاف ذلك يعد خرقا لمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا كان الثابت -في قضية الحال- أن الزوج المطلق ندم أو تراجع في طلاقه بعد انتهاء مدة العدة، فإن هذا لا يشفع له شرعا في عدم احتساب الطلاق الذي تلفظ به، وبناء عليه فإن أراد أن يراجع زوجته كان عليه اتباع القواعد الفقهية كما فعل قاضي محكمة الدرجة الأولى، إلا أنهم بقضائهم برجوع الزوجة إلى بيت الزوجية خالفوا أحكام هذا المبدأ، ومتى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه بدون إحالة"([56]).
هذا الغموض كله إنما كان نتيجة لعدم التفريق بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن بينونة صغرى، أما البائن بينونة كبرى فإن المشرع الجزائري قد حكم فيه بما هو مقرر شرعا، وهو ما جاء في المادة 51 من قانون الأسرة الجزائري والتي نصت على أنه:"لا يمكن أن يراجع الرجل من طلقها ثلاث مرات متتالية إلا بعد أن تتزوج غيره وتطلق منه أو يموت عنها بعد البناء".
وهذا ما ذهب إليه القضاء الجزائري حيث جاء في القرار الصادر بتاريخ: 17/02/1998:"من المقرر شرعا أنه لا يمكن أن يراجع من طلقها ثلاث مرات متتالية إلا بعد أن تتزوج غيره وتطلق منه أو يموت عنها بعد البناء.
الثابت من القرار المطعون فيه أن قضاة المجلس لما قضوا بالطلاق البائن بناء على تصريح الزوج أمامهم بطلاقه لزوجته ثلاثا، فإنهم لم يخرقوا أحكام المادة 57 من قانون الأسرة وطبقوا القانون تطبيقا سليما مما يتعين التصريح برفض الطعن"([57]).
[1]- الطلاق باللفظ الصريح هو: ما لا ينصرف عنه بنية صرفه، ومعناه: ما لا تنفع فيه النية في رفعه. أما الكناية فنوعان: ظاهرة وخفية، فالكناية الظاهرة هي: ما يصرفه عنه بها، معناه: تلفظ ينفع صرفه عن الطلاق بالنية، وأما الخفية فهي: ما تتوقف دلالته عليها، أي لفظ تتوقف دلالته على الطلاق على وجود النية من اللافظ. الرصاع: شرح حدود ابن عرفة، ص 281.
[3]- ينقسم الطلاق باعتبار صيغته إلى منجز ومضاف ومعلق، فالمنجز: هو ما كان بصيغة مطلقة، غير مقيدة بشرط ولا مضافة إلى زمن، وحكمه أنه يقع به الطلاق في الحال متى كان الزوج أهلا لإيقاع الطلاق والزوجة محلا لوقوعه. وأما المضاف: فهو ما قرنت صيغته بزمن مستقبل، يقصد المطلق إيقاع الطلاق عند حلوله، وحكمه أنه لا يقع الطلاق في الحال، بل في أول الوقت الذي أضيف إليه متى كان الزوج أهلا لإيقاع الطلاق والزوجة محلا لوقوعه عند حلول ذلك الوقت. وأما المعلق: فهو ما كانت صيغته معلقا فيها حصول الطلاق على حصول شيء آخر بأداة من أدوات الشرط، وهذا محل اختلاف بين الفقهاء، إلا أن مذهب الأئمة الأربعة أنه يقع متى وجد المعلق عليه. انظر، أحمد فراج حسين: أحكام الأسرة في الإسلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1998، ص 86 وما بعدها.
[5]- معنى أنه لا يزيل الملك، بقاء الحقوق الزوجية ثابتة في مدة العدة لكلا الزوجين، ومعنى أنه لا يزيل الحل أن المطلقة لا تزال حلا لمطلقها، فله أن يراجعها إن كان له حق المراجعة، وإلا فله أن يعقد عليها من جديد إذا خرجت من العدة بدون مراجعة.
[10]- انظر، عبد العزيز رمضان سمك: الفرق بين الزوجين في الفقه الإسلامي والقانون المصري، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1993،ص 61.
[11]- يشترك الطلاق الرجعي والبائن في أحكام منها: وجوب نفقة العدة للمطلقة وثبوت نسب ولدها الذي تلده للمطلق ويهدم الزواج الثاني إذا تزوجت المطلقة بزوج آخر ما كان من الطلاق في الزواج الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف سواء كان الطلاق ثلاثا أم أقل، وقال باقي الفقهاء: إنه يهدم الثلاث لا غير فتعود إلى الأول بزوجية جديدة يملك في ثلاث طلقات. انظر، وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/438.
[14]- وهو أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثا بعد أن بانت بينونة كبرى بشرط أنه متى تزوجها الثاني طلقها بقصد أن يحلها للزوج الأول. فواضح في هذه الصورة عنصر التأقيت ولا يقصد منه الدوام والاستمرار، وإنما هدفه فقط تحليل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول.
[22]- يعتبر الحنفية العدة استدامة أي أنها تعمل على بقاء النكاح الذي لم ينقطع، أما الشافعي فإنه يعتبرها إعادة للنكاح الذي أزاله الطلاق، وحجته في ذلك قوله تعالى:"وبعولتهن أحق بردهن"، فهو عبر عنها بالرد، والرد معناه الإعادة، أما الحنفية فيستدلون بنفس الآية إذ سمي المطلق بعلا، والبعل هو الزوج فالزوجية قائمة. أبوزهرة:الأحوال الشخصية، ص 313.
[23]- لقد ترتب على هذا الخلاف في حقيقة الرجعة خلاف في طريقتها، فالحنفية أجازوا أن تكون بالقول والفعل، فإذا قال لها راجعتك تمت الرجعة، وإذا دخل بها أو كانت منه مقدمات الدخول اعتبر ذلك رجعة، أما الشافعي وأحمد فيريان أن الرجعة لا تكون إلا بالقول، وذلك لأن حقوق الزوجية قد زالت بالطلاق ولو كان رجعيا، ولا تعود إلا بالرجعة، فإذا دخل بها قبل قوله راجعتك فقد ارتكب أمرا محرما عليه، والأمر المحرم لا يوجد حقا ولا يعيد حقا. أبو زهرة: الأحوال الشخصية، 313. انظر، ابن قدامة: المغني: 10/559.
[24]- إذا كان الرجعة حقا مشروعا للزوج، والذي له الحق في الطلاق، فيجب أن يكون القصد فيها هو الإصلاح، بمعنى إقامة حياة زوجية حقيقية مستقرة، وليس القصد الإضرار بالزوجة بإطالة أمد العدة عليها. انظر، الهادي السعيد عرفة: إساءة استعمال حق الطلاق، ص 91.
[27]- ابن ماجه: كتاب الطلاق، حديث رقم 2016. 2/499. أبوداود: كتاب الطلاق، باب في المراجعة، حديث رقم 2283. 2/493.
[31]- لا يشترط في الرجعة أمور أهمها: رضا المرأة وإعلامها والإشهاد على الرجعة. يراجع: وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته،7/469 وما بعدها.
[37]- ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح لاعبا، حديث رقم 2039. 2/511. الترمذي: كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، حديث رقم 1184. 3/481.
[44]- لعل أهم الحقوق المترتبة للمرأة المعتدة هو الحق في النفقة والسكن والميراث في حال وفاة الزوج إذا كانت معتدة من طلاق رجعي، وهذا لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا يرفع الحل كما سبق بيانه.كما نصت أيضا على ذلك المادة 61 من قانون الأسرة:"لا تخرج الزوجة المطلقة ولا المتوفى عنها زوجها من السكن العائلي ما دامت في عدة طلاقها أو وفاة زوجها إلا في حالة الفاحشة المبينة ولها الحق في النفقة في عدة الطلاق".
[46]- ونصها كالآتي:"لا تخرج الزوجة المطلقة ولا المتوفى عنها زوجها من السكن العائلي ما دامت في عدة طلاقها أو وفاة زوجها إلا في حالة الفاحشة المبينة ولها الحق في النفقة في عدة الطلاق". الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005.
[47]- يمكن صياغة المادة 50 بأحد أمرين: أ- عند فشل جلسة الصلح، يصدر القاضي حكم الطلاق بأثر رجعي يعود إلى التاريخ الحقيقي لتلفظ الزوج بالطلاق. ب-ربط جلسة بالعدة الشرعية، فتصاغ المادة 49 كالآتي:"لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولات صلح يجريها القاضي خلال فترة العدة الشرعية".كما تصاغ المادة 50 على النحو الآتي:" من راجع زوجته أثناء محاولة الصلح لا يحتاج إلى عقد جديد مالم تنته العدة الشرعية، ومن راجعها بعد صدور الحكم بالطلاق يحتاج إلى عقد جديد إذا انتهت العدة الشرعية ".
[49]- انظر،محمد كمال الدين إمام: أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين، ص 21. ومعنى تحكيما لا قضاء أن حكم الحكمين ينفذ بصفتهما حكمين لا قاضيين.
[51]- وكذلك طبقا للمادة 439:"محاولات الصلح وجوبية و تتم في جلسة سرية "الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخة في 23/4/2008.
[56]- ملف رقم 35322: المجلة القضائية، العدد الرابع، 1984، ص 91. ويمكن حمل نص المادة 49 على أن المشرع حاول أن يقلل من فرص الطلاق الانفرادي الذي يقع بيد الزوج، ومن ثم فهو يسعى لأن يكون الطلاق بعد محاولات الصلح من طرف القاضي، وعليه فمن أراد أن يطلّق زوجته، عليه أن يطلقها منفردا قبل رفع الدعوى. لكن إذا طلق الزوج زوجته انفراديا، وجب عليه رفع دعوى الطلاق حتى يباشر القاضي عملية الصلح في أجل العدة، فإذا تم الصلح عادت الزوجية من غير عقد ولا مهر، وإذا فشل الصلح أعلن القاضي الطلاق من تاريخ صدوره من الزوج، فيكون حكم القاضي إعلانا بأثر رجعي.
-
-
-
المحاضرة الثالثة:
الطلاق التعسفي في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
نشأت نظرية التعسف في استعمال الحق لإقامة التوازن بين الحقوق الفردية المتعارضة، أو بين الحق الفردي والحق الجماعي، وبناء على هذا فإن الإخلال بهذا التوازن بين المصالح الخاصة المتعارضة غير مشروع، فإذا أفضى استعمال حق فردي ولو كان مشروعا في ذاته إلى إلحاق مضرة راجحة كان هذا مناقضا لمقصود الشارع، لأنه لم يشرع الحق ليكون مصدرا لمفاسد راجحة، وإنما شرعه لتحقيق المصالح ودرأ المفاسد([1]).
ومنه لا بد أولا من بيان معنى التعسف في الطلاق لمعرفة وجه الفرق فيه بين المشروع وغير المشروع، وذلك من خلال ما يأتي:
أولا: الجانب الفقهي
الفرع الأول: مفهوم التعسف في الطلاق وضابطه
أولا: مفهوم التعسف في الطلاق
التعسف هو إساءة استعمال الحق بحيث يؤدي إلى ضرر بالغير([2])، وهو يعني بوجه عام استعمال الحق لتحقيق مصلحة غير مقصودة شرعا أو للإضرار بالغير مما يفوت مقصود الشارع من شرع الحق([3]).
يقول فتحي الدريني في بيان حقيقته وطبيعته:"يقوم التعسف في استعمال الحق على فعل مشروع لذاته، لأنه يستند إلى حق أو إباحة، ولكن هذا الحق استعمل على وجه يخالف الحكمة التي من أجلها شرع الحق، والمخالفة أو المناقضة تظهر من وجهين:
الأولى: من حيث الباعث الدافع الذي حرّك إرادة ذي الحق إلى أن يتصرف بحقه لتحقيق غرض غير مشروع، من الإضرار بالغير، أو هدم قواعد الشرع، بتحليل محرم، أو إسقاط واجب، تحت ستار الحق.
الثانية: من جهة النتيجة أو الواقعة المادية أو الثمرة التي تترتب على استعمال الحق بحدّ ذاتها، بقطع النظر عن العوامل النفسية، فإذا كانت تلك النتائج أضرارا أو مفاسد راجحة مُنع التسبب فيها؛ أي مباشرة الحق، ووجه المناقضة هنا ظاهر؛ لأن الحقوق لم تشرع وسائل لتحقيق مضار أو مفاسد غالبة، الأمر الذي لا يتفق مع أصل الشريعة، من أنها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد"([4]).
والتعسف في استعمال الطلاق هو الخروج به عن الحكمة التي اقتضت تشريعه، بمعنى مناقضة قصد الشارع في رفع قيد النكاح حالا أو مآلا بلفظ مخصوص([5]).
وفيما يلي بيان لضابط التفريق بين الطلاق التعسفي والطلاق المشروع.
ثانيا: ضابط التعسف في الطلاق
مما سبقت الإشارة إليه في تقسيمات الطلاق أنه ينقسم إلى طلاق سني وطلاق بدعي([6])، ومع أن الطلاق جعل بيد الرجل إلا أنه مقيد بأن يكون للحاجة، والشارع لم يترك الأمر للتعسف في استعمال هذا الحق، بل جعل له قيودا شرعية -سيأتي ذكرها- لو اتبعت على وجهها الصحيح ما كان طلاق إلا حيث الحاجة النفسية الحقيقية، وسمي الطلاق في هذه الحدود بطلاق السنة، أي الذي جاء على طريقة السنة، ويقابله ما خرج عن قيوده الشرعية ويسمى بطلاق البدعة.
أ- طلاق السنة: وهو ما كان موافقا لكتاب الله وسنة رسوله r.([7]) وصورته أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يمسها فيه، وأن يطلقها طلقة واحدة، ويتركها حتى تنتهي عدتها، بمعنى أنه لا يتبعها طلاقا آخر قبل انتهاء عدتها([8]).
ب- طلاق البدعة: وهو ما كان مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله r([9])، وصورته أن يطلق الرجل امرأته في الحيض أو في طهر مسها فيه([10])، أو أن يطلقها ثلاثا بلفظ واحد في طهر واحد([11]).
وضابط التفريق بين طلاق السنة وطلاق البدعة يتحقق بمدى التقيد بالقيود الشرعية في إيقاع الطلاق، قال ابن رشد:" أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة"([12]). وعليه يكون الطلاق سنيا ومشروعا إذا لم يخرج الزوج في إيقاعه الطلاق عن القيدين الآتي ذكرهما([13]):
القيد الأول: ويتعلق بالزمن، وهو أن يوقع الزوج الطلاق في حال طهر الزوجة لا في حال حيضها، وأن يوقعه في طهر لم يمسها فيه.
القيد الثاني: ويتعلق بالعدد والوصف، بأن يطلق الزوج زوجته المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار في كل طهر تطليقة يستقبل الطهر استقبالا، فإن طلقها ثلاثا بلفظ واحد كان بدعيا.
ثالثا: حكم الطلاق التعسفي
يترتب على الخلاف -السابق ذكره- في أصل الطلاق الحظر أم الإباحة، خلاف الفقهاء في حكم استعمال الزوج لهذا الحق لغير حاجة ودون سبب مشروع، فهل يكون بذلك قد ناقض مقصد الشارع من مشروعية حق الطلاق، وبذلك يكون متعسفا في استعمال حقه؟.
غير أنه لم يرد في كتب الفقهاء القدامى لفظ الطلاق التعسفي، ولكنه مصطلح جديد، حيث تطرق الفقهاء المحدثون للحديث عن الطلاق التعسفي في كتب الأحوال الشخصية، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم هل هناك تعسف في الطلاق أم لا، بناء على الاختلاف في حكم أصل الطلاق هل هو الحظر أم الإباحة على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب بعض الفقهاء المحدثين، إلى أنه ليس هناك تعسف في الطلاق، وذلك بناء على أن الأصل في الطلاق الإباحة، وأن الله تعالى ملك الزوج حق الطلاق بالإرادة المنفردة فهو حر التصرف فيه([14]).
المذهب الثاني: ذهب عامة الفقهاء المحدثين إلى أن هناك تعسفا في الطلاق إذا طلّق الزوج زوجته بغير مسوغ شرعي، مستدلين على ذلك بأن الأصل في الطلاق الحظر، سواء من قال منهم بأن الحظر دياني أم قضائي([15]).
الفرع الثاني: صور التعسف في إيقاع الطلاق
إن الطلاق الذي لا خلاف في وقوعه هو أن يطلق الزوج امرأته في طهر لم يمسسها فيه طلقة واحدة، ويتركها حتى تنقضي عدتها فتصير هذه الطلقة الرجعية طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى، إن لم تكن هذه الطلقة مكملة للطلاق الثلاث، وهو الطلاق المشروع ويسمى طلاق السنة. والطلاق المختلف في وقوعه هو ما خالف طلاق السنة -الذي ذُكر- بأن طلقها في طهر قد مسها فيه، أو طلقها وهي حائض، أو طلقها أكثر من طلقة واحدة بلفظ واحد. وهذا الطلاق يسمى بالطلاق البدعي، أو طلقها في مرض الموت. وفي أي صورة من هذه الصور يكون الزوج الموقع للطلاق مسيئا في استعمال حقه الأصيل في إيقاع الطلاق، ومن ثم يكون متعسفا، وهذه صور الطلاق التعسفي في الفقه الإسلامي على النحو التالي:
الصورة الأولى: الطلاق في الحيض
أ- أما طلاق الحائض: فهو طلاق بدعي؛ لأنها طلقت في زمان لا يحتسب به من عدتها فبقية حيضها غير محتسب به من عدتها عند من جعل الأقراء: هي الأطهار، وعند من جعلها الحيض فصارت بالطلاق فيه غير زوجة ولا معتدة.
ب- وطلاق الزوجة وهي حائض محظور شرعا لنهي الشرع عنه، ومن ثم قال الفقهاء: إنه حرام، وقد دلّ على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب: قوله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ[([16]) قال الزمخشري في تفسيره:" أي إذا أردتم تطليقهن وهممتم به فطلقوهن مستقبلات لعدتهن"([17]). قال ابن كثير:" أي لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه"([18]).
ومن السنة: ما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-:" أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله r فسأل عمر بن الخطاب رسول الله r عن ذلك، فقال رسول الله r:"مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساء"([19])، قال ابن حجر([20]):"فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، أي فتلك العدّة التي أذن الله أن يطلق لها النساء، وهذا مراد بيان الآية وهي قوله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[([21]).
ومن الإجماع: قال النووي:" أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلَّق أثم"([22]). ونقل الحطاب:" إن الطلاق في الحيض حرام بالإجماع"([23])، وقال ابن قدامة:" فإن طلقها للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم"([24]). كما أنه لا خلاف في أن الطلاق في النفاس له حكم الطلاق في الحيض عند المالكية والشافعية والظاهرية([25]).
ويستثنى من حظر الطلاق في الحيض:
1- غير المدخول بها، لأنه لا عدة عليها، فلا يراعى في طلاقها كونها غير حائض.
2- التطليق من الحاكم في الإيلاء إذا اتفق وقوع تطليقه في حال حيض الزوجة.
3- إذا اختلعت الزوجة من زوجها صح الخلع سواء كانت الزوجة حائضا أم غير حائض؛ لأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي لئلا تتضرر الزوجة في إطالة عدتها، وهذا المعنى غير موجود في حالة الاتفاق على الفرقة عن طريق الخلع([26]).
وترجع حكمة تحريم الطلاق في الحيض إلى أمرين([27]):
الأول: لئلا تطول عدة المرأة المطلقة وفي إطالتها إضرار بها.
الثاني: لغرض التأكد من أن الطلاق كان لحاجة الزوج إليه وليس مردّه إلى نزوة طارئة وغضب سريع وقرار متعجل. قال الشافعي:"وقد أمر الله عز وجل بالإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، ونهى عن الضرر، وطلاق الحائض ضرر عليها"([28]). وجاء في بدائع الصنائع:" لأن فيه تطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي صادفها الطلاق فيه غير محسوبة من العدة، فتطول العدة عليها وذلك إضرار بها، ولأن الطلاق للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة وزمان الحيض زمان النُّفرة، فيكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق، فلا يكون الطلاق فيه سنّة بل سفها"([29]).
ج- وقوع الطلاق في الحيض
ذهب الحنفية والمالكية([30]) والشافعية والحنابلة وعامة الفقهاء([31]) إلى وقوع طلاق البدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر مسها فيه، ويأثم للتحريم. قال الإمام النووي:" أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلقها أثم ووقع طلاقه، وشذَّ أهل الظاهر فقالوا: لا يقع"([32]).
واستدل الجمهور على وقوع طلاق الحائض من القرآن الكريم بقوله تعالى:]فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[([33]) وهذا يعم كل طلاق. ومنه الطلاق البدعي، وكذلك قوله تعالى:]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[([34])، ولم يفرق بين مطلقة في حيض وبين مطلقة في طهر، إذ لا يجوز إخراج بعض المطلقات من هذا العموم الوارد في هذه الآيات إلا بنص أو إجماع، ولا يوجد نص ولا إجماع في إخراج المطلقات في الحيض من هذا العموم .
ومن السنة حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بشأن طلاق زوجته في الحيض، وفيه أن النبي r أمره أن يراجعها([35]). قال النووي في هذا الحديث:"ولو لم يقع طلاقه لم تكن رجعة، فإن قيل: المراد بالرجعة: الرجعة اللغوية وهي الردّ إلى حالها الأول لا أنها تحسب عليها طلقة، قلنا: هذا غلط من الوجهين:
أحدهما: أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية يقدَّم على حمله على الحقيقة اللغوية.
والثاني: أن ابن عمر صرّح في رواية لمسلم بأنه حسبها عليه طلقة"([36]).
وقال الظاهرية وابن تيمية وابن القيم: لا يقع الطلاق في الحيض. قال ابن تيمية وقد سئل عن الطلاق في الحيض:"ولا ريب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعي على زواله بالطلاق المحرم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك"([37]). واحتج أصحاب هذا الرأي بأن أمر النبي r لعبد الله بن عمر أن يراجع زوجته، أن المراد بالرجعة معناها اللغوي وليس معناها الاصطلاحي؛ أي الرجوع لحالتهما التي كانا عليها من الاجتماع قبل الطلاق([38]).
الصورة الثانية: الطلاق في طهر مسها فيه
طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أي طاهر من غير جماع، فإن طلقها في طهر مسها فيه أثم وهو طلاق محظور شرعا للحديث السابق في طلاق الحائض وفيه "مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدَّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"([39]) قال الإمام النووي في هذا الحديث:" ففيه تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه"([40]).
وأما طلاقها في طهر مسها فيه، فلتحريمه علتان:
إحداهما: أنها ربما علقت من وطئه فصارت حاملا فلحقه ندم من طلاقها.
ثانيهما: أنها تصير مرتابة في عدّتها، هل علقت من وطئه فتكون عدتها بوضع الحمل، أم لم تعلق فتكون بالأقراء، لكنها تعتد ببقية طهرها، كما أن الطلاق للحاجة، والحاجة تظهر في الطلاق في طهر لم يجامعها فيه([41]). فإذا طلق الرجل في إحدى هاتين الحالتين فقد طلقها طلاقا بدعيا محرما، وهو واقع مع إثم موقعه عند الجمهور الذين أوقعوا الطلاق في الحيض مع إثم موقعه([42])، لحديث ابن عمر السابق([43])ولأن الفروج كالدماء مما ينبغي الاحتياط فيه، والأصل فيها الحرمة، فيجب أن تبقى محرمة حتى يقوم على الحل دليل لا احتمال فيه([44]) ويكون بذلك متعسفا في استعمال حقه في الطلاق([45]).
الصورة الثالثة: الطلاق الثلاث بلفظ واحد
إن حق الطلاق الذي منحته الشريعة للزوج مقصور ومحصور في عدد معين من الطلقات، وليس مطلقا دون عدد فهو مقيد بكونه ثلاث تطليقات، فيجب عليه أن يتروّى ويتأنّى عند استعمال كل طلقة منهن، بحيث لا يقْدم عليها إلا إذا كان الدافع إليها قويا يتناسب مع الآثار المترتبة عليها، فإذا استنفذ المرّات الثلاث بانت منه زوجته البتّة، وتظهر صورة التعسف في هذه الحالة بإيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة، أو بألفاظ متتالية في مجلس واحد، فالطلاق الثلاث له صورتان:
الأولى: أن يصدر الطلاق مقترنا بلفظ الثلاث، كقول الزوج: أنت طالق ثلاثا.
والثانية: أن يطلق المرأة بثلاث طلقات متتابعات في محل واحد، كقوله: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.
والأصل في إيقاع الطلاق أن يطلّق الرجل المرأة في طهر لم يمسها فيه بطلقة واحدة عملا بقوله تعالى:]فطلقوهن لعدتهن[، وقوله r في حديث ابن عمر:"مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس"، فإذا خالف الزوج ذلك بأن أوقع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أي دفعة واحدة، فهل يقع طلقة واحدة أم ثلاث طلقات([46]) ؟.
قال ابن رشد:"جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك"([47]).
وفيما يلي عرض موجز لآراء العلماء في ذلك وأشهرها([48]):
الرأي الأول: ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة([49]) إلى أن الطلاق بلفظ الثلاث يقع ثلاثا وتحرم عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق في هذا بين الطلاق قبل الدخول أو بعده([50]). قال الشافعي:" فإذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق ثلاثا، فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره"([51]).
وحجتهم في ذلك أن الشارع قد جعل للزوج ثلاث تطليقات فله أن يوقعها باختياره متفرقة أو مجتمعة، والنكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر ما يملكه الإنسان([52]).
وكذلك استدلوا بما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه أتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثا، فقال: إنّ عمّك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا([53]).
وقد ذكر ابن قدامة أن هذا القول روي عن جمع من الصحابة وهم: ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وأنس -رضي الله عنهم-([54]).
فقد قال الجمهور بذلك سدا للذريعة، قال ابن رشد:"وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة"([55]).
الرأي الثاني: ذهب بعض الفقهاء ومنهم ابن تيمية وابن القيم إلى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة رجعية، ولا تأثير للفظ في ذلك([56]).
واحتج أصحاب هذا الرأي بما يأتي:
قوله تعالى:] الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[([57])، والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة وليس ثلاثا([58])، أي أن الطلاق كما شرعه الله تعالى لا يكون إلا مرة ثم مرة كما ورد في الآية، فإذا طلق مرتين بلفظ واحد كانت واحدة وليست مرتين فتقع بها طلقة واحدة.
وما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال:" كان الطلاق على عهد رسول الله r وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم"([59]).
قالوا: فالحديث صريح في أنهم كانوا يعدون الطلاق الثلاث بلفظ واحد على عهد رسول الله r وأبي بكر طلقة واحدة، وهو الحكم الأصلي الذي أقره رسول الله r وتم إجماع الصحابة عليه، وما كان إلزام عمر الناس فيما بعد بالثلاث وإمضاؤها عليهم إلا عقوبة رأى أن من المصلحة أن يعاقبهم بها لتماديهم في الطلاق واستهانتهم بأمره([60]).
وممن قال به من الفقهاء المعاصرين([61]) محمود شلتوت وأحمد شاكر ومحمد السايس وعبد الوهاب خلاف والمراغي وعبد الرحمن الصابوني ومحمد عقلة الإبراهيم، ومحمد أبو زهرة إذ يقول:"وقد كان المعمول به هو مذهب أبي حنيفة الذي هو مذهب الأئمة الأربعة وهو أن يكون الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث يقع ثلاثا، والاثنتين تقع اثنتين بلفظ واحد فكان هذا يدفع إلى الحرج الديني، إذ يندفع الزوج في نوبة غضب جامحة فيطلق ثلاثا ولا يجعل لنفسه من أمره يسرا، فإذا ناب إليه رشده كان إما أن يعيش مع امرأته عيشة يعتقد أنها حرام وأنهما زانيان وفي ذلك موت الضمير الديني، وإما أن يتحايلا بطرق لم يحلها الشارع لإعادة الحل والعقد عليها من جديد، وفي ذلك ما فيه من المفاسد فكان من المستحسن علاج هذه الحال"([62]).
الصورة الرابعة: الطلاق في مرض الموت
وهذه الصورة مبنية على نظرية التعسف في استعمال الحق، فإذا طلق الزوج زوجته وهو مريض مرضا انتهى به إلى الموت، أو كان في حالة يغلب فيها الهلاك، ثم اتصل بالهلاك من غير رضا الزوجة، فإن كانت المرأة لا تزال في عدتها من طلاقه ترث منه ولو كان الطلاق بائنا لأنه أراد إبطال حقها في الميراث فيرد عليه قصده ما دامت العدة قائمة لبقاء آثار الزوجية، وإذا قام الدليل على أنه لم يرد من طلاقها حرمانها من الإرث لم يكن فارًّا فترث منه ما دامت في العدة من طلاق رجعي، ولا ترث في العدة من الطلاق البائن، ومن أمارات عدم الفرار في طلاقه أن يكون الطلاق برضاها، أو أن تخالعه على الطلاق، أو أن تكون غير مستحقة للإرث منه عند الطلاق، كأن تكون كتابية، فإن اختلاف الدين مانع من الإرث كما هو معلوم([63]).
قال ابن رشد([64]):"وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه، فإن مالكا وجماعة يقول ترث زوجته، والشافعي وجماعة لا يورثها، والذين قالوا بتوريثها انقسموا إلى ثلاث فرق: ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وقال قوم: لها الميراث ما لم تتزوج، وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى، وقال قوم بل ترث كانت في العدة أم لم تكن، تزوجت أم لم تتزوج وهو مذهب مالك والليث([65])".
الصورة الخامسة: طلاق المرتد
اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدا البتة، كما أنه إذا ارتد أحد الزوجين بانت منه زوجته، ولذلك فالزوج المرتد لا يرث زوجته، والزوجة المرتدة لا ترث زوجها. ومن المعروف أن الزوج إذا ارتد بانت زوجته منه، وفقدت حقها في الميراث؛ لاختلاف الدين([66])؛ إلا أن الفقهاء ألحقوا المرتد بحكم المريض مرض الموت، واعتبروه فاراّ بالردة من توريث زوجته، فيرد عليه قصده، ولذلك فإن الزوجة المسلمة ترث زوجها المرتد إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة؛ لأنه يصير فارّا، وإن كان صحيحا وقت الردة([67]).
أما الزوجة المسلمة إذا ارتدت وهي في مرض موتها، فإن زوجها المسلم يرثها إذا ماتت وهي في العدة عند الحنفية([68]) لقصدها إبطال حقه، فتعامل بنقيض قصدها، ولا يرثها زوجها إن ارتدت حال صحتها؛ لأنها بانت بالردة، ولم تكن مشرفة على الهلاك فلا تكون فارّة، ولزوجها أن يتزوج بأختها عقيب لحاقها بدار الحرب، لأنها لا عدّة لها كالميتة، ولأنها لا تقتل([69]) فلم يتعلق حقه في مالها بالردة بخلاف المرتد([70]).
الصورة السادسة: طلاق الهازل
وهو من يقصد التلفظ بلفظ الطلاق ولكن لا يريد حكم هذا اللفظ([71]). فهل يقع طلاقه؟.
قال ابن قدامة:" إن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية، بل يقع من غير قصد ولا خلاف في ذلك سواء قصد المزاح أو الجد. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جدّ الطلاق وهزله سواء، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهم"([72]). لقوله r:" ثلاث جِدُّهن جِدّ وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة"([73]).
فالهازل مكلف وقد اختار التلفظ بالطلاق ولو أُطلق للناس جواز الاحتجاج بالهزل لتعطلت الأحكام وهذا يؤدي إلى الفوضى وارتكاب المحرم، والنكاح والطلاق والرجعة واجب فيها صيانة الفروج من العبث([74]). وإنما يقع طلاق الهازل؛ لأنه حكم شرعي لا ينبغي الهزل فيه ولا العبث به، فالهازل معتدٍ على أحكام الله مستهزئ بآياته فوجب أن لا يؤخذ بالشفقة والرحمة بحجة أنه لم يقصد ترتيب أثر العبارة عليها، حتى لا يفتح الباب أمام أمثاله للعبث بأحكام الشرع([75]). وقد رجح الصابوني عدم وقوع طلاق الهازل فيما لو كان المجلس مجلس لهو وهزل مما لا يختلف فيه اثنان أن أي لفظ يصدر فيه لا يقصد به إلا الهزل([76]).
ثانيا: الجانب القانوني
الطلاق محلل شرعا ومجاز قانونا , ولكنه أبغض الحلال إلى الله , فالزوج يملك الحق في إيقاع الطلاق على زوجته, وهذا الحق كفله الشرع والقانون, ولكن قانون الأسرة الجزائري أحاط هذا الحق ببعض من الضمانات حفاظا على قدسية الحياة الزوجية، فلابد لأي طلاق من أن يكون له سبب مستساغ شرعا وقانونا، حيث يتضح من نص المادة 52 من قانون الأسرة :"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها"([77])، أن المشرع الجزائري أوجب التعويض عن الطلاق التعسفي، والذي يجب أن يتوافر فيه شرطان أساسيان وهما:
- أن يتبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق، كأن يطلق زوجته لغير سبب معقول.
- أن يتحقق القاضي من لحوق الضرر بالمطلقة.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن توافر هذين الشرطين لابد وأن يكونا مجتمعين ومتلازمين بذات الوقت حتى يكيف الطلاق على أنه تعسفي، ومن ثم تستحق الزوجة التعويض -على ما سيأتي بيانه-.
وانطلاقا من الواقع العملي للمحاكم في مجال الأحوال الشخصية يمكن اعتبار الأسباب الآتية صورا للتعسف في الغالب وهي على سبيل التمثيل لا الحصر.
أولا: إذا كان الطلاق من غير سبب معقول([78]) بأن يُقدم الزوج على طلاق زوجته دونما سبب مسوغ لذلك الطلاق عدّ هذا الطلاق تعسفيا، وتستحق حينئذ الزوجة المطلقة طلاقا تعسفيا تعويضا عن هذا الطلاق، وذلك حتى لا يغالى باستخدام هذا الحق. فإذا تبين للقاضي أن الزوجة قد لحقها ضرر بسبب هذا الطلاق، جاز له أن يحكم لها على مطلقها بالتعويض بحسب نسبة التعسف ودرجته([79]).
ثانيا: إذا طلبت الزوجة المطلقة الرجوع إلى بيت الزوجية بأن تنازلت الزوجة عن حقها في التعويض وتشبثت بالعودة إلى الحياة الزوجية، وتمادى الزوج في تمسكه بطلب الطلاق، فإنه يعدّ متعسفا في استعمال الحق في هذه الحالة في نظر القضاء، ومن ثم فإنه يكون من حق الزوج إيقاع الطلاق مع إلزامه بالتعويض عن الضرر الذي لحق بالمرأة.
ثالثا: يكون الزوج متعسفا في طلاق زوجته إذا طلقها في مرض موته؛ لأنه يعتبر فارا من ميراث زوجته فيرد عليه قصده بتوريثها منه، وهذا الأخير يعتبر تعويضا لها عن تعسفه في الطلاق. طبقا لما جاء به الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ 17/3/1998 والذي جاء فيه:"إن المرض مهما كانت خطورته لا يمنع الزوج من إيقاع الطلاق ما عدا إذا كان القصد من الطلاق في مرض الموت حرمان الزوجة من الميراث. ومن ثم فإن قضاة الموضوع بقضائهم بطلاق الطاعنة طبقوا صحيح القانون، ومتى كان ذلك استوجب رفض الطعن"([80]).
حيث يفهم من هذا القرار أن الطلاق في مرض الموت يعدّ تعسفا إذا كان القصد منه حرمان الزوجة من الميراث عملا بما هو مقرر في الفقه المالكي على الخصوص.
وبناء على ما سبق بيانه يمكن القول بأن النظرة الشرعية في تكييف التعسف وصوره في الطلاق، تختلف عن نظرة القانون، فمعيار التعسف في نظر الشريعة إنما يرجع إلى مدى المخالفة الشرعية في إيقاع الطلاق، ومنه يفقد وجه الحكمة في تشريعه، وأما معياره بالنظر القانوني فيكون بقدر الضرر الذي ينتجه الطلاق.
الفرع الثالث: قيود إيقاع الطلاق وأثر مجاوزتها
يتضمن هذا الفرع الحديث عن قيود إيقاع الطلاق في الفقه الإسلامي والأثر المترتب على مجاوزة حدود إيقاع الطلاق، وذلك على النحو الآتي:
أولا: قيود إيقاع الطلاق في الفقه الإسلامي
انطلاقا مما هو مقرر فقها وقانونا أن الطلاق بيد الرجل، فهو حق أصيل له يستعمله دون اعتماد على إرادة المرأة في إحداث هذا الأثر، فتكون إرادة الزوج وحدها محل اعتبار، غير أنه لا بد من تحديد طبيعة حق الزوج في إيقاع الطلاق، فيجب أن يكون استعماله بمعروف أو بإحسان، والمعروف ضده المنكر، والإحسان ضده الإساءة، فإذا خالف المعروف في استعماله لحق الطلاق يكون قد أتى منكرا، وإذا خالف الإحسان في استعماله يكون قد أساء استعماله([81])، لقوله تعالى:]فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا[([82])، وقوله تعالى:]فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[([83]).
فقد قيد فقهاء الشريعة حق الزوج في إيقاع الطلاق بما يتفق والحكمة التي دعت لتشريعه، وبما فيه منع الإضرار بالمطلقة غير ما يصيبها من مجرد الطلاق، ولما كان الطلاق في ذاته مضرا بالزوجة في أغلب الحالات، فقد رتبت الشريعة على وقوعه أحكاما ترمي إلى تخفيف هذا الضرر.
فيتقيد حق الزوج في إيقاع الطلاق بما تتقيد به الحقوق على وجه العموم في الشريعة الإسلامية، فهو يتقيد بوجوب أن يكون استعماله متجها لتحقيق الحكمة التي شرع لأجلها، وألا يكون بطريقة هي في حدّ ذاتها مسببة لضرر يلحق بالمطلقة فوق ما يصيبها من حل الرابطة الزوجية. وقد اصطلح فقهاء الشريعة على تقسيمه إلى طلاق السنة وطلاق البدعة، وهم يقصدون بالأول الطلاق المشروع وبالثاني الطلاق المحرم. ولعل الذي دعاهم إلى ذلك هو ما يشوب هذا الحق من الكراهية لما فيه من حل الرابطة الزوجية، وهو في الغالب مضر بالمرأة([84]).
أولا: يتقيد استعمال الزوج لحق إيقاع الطلاق بوجوب مطابقته للحكمة التي دعت إلى تشريعه، والحكمة التي دعت إلى مشروعية الطلاق هي الخلاص من الرابطة الزوجية عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، بحيث يفوت المقصود من النكاح وينقلب إلى مضرة، وقيام هذه الحكمة شرط لإباحة الطلاق، فإذا لم تقم كان إيقاع الطلاق على غير الوجه المباح شرعا فيحرم.
وتطبيقا لذلك ذكر الفقهاء من الأحكام ما يأتي([85]):
1- يكون إيقاع الطلاق مكروها إذا كان من غير حاجة تدعو إليه، لقوله تعالى:] فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا[([86]). قال الآلوسي:"(فإن أطعنكم)، أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك..فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بالبغي إما بمعنى الطلب أو بمعنى الظلم"([87]).
2- اتفق الفقهاء([88]) على تحريم طلاق الزوجة في طهر مسها فيه، والعلة التي ذكروها لذلك هي أن الطلاق أبيح لحل عقدة النكاح عند عدم توافق الأخلاق، فيجب أن تكون هذه الحكمة الداعية إليه متوافرة، ولما كان عدم موافقة الأخلاق أمرا باطنا لا يوقف على حقيقته فقد أقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه، وهو الطهر الذي لم يمسها فيه مقام حقيقة الحاجة لعدم موافقة الأخلاق، لأن الطهر زمان الرغبة فيه طبعا وشرعا، فلا يختار الزوج فراقها إلا لحاجة([89])، ولأن الجماع قد يؤدي إلى الحمل، والحمل يقوي الرغبة في الإمساك فلا تكون هناك حاجة للطلاق، فإذا وقع الطلاق بعد الجماع فقد يؤدي إلى الندم، وبذلك يكون الطلاق قد وقع على غير رغبة صادقة، ومن أجل ذلك قالوا يجوز إيقاع الطلاق بالحامل بعد معاشرتها، لأن الحمل يزيد الرغبة فيها لرعاية مصلحة الولد، فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليلا على عدم موافقة الأخلاق([90]).
ثانيا: إذا طلق الرجل امرأته في مرض الموت طلاقا بائنا فإنها ترثه([91])، والعلة في ذلك هي أن المريض الذي يطلق زوجته يتهم بأنه قصد بطلاقها حرمانها من الميراث، فيرد عليه قصده([92]). ويلاحظ أن قيام هذه التهمة كون إيقاع الطلاق غير متفق مع الحكمة التي دعت لتشريعه لأن المقصود بالطلاق الفرقة وهي حاصلة بالموت، إذ الفرض أن المطلق يموت في مرضه الذي طلق فيه، وبذلك يكون المطلق قد قصد بطلاقه غير ما شرع له الطلاق.
ثالثا: يتقيد استعمال الزوج لحق إيقاع الطلاق بحيث لا يترتب عليه ضرر بالزوجة، والمقصود بالضرر هنا الضرر الذي يزيد على ما ينشأ من حل رابطة الزوجية؛ لأن الطلاق في ذاته مضر بالمرأة غالبا، فالضرر المقصود هو الذي ينشأ عن وقوعه نتيجة لإيقاعه إما بكيفية مخصوصة وإما في وقت مخصوص ينشأ عنه ضرر بالمطلقة، من ذلك الطلاق الثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متتابعة في طهر واحد، أو الطلاق في أثناء الحيض، أو في طهر مسّها فيه([93]).
ثانيا: الأثر المترتب على مجاوزة حدود إيقاع الطلاق
أ- الأثر الشرعي
كان اختلاف فقهاء الشريعة في بيان الأثر المترتب على تجاوز حدود إيقاع الطلاق([94]) أشد وأظهر من اختلافهم في بيان الطلاق المسنون وما خرج عن السنة، وقد اتفقوا جميعا على أن الطلاق البدعي ما يوقعه الزوج تجاوزا فيه للقيود السابقة الذكر، هو طلاق محرم ديانة، بحيث يؤثم الزوج لإيقاعه، وعلى هذا الأثر اقتصر فريق كبير من علماء الشريعة الإسلامية على الحرمة الدينية فأقروا الطلاق الذي يكون كذلك.
ويرى فريق آخر أن مثل هذا الطلاق لا يقع فهو على النقيض من الرأي الأول، وفريق ثالث توسط بين الرأيين فقضى بوقوع الطلاق، ولكن بقيود معينة ترمي إلى رفع الضرر الناتج عنه أو تخفيفه.
الرأي الأول: واقتصر أصحابه على الحرمة الدينية، حيث يقضي هذا الرأي بأن الزوج إذا أوقع الطلاق فإنه يقع ويترتب عليه حكمه الشرعي سواء كان إيقاعه على وجه السنة أو مخالف لها، فإن كان على وجه السنة فلا شيء على المطلق، وإن خالفها بأن طلق في الحيض فإنه يؤثم ديانة، وعلى هذا الرأي فقهاء المذاهب الأربعة([95]).
الرأي الثاني: ذهب أصحابه إلى القول بأن الطلاق البدعي لا يقع، فمن طلق زوجته وهي حائض أو في طهر مسها فيه، أو طلقها ثلاثا بلفظ واحد فلا يقع الطلاق وتبقى الزوجة كما كانت، ووجه قولهم هذا هو أن الأمر بإيقاع الطلاق على وجه مخصوص يقتضي الوجوب، فما وقع على غير هذا الوجه المخصوص لا يعتبر، لقوله r:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"([96]).
وممن قال بهذا الرأي الظاهرية([97])، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق أثناء الحيض أو في طهر عقب جماع([98]).
الرأي الثالث: ذهب أصحابه إلى القول بوقوع الطلاق البدعي، إلا أنهم لم يقصروا أثر البدعة هنا على الحرمة الدينية، بل عملوا على رفع المعنى غير المشروع في هذا الطلاق فيما يحتمله من أنواعه، وذلك في الطلاق الثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متتابعة وفي الطلاق أثناء الحيض. فأما عن الطلاق الثلاث فيرى فريق من الفقهاء أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع به طلقة رجعية واحدة، وعلى هذا الرأي ابن تيمية وابن القيم الجوزية([99]). وهو رأي بعض الفقهاء المعاصرين-كما سبق بيانه-.
ب- الأثر المترتب على إيقاع الطلاق التعسفي
إذا أوقع الزوج الطلاق على وجه التعسف فإنه يقع شرعا وتترتب عليه أحكامه وآثاره-كما سبق بيانه- وبما أن الرجعة أثر من آثار الطلاق السني، فقد اختلف العلماء في مدى إلزام المتعسف في الطلاق البدعي([100]) بمراجعة زوجته وإمساكها، فإن أراد تطليقها بعد ذلك طلقها للسنة.
أولا: إلزام المتعسف في الطلاق البدعي بالرجعة
اختلف الفقهاء في وجوب الرجعة على من طلق طلاقا بدعيا، على رأيين:
فذهب المالكية([101]) إلى أن المراجعة واجبة على الزوج المطلق، فإن راجعها فبها ونعمت، وإن أبى أمره الحاكم بها لأنه ممتنع من أداء واجب عليه، فإن أبى أن يراجعها من أمر الحاكم له بالمراجعة أجبره عليها بالتهديد بإيقاع الأذى به كالسجن والضرب، فإذا أصر على إبائه ورفضه ارتجعها الحاكم عليه؛ لأن الارتجاع في هذه الحالة حق لله تعالى([102]).
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر الذي فيه:"مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر"([103])، ووجه الدلالة أن الحديث يفيد الأمر بالرجعة في حالة الطلاق في الحيض، والأمر للوجوب فيجبر على الارتجاع([104]).
كما استدلوا بالمعقول حيث قالوا: بأن المطلق طلاقا بدعيا ارتكب محظورا فيؤمر بالرجعة استدراكا لمواقعة المحظور بالإقلاع عنه، ولما كان الطلاق محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، كما أنه لما طول عليها وأضر بها مع نهيه عن ذلك عوقب بالإجبار على الرجعة وردها إلى حال الزوجية ليزول الضرر عنها([105]).
وعند الحنفية في القول الأصح: تجب المراجعة ديانة لا قضاء، والقول الثاني عندهم: تستحب الرجعة([106]).
أما الشافعية والحنابلة فقالوا: تستحب المراجعة ولا تجب، فإن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى([107]). وهو القول الثاني للحنفية.
واستدلوا لرأيهم بقوله تعالى:] وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا[([108])، ووجه الدلالة من الآية على عدم وجوب الرجعة من وجهين:
أحدهما: أنه جعلها حقا للأزواج لا عليهم، والثاني: أنه قرنها بإرادة الإصلاح([109]).
كما استدلوا بالمعقول حيث قالوا: أن الرجعة إما أن تراد لاستدامة العقد أو إعادته، فإن أريدت لإعادته لم تجب؛ لأن ابتداء النكاح لا يجب، وإن أريدت لاستدامته لم تجب أيضا لأن له رفعه بالطلاق، ولأن تحريم الطلاق في الحيض كتحريمه في طهر مجامع فيه، ثم لم تجب الرجعة في طهر الجماع كذلك في الحيض([110]).
والمذهب الأول أرجح عملا بحديث ابن عمر-السابق الذكر- وقد بين ابن عبد البر الحكمة من ذلك من عدة وجوه منها:
- أن الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء لأنه المبغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في الطهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر.
- أن الطلاق كره في المحيض لتطويل العدة، فلو طلقها عقب الرجعة من غير وطء كانت في معنى المطلقة قبل الدخول، ولو كانت تبني على عدتها فأراد الرسول r قطع حكم الطلاق بالوطء، واعتبر الطهر هو موضع الوطء، فإذا وطئها حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر كما في الحديث([111]).
[3]- محمد سراج: نظرية العقد والتعسف في استعمال الحق من وجهة الفقه الإسلامي، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية،(دط،دت)، 274.
[5]- انظر، جميل فخري محمد جانم: التدابير الشرعية للحد من الطلاق التعسفي في الفقه والقانون، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، الآردن، ط1، 2009، ص 123.
[6]- وهناك قسم ثالث وهو الطلاق الذي لا وصف له أي غير سني وغير بدعي، وهو في حالة طلاق الصغيرة والآيسة التي بلغت سن اليأس لأن عدتها بالأشهر وليست بالأقراء، فلا ضرر يلحقها ولا ولد يندم على فراقه، وكذلك طلاق الحامل لأن عدتها تكون بوضع الحمل فلا تختلف العدة في حقها حتى ولو كانت تحيض مدة الحمل وطلقها في الحيض فإنه لا يحرم هذا الطلاق أيضا، فإن لم يظهر حملها فطلاقها بدعي، ولأنه إذا طلقها قبل ظهور الحمل فقد يترتب عليه ندم عند ظهور الحمل، وكذلك طلاق المختلعة بمالها لأن دفعها المال يدل على احتياجها للخلاص من الزوج، كذلك يباح طلاق المرأة قبل الدخول لأنه لا عدة عليها، كما يباح الطلاق إذا طلبته زمن البدعة لأن المنع إنما شرع لحق المرأة فإذا رضيت بإسقاط حقها زال المنع. انظر، الشربيني: مغني المحتاج، 3/404. عبد العزيز رمضان سمك: الفُرق بين الزوجين في الفقه الإسلامي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1993، ص 80.
[10]- انظر، مصطفى بن العدوي: أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط1، 1988، ص 13-14.
[13]- انظر، أبوزهرة: الأحوال الشخصية، ص 286-287. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/425-426.حامد عبده الفقي: أحكام الرجعة في الفقه الإسلامي، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2003، ص 99.
[14]- وممن قال بذلك نور الدين عتر في كتابه أبغض الحلال-دراسة لتشريع الطلاق في إطار واقعه عند الأمم في القديم والحديث واصطلاحات الإسلام وحكمته في تشريعه- مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2، 1983، ص 156-160.
[15]- الصابوني: مدى حرية الزوجين في الطلاق، ص 101. وممن قال بذلك أبو زهرة في كتابه الأحوال الشخصية، ص 284.
[25]- النووي: روضة الطالبين، 6/4. الشربيني: المصدر السابق، 3/404. ابن حزم: المصدر السابق،10/176. الغرياني: المرجع السابق، 2/669. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته،7/428.
[27]- انظر، زكي الدين شعبان:الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، ص358-359. محمد علي حسب الله:عيون المسائل الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 149-150.
[46]- اختلف الفقهاء في بدعية الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فذهب مالك إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة، وهو رواية عن أحمد، وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة. انظر، ابن عبد البر: الاستذكار،17/10. ابن رشد: بداية المجتهد، 2/64. ابن قدامة: المغني، 10/331. الشربيني: مغني المحتاج، 3/409.
[48]- قال ابن القيم:" وقوع الثلاث –أي الطلقات الثلاث- بكلمة واحدة اختلف فيه الناس على أربع مذاهب: المذهب الأول: أنه يقع-أي يقع الطلقات الثلاث- وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. المذهب الثاني: أنه يقع طلقة واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس، ذكره أبو داود عنه، وقال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق إذ يقول:خالف السنة فيرد إلى السنة، وهو قول طاووس وعكرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. المذهب الثالث: أنه يفرق بين المدخول بها وغيره، فتقع الثلاث بالمدخول بها، وتقع بغيرها واحدة، وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء. المذهب الرابع: لا يقع الطلاق لأنه بهذه الصيغة بدعة محرمة، والبدعة مردودة، وهذا المذهب حكاه أبو محمد بن حزم وحكي للإمام أحمد فأنكره". ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط7، 1985، 5/247-248. وانظر تفصيل آراء العلماء وأدلتهم بإسهاب في هذه المسألة ومناقشاتهم وردودهم. عبد الكريم زيدان: المفصل ، 8/63 وما بعدها. و عمر سليمان الأشقر وعبد الناصر أبو البصل: مسائل في الفقه المقارن، دار النفائس، الأردن،ط2، 1997، 179 وما بعدها. محمد سعيد رمضان البوطي: محاضرات في الفقه المقارن.
[49]- انظر، الكاساني: المصدر نفسه، 3/137. الحطاب: مواهب الجليل، 4/39. ابن قدامة:المصدر نفسه،10/334.الرملي: نهاية المحتاج، 6/455.
[56]- انظر، محمد سعيد رمضان البوطي:محاضرات في الفقه المقارن، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط2، 1981، ص 100.
[63]- السباعي:شرح قانون الأحوال الشخصية، 1/266. أحمد أبراهيم بك:أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 332 وما بعدها.
[65]- هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مجتهد من تابعي التابعين، ولد سنة 94ه وتوفي سنة 165ه، أجمع العلماء على جلالته وعلو مرتبته في الفقه والحديث، وكان إمام أهل مصر في زمانه، له كتاب في التاريخ وكتاب في مسائل الفقه. ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (دط،دت)، 1/285.
[69]- قال ابن رشد:"واختلفوا في قتل المرأة، وهل تستتاب قبل أن تقتل، فقال الجمهور: تقتل المرأة. وقال أبو جنيفة: لا تقتل، وشبهها بالكافرة الأصلية". بداية المجتهد، 2/459.
[75]- انظر، محمد علي حسب الله: عيون المسائل الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 166. الهادي السعيد عرفة: إساءة استعمال حق الطلاق، ص 235.
[77]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها وإذا كانت حاضنة ولم يكن لها ولي يقبل إيواءها يضمن حقها في السكن مع محضونيها حسب وسع الزوج. ويستثنى من القرار بالسكن، مسكن الزوجية إذا كان وحيدا. تفقد المطلقة حقها في السكن في حالة زواجها أو ثبوت انحرافها".
[78]- لم يضع الفقهاء تعريفا اصطلاحيا للطلاق من غير سبب -فيما قرأت- إلا أنه يمكن تعريفه بأنه: مناقضة قصد الشارع في رفع قيد النكاح في الحال أو المآل، بتطليق الزوج زوجته لغير سبب مشروع، ودون حاجة داعية إليه.
[85]- انظر، السعيد مصطفى السعيد: مدى استعمال حقوق الزوجية، مطبعة الاعتماد، مصر، (دط، دت)، ص 232-233.
[87]- الآلوسي: روح المعاني، تصحيح علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1994، 3/26.
[91]- وعند الشافعي لا ترث لأن الزوجية التي هي سبب الإرث قد زالت بالطلاق البائن كما في حال الصحة. انظر،الغزالي: الوسيط في المذهب، 5/402.
[93]- قد يقال أن الحكم بوقوع طلاق المتعسف على أنه عقوبة له، فإنه في الواقع عقوبة لغيره وهم زوجته وأولادها، وهؤلاء لا ذنب لهم ولا جريرة، فيكون القول بوقوع طلاقه مخالفا لقوله تعالى:"ولا تزر وازرة وزر أخرى"الإسراء: الآية 15. والحقيقة أن وقوع الطلاق بالنسبة للمتعسف إنما هو عقوبة له وحده وليس لزوجته وأولاده لأنه هو الذي يملك الحق وهو الذي تعسف فيه، فإذا أخذ بأحكامه وآثاره فإنه هو المتأثر بهذه الأحكام وتلك الآثار بالدرجة الأولى من وجوب نفقة الزوجة والأولاد وإلزامه شرعا بالعديد من الالتزامات الشرعية التي لم يكن يحسب حسابها كمؤخر الصداق ونحو ذلك، فلا ضرر ولا ضرار يلحق بالزوجة والأولاد ما دامت حقوقهم محفوظة لم تمس، هذا إلى جانب أن الحكم بوقوع الطلاق قد يكون في صالحهم، فقد تنصلح به نفسية الزوج ويتهذب سلوكه إذا عاد إلى زوجته وأولاده فتستقر أحوالهم، وإذا كان الطلاق بائنا فإن الله تعالى يغن كلا من سعته، حيث يقول تعالى:"وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته".النساء: الآية 130. انظر، الهادي السعيد عرفة: إساءة استعمال حق الطلاق، ص 237.
[94]- من الأهمية بمكان التمييز بين التعسف في استعمال الحق ومجاوزة حدود الحق لمعرفة ما إذا كان المطلق إذا خالف الضوابط الشرعية لإيقاع الطلاق مسيئا لاستعماله حقه أم متجاوزا لحدود حقه، فالمتجاوز لحدود حقه لا يستعمل حقا مشروعا له وإنما يتعدى على حرمة حقوق غيره ابتداءً، أو عن طريق استعماله لحقه المشروع. انظر، الهادي السعيد عرفة:إساءة استعمال حق الطلاق، ص87- 88.
[100]- وهذا المعنى ذاته موجود بالنسبة للهازل والسكران فلزم مؤاخذتهما بنحو مؤاخذة من أوقع الطلاق في الحيض، فيقع طلاقهما ويجبران على الرجعة، فإذا أراد أحدهما أن يطلق التزم بطلاق السنة، بحيث لا يوقع الطلاق إلا عند الحاجة إليه، وعند قيام سبب قوي يتدعيه، وبهذا تنضبط أحوال هؤلاء وينضبط سلوكهم، فلا يجرؤ أحدهم ولا غيرهم ممن هو على شاكلتهم أن يعبث بالطلاق وأحكامه. انظر، الهادي السعيد عرفة: إساءة استعمال حق الطلاق، ص 242.
[101]- انظر، ابن عبد البر:الاستذكار، 18/23. ابن رشد: بداية المجتهد، 2/65.الدسوقي:حاشية الدسوقي، 2/362.
[107]- الرملي: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،1993 ،7/6. ابن قدامة: المغني، 10/328.
-
-
-
المحاضرة الرابعة
حق المطلقة في التعويض
أولا: الجانب الفقهي
لم ينازع أحد من الفقهاء في أن المتعة إنما تجب جبرا لما وقع على المرأة من إيحاش وضرر بما فات عليها من الطمأنينة على نظام حياتها في كنف الزوج([1]).
والمتعسف في استعمال حق الطلاق مسيء وإساءته هذه يترتب عليها لحوق ضرر بالمطلقة؛ لأنه في الغالب يطلق لغير حاجة أو سبب يدعو إليه، وهذا الضرر الذي يلحق بالمطلقة قد يكون ضررا نفسيا معنويا يتمثل في الفرقة- وهذا الضرر تشترك فيه المطلقات جميعهن- وقد يكون هذا الضرر ماديا يتمثل في إطالة أمد العدة مما يضيع عليها فرصا سانحة للزواج، وخاصة في الطلاق في الحيض، فإذا أوقع الزوج الطلاق بزوجته فإنه يقع على رأي الجمهور إذا كان بدعيا-كما سبق بيانه- ولا ريب أن الزوج يكون بذلك متعسفا في حق مطلقته مما يلحقها من ضرر، من أجل ذلك رتبت الشريعة الإسلامية على الطلاق أثرا يرمي إلى تخفيف هذا الضرر عن المطلقة وذلك بما تفرضه على الزوج من المتعة لمطلقته كأثر من آثار الطلاق، وبيان ذلك يستدعي التطرق لها في العناصر الآتية:
أ- تعريف المتعة
عرفت المتعة بتعاريف فقهية متقاربة منها:([2])
تعريف المالكية بأنها:"ما يعطيه الزوج للمطلقة تخفيفا للألم الذي حصل لها من طلاقه إياها، ويعطيه المطلق على قدر حاله حسب يسره وعسره"([3]). وعرفها الشافعية بأنها:"مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه بشروط"([4]). إلا أنه يمكن تعريفها بصفة عامة بأنها:"ما يدفعه الرجل لمطلقته بعد الفرقة بينهما"([5]).
ب- مشروعيتها
وردت مشروعيتها في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى:] لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[([6])، وقوله تعالى:] وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[([7])، وقوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[([8]). ووجه الدلالة من عموم هذه الآيات أن الله تعالى أوجب المتعة لجميع المطلقات، المدخول بهن وغير المدخول بهن، سواء سمي لهن مهرا أم لم يسمّ لهن مهرا.
وقد استدل فريق من الفقهاء بعموم هذه الآيات على وجوب المتعة لكلّ مطلقة، وذهب فريق آخر إلى أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضا لها، وقال آخرون: إن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك عوضا لها عن المتعة([9]).
وقد ذهب الأستاذ محمد بلتاجي إلى قول جمع به بين هذه الآيات والآراء حين قال([10]):"إذا تأملنا في مجموع الآيات السابقة في المتعة فإننا ننتهي إلى أن كل مطلقة- دخل بها أو لم يدخل- تجب لها المتعة، أما المدخول بها فقد وجبت لها المتعة بالآية الكريمة: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[([11])، وأما غير المدخول بها فإن طلقت قبل أن يسمى لها المهر فقد وجبت لها المتعة بالآية الكريمة ]لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[([12])، وأما إن كان سمي لها المهر فمتعتها الواجبة هي ما أوجبه الله تعالى من نصف المسمى، وذلك في قوله تعالى:] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ[([13]).
ويلاحظ من قوله: أنه قد سمّى نصف ما فرض لها في حالة تسمية المهر -وقبل المسيس- متعة([14])، لأن الآية في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[ ([15]) قد أسقطت عنها العدة وأوجبت لها المتعة، فكان لا بد من حمل مفهوم المتعة هنا على ما فصلته الآية في قوله تعالى:] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ[([16]) والتي أوجبت نصف المهر لها، ولها بعد المسيس جميع الفرض أو مهر المثل([17]).
ويبين ابن العربي الحكمة في فرض النصف قبل المسيس، والكل بعده أو مهر مثلها، فيقول:"والحكمة في ذلك أن الله تعالى قابل المسيس بالمهر الواجب ونصفه بالطلاق قبل المسيس، لما لحق الزوجة من رخص العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد، فإذا طلقها قبل المسيس والفرض ألزمه الله المتعة كفؤا لهذا المعنى"([18]).
ج- مذاهب العلماء في متعة المطلقة بالإرادة المنفردة للزوج
اختلف الفقهاء في حكم متعة الطلاق للمطلقات بطلاق يوقعه الزوج بإرادته المنفردة، ولكلّ أدلته فيما ذهب إليه([19])، وهذه مذاهبهم كالآتي:
المذهب الأول: ذهب الحنابلة - في رواية-([20]) والمالكية -في قول-([21]) والظاهرية([22]) إلى أن المتعة واجبة لكلّ مطلقة، سواء سمّي لها مهر أم لم يسمّ، وسواء طلّقت قبل الدخول أم بعده.
المذهب الثاني: ذهب المالكية في المشهور([23])، والشافعية -في القديم-([24]) إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة.
المذهب الثالث: ذهب-الشافعية في الجديد-([25]) و الحنابلة -في رواية-([26]) إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة ما عدا المطلقة قبل الدخول و بعد تسمية المهر.
المذهب الرابع: ذهب الحنفية([27]) و الشافعية -في القديم-([28]) و الحنابلة في الصحيح([29]) إلى أن المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول و قبل تسمية المهر إلا أن الحنفية والحنابلة - في قول- أوجبوا المتعة للمطلقة قبل الدخول في نكاح لم يسمّ فيه المهر وإنما فرض بعد العقد.
ويمكن الترجيح- والله أعلم- بالتفريق بين حالتي وجوب المتعة واستحبابها:
- الوجوب: تكون المتعة واجبة إذا طلقت المرأة قبل الدخول ولم يفرض لها صداق، وذلك بنص الآية: ]لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[([30]).
- الاستحباب: وتكون مستحبة في الطلاق قبل الدخول وبعد الفرض، وكذا في الطلاق بعد الدخول.
ثانيا: الجانب القانوني
لم ينص المشرع الجزائري على المتعة المقررة شرعا لمن طلقها زوجها كما هو مذهب الجمهور، وإنما أكدتها الاجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا بوصفها تعويضا عن الطلاق التعسفي بمفهومه الحديث، وليست أثرا من آثار الطلاق.
وهذا ما جاء في القرار الصادر بتاريخ 29/12/1986 على أنه:"من القواعد المقررة شرعا أن المتعة لمن طلقها زوجها وليست لمن طلقت نفسها بحكم، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعدّ مخالفا للنصوص الشرعية في فرض المتعة. ولما كان من الثابت في قضية الحال أن الزوجة أقامت دعوى التطليق واستجابت المحكمة لطلبها ووافق المجلس عليه الذي يعدّ وحده عقابا للزوج بسبب إهماله، فإن القضاء بالمتعة للمطلقة يعدّ مخالفا للنصوص الشرعية. ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار جزئيا فيما يخص المتعة"([31]).
غير أن هذا القرار لم يفرق بين استحقاق المرأة للمتعة (التعويض) بسبب طلبها التطليق لضرر أصابها، أو التطليق خلعا بعوض أو بغير عوض، ومنه فلا يجب لها التعويض.
على أن المتعة المقررة شرعا إنما تجب لكل مطلقة، سواء كان الطلاق تعسفيا أم كان بوجه مشروع.([32]) وإنما وقع هذا اللبس في موجب المتعة بحكم الاختلاف في مفهوم التعسف في الطلاق بين ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وبين تكييفه القانوني على أنه الطلاق بغير مبرر، ومن ثم يحكم بالمتعة (بمعنى التعويض)، بخلاف ما ذهب إليه الفقه الإسلامي من أن المتعة إنما تجب لكل مطلقة-على رأي القائلين بوجوبها-.
الفرع الرابع: مدى حق المطلقة تعسفيا في التعويض في قانون الأسرة الجزائري
أولا: طبيعة الإرادة المنفردة للزوج في إيقاع الطلاق
انطلاقا من أن الطلاق جعل بيد الرجل كحق أصيل له، إلا أن هذا الحق غير مطلق، إذ يمارسه الرجل وفق ضوابط شرعية ووفق ما تدعو إليه الحاجة، وبذلك لا يكون متعسفا في استعمال حقه في الطلاق بوجه عام.
إلا أن استعمال الرجل لهذا الحق يختلف في طبيعته عن نظرية الحق في القانون المدني وفق المادة 124 مكرر والتي تنص على أنه:"يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لا سيما في الحالات الآتية:
- إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
- إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة إلى الضرر الناشئ للغير.
- إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة"([33]).
أي أن صاحب الحق المخول له قانونا إذا ما استعمله في حدود ما ذكر في هذه المادة يكون متعسفا في استعمال الحق، وبالتالي يُحمّل المتعسف مسؤولية تعسفه ويلزم بالتعويض. فمسألة الإثبات في وجود التعسف تقع على الطرف المتضرر، فإذا ما استعمل الشخص حقه القانوني في إحداث أثر قانوني، فالأصل أنه لا يلام على استعماله لهذا الحق إلا إذا ثبت أنه متعسف فيه للإضرار بالغير، وعلى المتضرر إثبات التعسف سعيا وراء تعويضه، ولا يلزم من استعمل حقه بإثبات مبررات استعماله لهذا الحق وفقا للمادة 124 مكرر.
ويكمن الاختلاف بين حق الزوج في استعماله الحق في الطلاق وبين الحق في القانون المدني في مسألة الإثبات، أن الزوج يعدّ بصفة آلية متعسفا في استعمال الحق تجاه الزوجة إلا إذا أثبت هو عكس ذلك. إذ أنه من طبيعة خاصة لأن مصدره العصمة الزوجية المستمدة أساسا من الشريعة الإسلامية، وأن تعويض الزوجة في حال الطلاق لا ينطلق من المادتين 124 و 124 مكرر من القانون المدني، وإنما مصدره مسؤولية الزوج في الطلاق كونه صاحب العصمة الزوجية شرعا.
وهذا ما أكدته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 22/2/2000 جاء فيه ما يلي:"إن الحكم بالتعويض عن الضرر طبقا لقواعد المسؤولية التقصيرية لا يمكن أن يشمله التعويض عن الطلاق"، وفي تأكيدها على هذا المبدأ جاء في القرار:"لكن وحيث أن التعويض والنفقة المحكوم بهما هي ناتجة عن مدى تحمل الزوج مسؤولية الطلاق وتقدير نفقة الإهمال وهذه المبالغ لا تدخل في تعويض الأضرار الناتجة عن التعسف الذي يكون بنية إلحاق الضرر بالغير، كما لا تدخل في التعويض الناتج عن المسؤولية التقصيرية وهي الأضرار المنصوص عليها في المادتين 41 و124 من القانون المدني.
وبالتالي فلما كان مبلغ التعويض والنفقة المحكوم بهما لا تدخل تحت الأضرار المنصوص عليها في هاتين المادتين فإن قضاة الاستئناف لم يخالفوا القانون، وأن قرارهم يكون سليما، غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الطاعنة إن كان قد لحقها ضرر ناتج عن التعسف بمفهوم المادة 41([34]) من القانون المدني أو لحقها ضرر ناتج عن المسؤولية التقصيرية طبقا لمقتضيات المادة 124 فعليها أن تثبت الضرر المذكور في دعوى مستقلة وتطلب التعويض مقابل ذلك"([35]).
وفي ذلك تأكيد على أن الحق الأصيل المخول للزوج في إيقاع الطلاق من طبيعة خاصة يختلف عن الحق المنصوص عليه في القانون المدني([36]).
[3]- عبد العزيز حمد آل مبارك الإحسائي: تدريب السالك إلى أقرب المسالك، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1988، 3/160.
[9]- وخلاف الفقهاء حول حكم متعة المطلقة بين مدخول بها وغير مدخول، وبين من سمي لها مهرا أولم يسمّ مشهور في كتب الفقه الإسلامي. انظر تفصيلا أكثر في ذلك. الجصاص: أحكام القرآن،1/428.
[14]- والمعتبر في تقدير المتعة أن تكون بحسب حال الزوج، وقيل يعتبر بحالهما، فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب، وإن كانا فقيرين فلها الأدنى، وإن كانا مختلفين فلها الوسط، وفي كل ذلك يشترط أن لا تزيد عن نصف مهر المثل.الجصاص: أحكام القرآن، 1/433. السباعي:شرح قانون الأحوال الشخصية، 1/197.
[19]- راجع أدلة ما ذهب إليه كل فريق: عبد الكريم زيدان: المفصل، 7/129 وما بعدها. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 7/316 وما بعدها.
[21]- محمد الشنقيطي الموريتاني: تبيين المسالك لتدريب السالك إلى أقرب المسالك، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان،ط1، 1988، 3/160.
[23]- انظر،ابن العربي: أحكام القرآن، 1/217. القرافي: الذخيرة، 4/448. عبد الكريم زيدان: المفصل، 7/130.
[32]- يجب أن يلاحظ الفرق بين طلب المرأة التطليق للضرر الذي يوجب لها الحق في المتعة، وبين طلب المرأة الفرقة عن طريق الخلع أو الطلاق على مال، فلا تجب لها المتعة في هذه الحال.
-
-
-
المحاضرة الخامسة:
التعويض عن الطلاق التعسفي
سبق الحديث عن تقرير الشريعة الإسلامية للمتعة كتعويض وحقّ للمطلقة، سواء كان الطلاق تعسفيا بالمفهوم الحديث- بغير مبرر- أم كان على الوجه المشروع. وقد نص الفقهاء على ذلك-كما سبق بيانه- فمنهم من أوجبها في كل صور الطلاق كالظاهرية، ومنهم من أوجبها في كل طلاق كالشافعية ما عدا المطلقة قبل الدخول، وهو قول عند المالكية رجحه القرطبي([1]). إلا أن أساس التعويض عن الطلاق بالمفهوم الحديث يختلف عن الأساس في تقرير المتعة، وبيان ذلك كالآتي:
الفرع الأول: أساس التعويض عند التعسف
إن الأخذ بتشريع الطلاق، وإساءة بعض الأفراد لهذا الحق لا يدل على فساد التشريع نفسه، وإنما هو دليل على فساد فعلهم وتفكيرهم، وهذا يقتضي التوجيه والتوعية والتخير من المذاهب القيود التي تحد من غلوائهم([2]). لذلك نص الفقهاء على أن الرجل إذا طلق زوجته في مرض موته اعتبر بذلك فارا من إرثها فيه، وقالوا أنه يعامل بنقيض قصده فحكموا باستحقاقها لنصيبها في تركته، أما إذا ماتت قبله فإنه يعامل بإقراره ولا يرث منها.
وقد ألحقوا بالمريض مرض الموت المرتد في هذا، وحكموا بتوريث زوجته إذا مات أو قتل وهي في عدته لأنه يصير فارا وإن كان وقت الردة صحيحا([3]).
وهذه عقوبة -في حدّ ذاتها- قررها الفقهاء في حق المتعسف في استعمال حق الطلاق، وبهذا فإنهم قد فوتوا عليه قصد المضارة وأعطوها الحق الذي كان يقصد إضاعته عليها، وفي هذا إشارة إلى أن الطلاق لا يلجأ إليه إلا عند وجود الحاجة التي تقتضيه.
والناس قديما كانوا أكثر تمسكا بالدين وفهما لمقاصده وأخذا بأحكامه، ولذا فإنهم لم يكونوا في حاجة إلى تدخل الحاكم لمراقبة استعمال هذا الحق ومجازاة المسيء على إساءته بالحكم عليه بما يعوض وقع الإساءة على نفس الآخر. وقد تغيرت أخلاق الناس وتبدلت ظروف المجتمع؛ لذايجب أن يلاحظ عند تخير الأحكام التي يلزم بها ولاة الأمر أفراد الناس ويطبقونها عليهم.
أولا: تعريف التعويض
لم يتعرض فقهاء الشريعة والقانون المدني لتعريف التعويض بوضع نصوص محددة تبين تعريفه، وإنما يتعرضون مباشرة لبيان طريقته وتقديره عند تعرضهم للحديث عن جزاء المسؤولية، وذلك ربما يرجع إلى أن التعويض معناه واضح لا يحتاج إلى زيادة إيضاح، فهو يعني عندهم: ما يلتزم به المسؤول في مسؤولية مدنية تجاه من أصابه بضرر فهو جزاء المسؤولية؛ أي أنه إذا وقع عمل غير مشروع نشأ عنه حق في تعويض الضرر الذي نجم عنه، أي مقابلة هذا الضرر بمال عوضا عنه([4]). على نحو ما جاء في المادة 124 من القانون المدني الجزائري:"كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض"([5]).
غير أن فقهاء الشريعة الإسلامية لا يستعملون اصطلاح التعويض عند الحديث عن جبر الضرر، وإنما يستعملون اصطلاح الضمان أو التضمين، فالضمان عندهم يحمل في طياته ما يقصد به من اصطلاح التعويض عند فقهاء القانون المدني.
ثانيا: تعريف الضمان بمعنى التعويض
ورد الضمان بهذا المعنى على لسان الفقهاء ومن ذلك ما ذكره الإمام الغزالي من أن الضمان هو:"واجب ردّ الشيء أو بدله بالمثل أو بالقيمة"([6]). وذكر الشيخ علي الخفيف أن الضمان بمعناه الأعم في لسان الفقهاء هو:"شغل الذمة بما يجب الوفاء به من مال أو عمل، والمراد ثبوته فيها مطلوبا أداؤه شرعا عند تحقق شرط أدائه"([7]). وعرفه وهبة الزحيلي بأنه:"الالتزام بتعويض الغير عما لحقه من تلف المال أو ضياع المنافع، أو عن الضرر الجزئي أو الكلي الحادث بالنفس الإنسانية"([8]). وهذا التعريف يتلاءم مع عموم نظرية الضمان الشاملة للمسؤوليتين المدنية والجنائية.
وعرفه مصطفى الزرقا بأنه:"التزام بتعويض مالي عن ضرر للغير"([9]). وهو أوجز وأوضح التعاريف المذكورة، وأقرب تعريف في الدقة إلى هذا المعنى تعريف الغزالي المذكور.
وعرفه محمد سراج بقوله:"هو شغل الذمة بحق مالي أوجب الشارع أداءه جبرا لضرر لحق بالغير في ماله أو بدنه أو شعوره سواء نشأ هذا الضرر بمخالفة العقد أو شرط من شروطه، أو بارتكاب فعل أو ترك حرمه الشارع ذاتا أو مآلا"([10]).
ومن خلال هذا التعريف الأخير يتبين أن الضمان شرع للجبر لا للعقوبة، ولذا لم يفرق الفقهاء في الضمان بين المميز وغيره والجاد والهازل والعامد والمخطئ؛ لأن الخطأ لا ينافي عصمة المحل، فكل فعل ضار يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير يعدّ مخالفا للشرع، وإذا كان الضرر ممنوعا في الشرع فإنه لا بد من رفعه.
فموجب التعويض في الفقه الإسلامي هو الواقعة المنشئة للحق في التعويض؛ أي الواقعة التي كانت سببا لنشوء الحق في التعويض([11]). ويكون ذلك إما بالتعدي الذي يقع من الفاعل، وإما بإساءة استعمال الحق بوجه عام.
ومن جملة ما سبق بيانه؛ يمكن تعريف التعويض بأنه:"عقوبة مالية تجب على الطرف الذي أوقع الضرر بالطرف المتضرر، لما أصابه من ضرر نتيجة استعمال الطرف الأول لحقه بوجه غير مشروع"([12]). أو هو:"المال الذي يُحكم به على من أوقع ضررا على غيره في نفس أو مال"([13]).
ثالثا: الاختلاف في الحكم بالتعويض
لقد أخذ الفقهاء القدامى بمبدأ التعويض عن الطلاق التعسفي من خلال إقرارهم لمتعة الطلاق، أما الفقهاء المعاصرون، فقد اختلفوا في حكم التعويض عن الطلاق التعسفي على مذهبين بناء على الخلاف السابق بينهم وهو أن الأصل في الطلاق الإباحة، ومن ثم لا يعدّ الزوج المطلّق متعسفا، أم أن الأصل في الطلاق المنع، ومن ثم فإن المطلّق لغير سبب يعدّ متعسفا.
حيث ذهب فريق من العلماء المعاصرين([14]) إلى الأخذ بمبدأ التعويض عن الطلاق التعسفي الذي يطلق فيه الزوج زوجته دون سبب ظاهر يدعو إلى هذا الطلاق. يقول السباعي في التعويض:"وهذا حكم جديد لم يكن معمولا به من قبل وهو حكم عادل"([15]). وإن كان مفوضا للزوج بحسب أحكام الشريعة، لكنه مقيد عند الفقهاء بأن يكون لحاجة تدعو إليه، فإذا طلق الزوج بدون سبب ظاهر يدعو إلى الطلاق كان مسيئا في استعمال الحق المخول له شرعا، فيكون ملزما بتعويض الضرر الناتج عنه سواء كان هذا الضرر ماديا أو أدبيا. وقد استدلوا بجملة من الأدلة منها:
1- العمل بمبدأ السياسة الشرعية العادلة تأبى أن تصبح المرأة معرضة للفاقة والحرمان، بسبب تعنت الزوج وظلمه في ذلك الطلاق، وتبيح لولي الأمر أن يقيد المباح، وأن يفرض عقوبة أو جزاء على من أساء([16]).
2- قياس التعويض على المتعة الواجبة للمطلقة على رأي بعض الفقهاء، والمستحبة عند فريق آخر من الفقهاء، ورغب فيها القرآن، وجعلها بالمعروف([17]).
3- إن الطلاق وإن كان حقا للرجل، إلا أن هذا الحق مقيد بأن تدعو الحاجة إليه، وبأن لا يترتب على استعماله الإساءة إلى الغير أو الإضرار بهم، فإذا أساء الزوج استعمال هذا الحق وجب عليه التعويض لمن تضرر من ذلك([18]).
4- قياس التعويض عن المخالعة في الإسلام، حيث أباحت الشريعة الإسلامية للزوج أن يأخذ من زوجته العوض المتفق عليه، أو يسقط شيئا من مهرها إذا رضيت بذلك مقابل طلاقها؛ لذلك فإن للزوجة أن تأخذ من زوجها تعويضا متى ارتضاه([19]).
كما ذهب فريق آخر من العلماء المعاصرين إلى عدم الأخذ بمبدأ التعويض عن الطلاق التعسفي([20])، يقول أبو زهرة في منع التعويض:" والحق أن الأصل في الطلاق هو الحظر ولا يباح إلا للحاجة، ولكن هذه الحاجة قد تكون نفسية، وقد تكون مما يجب ستره، وهي في كل أحوالها أو جلها لا يجوز أن تعرض بين أنظار القضاء ويتنازعها الخصوم فيما بينهم شدا وجذبا، وقد أخطأ من حكم بالتعويض لأجل الطلاق، ولو كان ثمة شرط يوجب التعويض، إذ يكون شرطا فاسدا فيلغى"([21]).
وقد استدلوا على ذلك بجملة أدلة منها:
1- أن الطلاق حق مباح للزوج في الشريعة، لا يتقيد في استعماله بوجوب الحاجة التي تدعو إليه، فمن طلق زوجته دون سبب ظاهر، فهو مستعمل حقه الشرعي، ولم تكن منه إساءة تستوجب مسؤولية عن الضرر الذي يلحق الزوجة بسبب الطلاق([22]).
2- إن الطلاق وإن كان الأصل فيه الحظر والمنع، ولا يباح إيقاعه إلا للحاجة، لكن هذه الحاجة قد تكون نفسية لا تجري عليها وسائل الإثبات، وقد تكون مما يجب ستره، بحيث لو عرض على القضاء، لكان في ذلك تشهير بكرامة الزوجين ما يتضاءل بجانبه أي اعتبار مادي([23]).
3- إن القول بإلزام الزوج بالتعويض، يترتب عليه إلزام الزوج بالعيش مع زوجته وهو كاره لها، وهذا ما يتعارض مع الأهداف العليا من الزواج، ويبعده عن مقاصده، ويجعله إرادة مفروضة على علاقة الزوجين([24]).
4- إن القول بالتعويض يؤدي إلى منع إيقاع الطلاق الذي لا ظلم فيه، فقد يكون الدافع إلى الطلاق ريبة أحاطت بالزوجة، فطلقها الزوج خشية العار، وسترا عليها، وليس من العدل أن تعوض في هذه الحالة([25]).
5- لا يوجد في القرآن أو السنة دليل يقضي بتعويض الطلاق، بخلاف حقوق المطلقة الأخرى([26]).
وقد رجح الكثير من الباحثين بأن الرأي القائل بعدم التعويض هو الحكم الصحيح الذي يتفق مع المبادئ الإسلامية([27]).
ولكن تعليله بأن الطلاق حق مطلق للزوج في الشريعة الإسلامية غير صحيح؛ لأن الراجح عند أكثر الفقهاء أن الأصل في الطلاق المنع، ولا يباح إلا للحاجة([28]).
والتعليل الصحيح لهذا الحكم أن يقال: إن الطلاق وإن كان الأصل فيه الحظر والمنع ولا يباح إيقاعه إلا للحاجة، لكن هذه الحاجة قد تكون نفسية لا تجري عليها وسائل الإثبات، وقد تكون مما يجب ستره، بحيث لو عرضت على القضاء لكان في ذلك من التشهير والازدراء بكرامة الزوجين ما يتضاءل بجانبه أي اعتبار مادي، وفي إلزام الزوج بالتعويض إرغام له على استمرار معيشة مشتركة لا تحقق المثل الأعلى الذي أقامه لنفسه، ومثل هذا الإرغام يخرج الزواج عما شرع له، ويجعله علاقة مفروضة على إرادة الطرفين، وليست قائمة على التقدير المتبادل المبني على الرغبة المشتركة، ومثل هذه الحالة تأباها كرامة الزوجين بلا شك.
وأن ما يلزم المطلقة من التبعات المالية التي تترتب على الطلاق، والتي تستفيد منها الزوجة، كدفع مؤخر الصداق والقيام بالإنفاق على المطلقة طوال مدة العدة والمتعة لمن تجب لها من المطلقات تعتبر كتعويض للزوجة عن الضرر الذي يكون قد لحقها بسبب الطلاق، فلا يكون هناك حاجة إلى تقرير تعويض آخر زيادة على ما أوجبه الشارع وألزم المطلق به([29]).
موقف المشرع الجزائري
ذهب المشرع الجزائري إلى الحكم بالتعويض في الطلاق التعسفي، طبقا لنص المادة 52 والتي نصت على أنه:"إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها".
حيث يتضح من خلال هذا النص أن تعسف الزوج في الطلاق سبب للحكم بالتعويض. إلا أنه يتعين على القاضي وهو يبحث عن وجه التعسف في الطلاق ألا يجعل من هذا التعسف الذي ورد بالنص قيدا على الطلاق الذي شرعه الله تعالى إذا قامت مبرراته، كما أنه لا يجوز أن يكون الغلو في تقدير التعويض مبالغا فيه بالقدر الذي يعجز عنه الرجل.
وقد فسرت الاجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا التعويض بمعنى المتعة المقررة شرعا، غير أنها تختلف في تفسير ذلك مع وجه تشريعها (المتعة) في الفقه الإسلامي، ذلك أن المتعة -كما سبق بيانه- إنما شرعت لكل مطلقة تخفيفا عن ألم فراق زوجها لها، بينما ذهب الاجتهاد القضائي إلى أن المتعة تمنح بوصفها تعويضا إذا ثبت للقاضي تعسف الزوج في طلاقها من غير مبرر.
إذ يتضح هذا جليا من خلال عدم نص المشرع على حق المرأة المطلقة في المتعة المقررة لها شرعا، سواء وقع الطلاق تعسفيا أم على وجه مشروع.
كما أن المحكمة العليا -في قراراتها المختلفة- أكدت بأنه من الأحكام الشرعية أن للمطلقة تعسفيا نفقة العدة ونفقة الإهمال ونفقة المتعة التي تعتبر بحدّ ذاتها تعويضا يحكم به القاضي من جراء الطلاق التعسفي. وذلك ما جاء في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 8/4/1985 ما يلي:"إذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية تقرر للزوجة التي طلقها زوجها متعة تعطى لها تخفيفا عن ألم فراق زوجها لها، وهي في حدّ ذاتها تعتبر تعويضا، فإن القضاء بما يخالف أحكام هذا المبدأ يعتبر خرقا لأحكام الشريعة الإسلامية. لذلك يستوجب نقض القرار الذي قضى للزوجة المطلقة بدفع مبلغ مالي لها باسم متعة وبدفع مبلغ آخر كتعويض"([30]). ومن ثم فلا فرق بين المتعة والتعويض إذا ثبت تعسف الزوج في الطلاق.
حيث يُفهم من هذا القرار -الذي يعد اجتهادا قضائيا- أن المتعة إنما يقصد بها التعويض عن الطلاق التعسفي، وذلك للتخفيف عليها من ألم الفراق. فإذا لم يثبت للقاضي وجه التعسف في الطلاق، فإن المطلقة لا تستحق المتعة (بمعنى عدم التعويض). بدليل ما جاء أيضا في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 27/1/1986 وفيه:"من المقرر شرعا وقضاء أن المتعة تمنح للزوجة مقابل الضرر الناتج بها من الطلاق غير المبرر، ويسقط بتحميلها جزء من المسؤولية فيه. ولما كان ثابتا-في قضية الحال- أن القرار المطعون فيه قضى بإسناد الظلم إلى الزوجين معا، فلا سبيل لتعويض أحدهما ومنح المتعة للزوجة، ومتى كان كذلك استوجب النقض جزئيا فيما يخص المتعة"([31]).
في حين أقرّت الشريعة الإسلامية المتعة لكلّ مطلقة (على خلاف بين العلماء في وجوبها أو استحبابها) تخفيفا عن ألم فراق زوجها لها، وأن التعويض على رأي بعض الفقهاء المعاصرين-القائلين به- إنما تستحقه المطلقة تعسفيا. ومن هنا يمكن القول بأن المتعة شرعت بدلا عن الطلاق، وليس تعويضا عن الضرر.
وعلى هذا يستوجب -المقام- تفصيل القول في بيان العلاقة بين التعويض عن الطلاق التعسفي ومتعة الطلاق، من خلال بيان أوجه الشبه والاختلاف بينهما، وهل تغني المتعة عن التعويض عن الطلاق التعسفي، وبيان ذلك يكون وفق التفصيل الآتي:
الفرع الثاني: العلاقة بين متعة الطلاق والتعويض عن الطلاق التعسفي
قد يشتبه الحق المالي للمطلقة بين المتعة والتعويض، وهو ما يلاحظ من خلال ما جاءت به بعض الاجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا التي لم تفرق في ذلك، ولذلك لا بد من بيان أوجه الشبه والاختلاف بين المتعة والتعويض، وذلك بإيجاز فيما يلي:
أولا: أوجه الشبه والاختلاف بين المتعة والتعويض
أ- أوجه الشبه بين المتعة والتعويض
هناك نقاط تتفق فيها المتعة مع التعويض عن الطلاق التعسفي يمكن ذكرها فيما يلي:
1- إن كلا من المتعة والتعويض عن الطلاق التعسفي يجبان بعد الطلاق البائن، الذي يزيل الحل بين الزوجين، لذلك فالمطلقة رجعيا لا تستحق المتعة ولا التعويض إلا بعد انقضاء العدة([32]).
2- إن كلا من المتعة والتعويض يتفق على مقدارها الزوجان، فإن اختلفا قدرها القاضي.
3- اختلف الفقهاء ورجال القانون في بيان الحد الأعلى والأدنى لكل من المتعة والتعويض.
4- إن كلا من المتعة والتعويض وجبا جبرا لخاطر المرأة وتخفيفا لها عن آلامها، وتعويضا لها عما أصابها من ضرر بإيقاع الطلاق عليها.
5- إن كلا من المتعة والتعويض لا يؤثران على الحقوق الزوجية للمرأة كالمهر والنفقة.
ب- أوجه الاختلاف بين المتعة والتعويض
تختلف المتعة عن التعويض بعدة أمور، و بها تتميز المتعة عن التعويض وهي:
1- إن المتعة ثبتت بنصوص صريحة واضحة الدلالة من القرآن الكريم والسنة النبوية والأثر عن الصحابة والتابعين، أما التعويض فهو أمر اجتهادي مختلف فيه، استند القائلون به على نظرية التعسف، والتي بنيت مشروعيتها على أدلة من القرآن والسنة.
2- تجب المتعة بمجرد الطلاق، ولكلّ مطلقة عند الأخذ بأوسع المذاهب التي توجب المتعة لكل مطلقة، بينما التعويض لا يجب إلا إذا كان الطلاق تعسفيا.
3- إن المتعة تجب في جميع حالات الفرقة سواء كانت طلاقا أم فسخا، وسواء أكان الطلاق من الزوج أم من القاضي، أما التعويض فإنه يجب في حالة واحدة، وهي تعسف الزوج في إيقاع الطلاق.
4- إن المتعة لا تجب إذا كانت الفرقة من قبل الزوجة (عن طريق الخلع)، أما التعويض عن الفرقة إذا كانت من قبل الزوجة وألحقت الضرر بالزوج، فقد أوجب بعض الفقهاء التعويض عليها لزوجها([33]).
5- إن المتعة تجب للمطلقة بمجرد الطلاق من غير أن يبدي المطلق الأسباب التي دفعته للطلاق، أما التعويض فإنه يجب إذا لم يكن هناك سبب مشروع للطلاق، ولذلك أباحت القوانين للمطلق أن يدافع عن نفسه، فيذكر الأسباب التي دفعته للطلاق([34])، فإن كانت أسبابا معتبرة لم يحكم بالتعويض([35]).
ثالثا: العلاقة بين التعويض عن الطلاق التعسفي ومتعة الطلاق
بناء على نظرية التعسف في استعمال الحق التي أخذ بها الفقهاء القدامى وطبقوها في أحكامهم-مع أنها لم تكن معروفة عندهم بهذا الاسم- فإن في إيجاب المتعة للمطلقة تطبيقا عمليا لها، سواء أوقع الرجل الطلاق لسبب أم لغير سبب مشروع؛ لأن الأصل في الطلاق الحظر، فإن طلق الرجل زوجته بدون سبب، فقد استعمل حق الطلاق الممنوح له استعمالا مناقضا لما شرع هذا الحق له، وبذلك يكون قد تعسف باستعمال حقه.
أما إذا استعمل هذا الحق لحاجة أو لسبب معين فإنه لا شك أن الضرر الذي يلحق بالمرأة بوقوع الطلاق أكبر من المصلحة التي يجنيها الزوج منه، خصوصا وأن الصبر على سوء خلق الزوجة أولى من طلاقها، وإذا كان الضرر أكبر من المنفعة كان الرجل متعسفا في استعمال حق الطلاق، ومن ثم وجب عليه الجزاء المتمثل في المتعة، والتي تعتبر في حدّ ذاتها تعويضا يجب للمطلقة على مطلقها جبرا لخاطرها المنكسر بالطلاق، وتسلية لها عن ألم الفراق وتخفيفا من إيحاش الطلاق، وهذا ما علل به العلماء سبب وجوب المتعة.
ومنه يتبين أن المتعة إنما هي تعويض للمطلقة عن الضرر الذي لحقها، وهي الصورة الشرعية والعلاج الفقهي لتعويض المرأة عن الطلاق، وللتخفيف عما أصابها من أضرار مادية ومعنوية، وأن هذه المتعة شاملة لكل مطلقة، وخاصة إذا أخذنا بأوسع المذاهب في هذا الموضوع وهو قول الإمام أحمد ورأي الظاهرية وابن جرير الطبري وعدد من الصحابة والتابعين، وأنها واجبة قضاء على كل مطلّق، ويلزمه القاضي بها([36]). يقول في ذلك أحمد أبو ليل:"وما المتعة في الحقيقة إلا تعويض للمرأة، لما لحقها من إيحاش وضرر بالطلاق"([37]).
الفرع الثالث: الاكتفاء بالمتعة عن التعويض
بعد بيان أن المتعة في حقيقتها هي تعويض عما لحق المطلقة من ضرر عند الفقهاء القدامى، وبالتالي فإنها تغني عن التعويض عن الطلاق التعسفي، وقد اختلف العلماء المعاصرين في هذه المسألة على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب كثير من الفقهاء المعاصرين إلى أن المتعة تغني عن التعويض عن الطلاق التعسفي، يقول عبد الرحمن الصابوني في ذلك:"ونرى أن يكون هذا التعويض، المتعة التي شرعها الله"([38]).
بل إن من العلماء من يرى بأن المتعة تحقق المقصود من التعويض بصورة أشد وأقوى، وتحفظ للمرأة كرامتها التي قد تمس قبل الحكم بالتعويض، حيث يقول علي حسب الله:"ويقترح بعض المفكرين أن يكون للمرأة على الزوج تعويض إذا أساء استعمال حقه في الطلاق ليفكر في عاقبة أمره قبل أن يقدم على تطليق امرأته، والشريعة العادلة أرفق بالمرأة وأرحم وأسبق إلى ما فكروا فيه، فقد أوجبت لها هذا التعويض باسم المتعة-أي الترفيه وتخفيف الألم- سواء أساء الرجل في استعمال حقه أم أحسن، لأن في استقلاله بالطلاق إساءة لها، وإيحاشا على كل حال"([39]).
كما ذهب البعض إلى أن القوانين التي أخذت بمبدأ التعويض قد تعسفت في ذلك، ويرون أن العدول عن مبدأ التعويض إلى الأخذ بنظام المتعة أولى ، حيث أن المتعة تغني عن التعويض ولا تعسف فيها([40]).
المذهب الثاني: ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن المتعة لا تغني عن التعويض عن الطلاق التعسفي، ويرون أن المتعة إنما تجب للمطلقة قبل الدخول والتي لم يسمّ لها مهر، وتستحب لغيرها، والتعويض يجب لكل مطلقة مادامت لا يد لها في إيقاع الطلاق؛ لأن الطلاق إن وقع غالبا ما يكون لاختلاف الزوجين فيما بينهما، وهي طرف فيه، لكن قد يكون السبب المباشر في الطلاق تصرفات الزوج اللامسؤولة، مما يترتب عليه ردّ فعل الزوجة الرافضة فينشأ الخلاف. وبذلك يظهر بأن التعويض يجب لمن لا متعة واجبة لهن، فلا تغني المتعة بذلك عن التعويض؛ لأنها تجب لفئة مغايرة عن تلك التي يجب لها التعويض([41]). وفي ذلك يقول توفيق أبو هاشم:" أرى أن المتعة لا تغني عن التعويض والله أعلم"([42]).
موقف المشرع الجزائري
يفهم من مجموع الاجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا بخصوص التعويض أنه يحكم بالمتعة لكل مطلقة طلاقا تعسفيا- أي غير مبرر- ويحكم بالتعويض بدعوى مستقلة عن الضرر الذي لحق المطلقة، وهذا ما أكدته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 22/2/2000 والذي جاء فيه ما يلي:"إن الحكم بالتعويض عن الضرر طبقا لقواعد المسؤولية التقصيرية لا يمكن أن يشمله التعويض عن الطلاق"، وفي تأكيدها على هذا المبدأ جاء في القرار:" لكن وحيث أن التعويض والنفقة المحكوم بهما هي ناتجة عن مدى تحمل الزوج مسؤولية الطلاق وتقدير نفقة الإهمال وهذه المبالغ لا تدخل في تعويض الأضرار الناتجة عن التعسف الذي يكون بنية إلحاق الضرر بالغير، كما لا تدخل في التعويض الناتج عن المسؤولية التقصيرية وهي الأضرار المنصوص عليها في المادتين 41 و124 من القانون المدني.
وبالتالي فلما كان مبلغ التعويض والنفقة المحكوم بهما لا تدخل تحت الأضرار المنصوص عليها في هاتين المادتين فإن قضاة الاستئناف لم يخالفوا القانون، وأن قرارهم يكون سليما، غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الطاعنة إن كان قد لحقها ضرر ناتج عن التعسف بمفهوم المادة 41([43]) من القانون المدني أو لحقها ضرر ناتج عن المسؤولية التقصيرية طبقا لمقتضيات المادة 124 فعليها أن تثبت الضرر المذكور في دعوى مستقلة وتطلب التعويض مقابل ذلك"([44]).
وعليه يمكن القول بأن ما ذهب إليه القضاء الجزائري يعتبر رأيا اجتهاديا وسطا بين إيجاب المتعة شرعا، وتقرير الحق في التعويض قانونا، وهذا لا يستقيم لاختلاف موجب كل من المتعة والتعويض، فإن اتحدا في الحكمة فقد اختلفا في السبب، ومن ثم يكون لكل منهما حكمه الخاص.
فعندما يعتبر القضاء الجزائري المتعة الشرعية بحدّ ذاتها تعويضا-وهو الصحيح- إلا أنه قد خالف وجه تشريعها عندما جعلها تعويضا في حال الطلاق بغير مبرر، كما خالف وجه التعويض الذي قال به بعض المعاصرين من رجال الشريعة والقانون في حالة الطلاق التعسفي، فقد جعله مستحقا في حالة ثبوت الضرر كما نصت على ذلك المادة 55:"عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر"([45]).
الترجيح
الذي تطمئن إليه النفس ترجيح المذهب الأول القائل بأن المتعة تغني عن التعويض عن الطلاق التعسفي، لأن في إيجاب التعويض عن الطلاق التعسفي أضرارا أشد ومفاسد أعظم؛ ذلك أنه يؤدي إلى كشف ما أمر الله بستره من أسرار البيوت، وهتك لأعراض الناس التي أوجب الإسلام المحافظة عليها، بالإضافة إلى تبادل التهم الباطلة بين الزوجين وأسرهما من أجل الحصول على هذا التعويض، أو التملص من دفعه، والتي تؤدي في النهاية إلى إثارة العداوة والبغضاء والكراهية بين الأسر.
كما أن إيجاب التعويض قد يؤدي إلى إلزام الزوج بالعيش مع زوجة وهو كاره لها، فينشأ بينهما الشقاق والنزاع، مما يجعل الحياة الزوجية بينهما لا تطاق، وكل ذلك بسبب إيجاب التعويض.
أما إذا علم المسلم أن ما طبق عليه من نظام المتعة هو ما أمر الله تعالى به أذعن له وأطاع واستجاب لأمر الله، على العكس من تطبيق نظام التعويض الذي يرى فيه المطلّق عقوبة له([46]).
الفرع الرابع: موجبات التعويض عن الطلاق التعسفي في قانون الأسرة الجزائري
لم يحصر المشرع الجزائري جملة الأسباب الموجبة لتعويض المرأة عن طلاقها تعسفيا، كما أنه لم يوضح معايير اعتبار الطلاق الذي يوقعه الزوج تعسفيا، ولم يجعل حدا أقصى ولا حدا أدنى للمقدار الواجب في التعويض عن الضرر اللاحق بالمطلقة سواء كان ضررا ماديا أو معنويا، وجعل تقدير التعويض متروك لقاضي الموضوع الذي يملك تقدير البينة واستخلاص القناعة من وقائع القضية المنظورة أمامه كون ذلك من الأمور الموضوعية المتروكة لقناعة القاضي الشرعي وحده حسب وضع الزوج المالي يسرا وعسرا، كما يكون بحسب نسبة التعسف ودرجته. وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ 2/4/1984 والذي جاء فيه:" من المقرر شرعا أن تقرير ما يفرض للزوجة من حقوق على زوجها يخضع لتقدير قضاة الموضوع، فإن تسبيبه وبيان حالة الزوجين بيانا مفصلا من غنى وفقر يدخل في صميم القانون الذي هو خاضع للرقابة، فإن القضاء بما يخالف أحكام هذا المبدأ يعدّ انتهاكا لقواعد شرعية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية"([47]).
غير أن القضاء قد دأب على مساءلة الزوج عن الأسباب التي دفعته إلى طلب الطلاق ومعرفة ما إذا كانت تلك الأسباب جدية وشرعية مقبولة، أم أنها أسباب غير شرعية وغير حقيقية. وعليه فإذا ثبت للقاضي أن طلب الطلاق في هذه الحالة طلب تعسفي غير شرعي ولا مبرر له فإن عليه أن يطبق نص المادة 52 من قانون الأسرة التي تنص على أنه:" إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها".
وإذا تعمد الزوج عدم الإفصاح عن الأسباب الداعية إلى طلب الطلاق، فإن القاضي يحكم بالطلاق مع تحمل الزوج تبعات الطلاق في التعويض، وهذا ما أقره الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ:15/06/1999:"من المقرر قانونا أنه يحق للزوج إيقاع الطلاق بإرادته المنفردة. ومن ثم فإن النعي على القرار المطعون فيه بالقصور في التسبيب ليس في محله.
ومتى تبين -في قضية الحال- أن للزوج الحق في تحمل مسؤولية الطلاق دون أن يفصح للقاضي عن الأسباب التي دفعته للطلاق وذلك تجنبا للحرج أو تخطيا لقواعد الإثبات خلافا للأزواج الذين يقدمون تبريرات لإبعاد المسؤولية عنهم.
وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بالطلاق بإرادة الزوج المنفردة دون تبرير، طبقوا صحيح القانون. ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([48]).
وعلى هذا يمكن استخلاص الحالات التي تستحق فيها المطلقة التعويض وفقا للنصوص القانونية والاجتهادات القضائية الواردة في هذا الشأن، وذلك وفق ما يأتي:
أولا: حالات استحقاق المطلقة للتعويض
لم يحصر المشرع الجزائري الحالات التي تستحق فيها المطلقة التعويض، وإنما تستشف من نص المادة 52 ومن مجموع قرارات المحكمة العليا والتطبيق العملي للمحاكم، ويمكن التمثيل لذلك بما يأتي:
أولا: أن يتبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق، كأن يطلق زوجته لغير سبب معقول. وعليه تستحق حينئذ الزوجة المطلقة طلاقا تعسفيا تعويضا عن هذا الطلاق، وذلك حتى لا يغالى باستخدام هذا الحق.
ثانيا: أن يتحقق القاضي من لحوق الضرر بالمطلقة. فإذا تبين للقاضي أن الزوجة قد لحقها ضرر بسبب هذا الطلاق، جاز له أن يحكم لها على مطلقها بالتعويض بحسب نسبة التعسف ودرجته([49]). كما ذهبت إلى ذلك المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 21/07/1998:"من المقرر قانونا أنه يجوز تطليق الزوجة عند تضررها ومن المقرر أيضا أنه إذا تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها.
ومتى تبين – في قضية الحال – أن الزوجة طلبت التطليق لتضررها من ضرب الزوج وطردها وإهمالها مع أولادها وعدم الإنفاق عليهم الأمر الذي يجعلها محقة في طلب التطليق والتعويض معا لثبوت تضررها، وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بتطليق الزوجة وتعويضها طبقوا صحيح القانون. ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([50]).
ثالثا: إذا طلبت الزوجة المطلقة الرجوع إلى بيت الزوجية بأن تنازلت الزوجة عن حقها في التعويض وتشبثت بالعودة إلى الحياة الزوجية، وتمادى الزوج في تمسكه بطلب الطلاق، فإنه يعدّ متعسفا في استعمال الحق في هذه الحالة في نظر القضاء، ومن ثم فإنه يكون من حق الزوج إيقاع الطلاق مع إلزامه بالتعويض عن الضرر الذي لحق بالمرأة([51]).
ثالثا: تستحق المطلقة الميراث إذا طلقها زوجها في مرض موته لأنه يعتبر فارا من ميراث زوجته فيرد عليه قصده بتوريثها منه، وهذا الأخير يعتبر تعويضا لها عن تعسفه في الطلاق([52]).
رابعا: إذا تبين للقاضي أن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة جاز له أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة ودرجة تعسفه بتعويض يتلاءم والحالة المالية للزوج([53]).
خامسا: كما يعدّ من صور التعسف في الطلاق الموجب للتعويض؛ حالة الطلاق قبل الدخول، وذلك كأن تبقى الزوجة معلقة دون دخول لمدة زمنية من شأنها أن تفوت عليها فرص الزواج بغيره، وهذا ما أقرته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ: 23/04/1996:"من المقرر قانونا أنه يجوز للزوجة طلب التطليق مع التعويض استنادا على وجود ضرر معتبر شرعا. ولما ثبت – في قضية الحال – أن القضية تتعلق بزواج تام الأركان، إلا أن الزوج تأخر عن الدخول بزوجته لمدة 5 سنوات، فإنه بذلك يعتبر تعسفا في حقها، ويبرر التعويض الممنوح لها مما يتعين رفض الطعن"([54]). ونفسه ما جاء في القرار المؤرخ بتاريخ 16/3/1999:"من المقرر قانونا أنه يجوز تطليق الزوجة لكل ضرر معتبر شرعا. ومتى تبين -في قضية الحال- أن الطاعن عقد على المطعون ضدها لمدة طويلة ولم يقم بإتمام الزواج بالبناء، فإن الزوجة تضررت خلال هذه المدة ماديا ومعنويا مما يثبت تضررها شرعا طبقا لأحكام المادة 53 من قانون الأسرة، وعليه فإن قضاة الموضوع بقضائهم بتطليق الزوجة وإلغاء عقد الزواج وتعويضها على أساس تعسف الزوج وثبوت الضرر طبقوا صحيح القانون. ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([55]).
سادسا: وقد ذكر قانون الأسرة حالتين أخريين للتعويض بالنسبة للمطلقة التي لحقها الضرر، وذلك في المادة 53 مكرر:"يجوز للقاضي في حالة الحكم بالتطليق أن يحكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها"([56]). وذلك إذا استطاعت أن تثبت ما تدعيه من أسباب وإثبات ما حصل لها من ضرر مادي أو معنوي. وكذا المادة 55 التي نصت على ما يلي:"عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر"([57]). إذا أثبتت المرأة لحوق الضرر بها، فيتعين على القاضي الحكم لها بالتعويض. وهو ما قضت به المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 19/05/1998:"إن امتناع الزوجة عن الرجوع إلى بيت الزوجية بعد إهانتها من الزوج لا يعتبر نشوزا. ومتى تبين – في قضية الحال – أن المطعون ضده قد سبق وأن رفع دعوى طلاق الطاعنة على اعتبار أنها مريضة عقليا ثم تراجع عن ذلك وطلب رجوعها من جديد ليتجنب مسؤولية الطلاق، فإن امتناع الطاعنة عن الرجوع بعد إهانتها لا يعتبر نشوزا، وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بتأييد حكم المحكمة القاضي بالطلاق وتعويض الزوج لنشوز الزوجة دون مناقشة الدفع الذي أثارته الطاعنة فبقضائهم كما فعلوا خالفوا القانون وخاصة أحكام المادة 55 من قانون الأسرة.
ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه([58]).
ولعل أهم سبب لاستحقاق الزوجة التعويض في نظر المشرع هو حالة الطلاق من غير سبب مقبول، والذي يعتبر نشوزا من الزوج، فيكون من اللائق الوقوف عند نص المادة 55 في هذا الموضع، وفق الآتي:
سابعا: حالة نشوز الزوج
النشوز:([59])مصدر نشز ينشز (بضم الشين وكسرها)، وهو مأخوذ من النشاز، وهو المكان المرتفع من الأرض و تلّ ناشز أي مرتفع و جمعه نواشز. ونشز الرجل في مجلسه، ارتفع قليلا. ويطلق النشوز على الغليظ الشديد. ونشرت المرأة: استعصت على بعلها وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته، ونشز بعلها عليها: ضربها وجفاها، ومنه قوله تعالى:] وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا[([60]).
ونشوز الزوج: معناه سوء عشرته للزوجة ببغضها وضربها([61]).
فإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها لرغبته عنها إما لمرض بها أو كبر أو دمامة، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما([62])، ولو كان في الصلح تنازل الزوجة عن بعض حقوقها ترضية لزوجها([63])، لقوله تعالى: ] وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ[([64]).
يقول القرطبي في قوله تعالى:]وإن امرأة خافت[ بمعنى توقعت، قال الزجاج: المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض، أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها"([65]). وقال الطبري في قوله تعالى:]والصلح خير[؛ يعني والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة([66]). وقال الشيرازي:"وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سنّ، ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز"([67]). وقال ابن قدامة:"وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها لرغبته عنها إما لمرض بها أو كبر أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك"([68]).
ومن هنا يتضح أن الشريعة أجازت للزوجة إذا ما ظهر من الزوج النشوز والإعراض عنها، أو توقعت منه ذلك، ورغبت في استمرار الحياة الزوجية بينهما أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه.
وعليه فإذا حصل من الزوج ظلم وتعنت ورفض الصلح، وكان منه تقصير في حقوق زوجته، فلا يسوغ لها شرعا النشوز عليه وترك طاعته أو ضربه أو التعدي عليه، لأن الواجب عليها لا يسقط عنها مهما قصر الزوج، وينبغي لها أن تتخذ الخطوات الآتية:
أولا- أن تعظه بالله وتذكره بحقوقها وأن ذمته مشغولة بذلك.
ثانيا- فإن لم يستجب وسطت بينهما رجلا حكيما من أهل الخير والأمانة ينصحه ويتفاهم معه وليكن ذلك برفق دون تشهير به.
ثالثا- فإن لم يستجب رفعت أمره للقاضي، وطالبت بحقوقها ونظر لها القاضي بالأصلح من فسخ أو طلاق أو خلع، وتكون بذلك مستحقة للتعويض كونها الطرف المتضرر طبقا للمادة 55 التي نصت على ما يلي:"عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر"([69]).
ثانيا: حالات عدم استحقاق التعويض عن الطلاق
لم ينص المشرع الجزائري على حالات عدم استحقاق المطلقة التعويض عن الطلاق سواء كان تعسفيا أم وقع بوجه حق؛ لأن التعويض عن الطلاق ليس مطلقا، فهناك حالات كثيرة تحرم فيها المطلقة حقها في التعويض عن الطلاق، تُستشف من مفهوم نص المادة 52 من قانون الأسرة الجزائري، ومن مجموع قرارات المحكمة العليا.
و على سبيل الذكر لا الحصر يمكن أن تحرم المطلقة التعويض - على رأي القائلين به- في أحوال أهمها:
أولا- إذا تم الطلاق في إحدى حالات التفريق القضائي المعروفة قانونا، و تقدم الزوج بطلب الطلاق بمفرده إلى القاضي- كما في حالة التفريق للشقاق والضرر- لأن محل التعويض عن الطلاق هو التعسف الذي يوقعه الزوج بإرادته المنفردة، فإذا كان الطلاق واقعا بحكم القاضي نتيجة لدعوى التفريق التي تقدم بها الزوج، كما لو ثبت نشوز الزوجة فلا تستحق تعويضا عن هذا الطلاق كما نصت على ذلك المادة 55 من قانون الأسرة الجزائري.
ثانيا- إذا كان الطلاق له ما يوجبه شرعا فإن الزوجة تحرم التعويض- ولا يعتبر عقم الزوجة سببا مشروعا للطلاق([70])- مع عدم قدرة المطلقة على إثبات الضرر اللاحق بها. وهذا ما ذهب إليه الاجتهاد القضائي في القرار الصادر بتاريخ: 17/11/1998 حيث جاء فيه ما يلي:"من المقرر قانونا أن الزوجة تستحق التعويض في حالة نشوز الزوج أو تعسفه في الطلاق، ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعدّ مخالفا للقانون.
ومتى تبين- من قضية الحال- أن قضاة الموضوع قضوا للمطعون ضدها بالتعويض دون أن يحصل من الطاعن أي تعسف أو نشوز فإنهم بقضائهم كما فعلوا خالفوا القانون، مما يستوجب نقض القرار المطعون فيه جزئيا"([71]).
وتنطبق هذه الصورة على حالة نشوز المرأة التي ذكرها المشرع الجزائري في المادة 55 من قانون الأسرة والتي جاء فيها:"عند نشوز أحد الزوجين يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر"([72]). فكان الأحرى بالمشرع أن يجعل حالة نشوز المرأة صورة للطلاق المؤسس على سبب معقول ووجه مشروع؛ لأن الواقع أن هذه الصورة تتقاسمها صورتي فك الرابطة الزوجية كسبب من الأسباب المشروعة للطلاق أو للتطليق، فتكون طلاقا بيد الزوج على الوجه المشروع إذا ثبت نشوز المرأة، ومن ثم يكون الرجل هو الطرف المتضرر، وعليه فلا حق للمطلقة في التعويض([73])، ويكون تطليقا قضائيا بطلب من المرأة إذا ثبت نشوز الرجل ولحوق الضرر بالمرأة، ومن ثم تكون المرأة هي الطرف المتضرر، وعليه يلزم الزوج بالتعويض عند التفريق القضائي([74]). وهذا ما أقره الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ 27/1/1996:"من المقرر شرعا وقضاء أن المتعة تمنح للزوجة مقابل الضرر الناتج بها من طلاق غير مبرر([75])، ويسقط بتحميلها جزء من المسؤولية فيه.
ولما كان ثابتا -في قضية الحال- أن القرار المطعون فيه قضى بإسناد الظلم إلى الزوجين معا، فلا سبيل لتعويض أحدهما، ومنح المتعة للزوجة. ومتى كان ذلك استوجب النقض جزئيا فيما يخص المتعة"([76]).
و عليه فالأولى أن تدخل هذه الحالة في صورة التطليق للضرر المعتبر شرعا، أوفي حالة الشقاق المستمر طبقا للمادة 53 من قانون الأسرة إذا كان النشوز من الرجل، وأما الحكم بالتعويض فيكون للطرف المتضرر طبقا للقواعد العامة في التعويض.
وعلى هذا يستحسن الوقوف عند حالة نشوز المرأة -في هذا الموضع- كحالة من حالات عدم استحقاق الزوجة التعويض تستشف من نظرية التعسف ومبدأ التعويض.
ثالثا: حالة نشوز الزوجة
عرف الفقهاء نشوز الزوجة بتعاريف كثيرة ومتقاربة تدور كلها حول معنى واحد:
فقد عرفه الحنفية بأنه:"خروج الزوجة من بيت زوجها بغير حق"([77]). وهذا التعريف غير جامع لأسباب النشوز؛ لأنه اقتصر على سبب واحد من أسباب نشوز الزوجة وهو خروجها من بيت زوجها بغير حق ولم يذكر بقية أسباب النشوز.
وعرفه المالكية بأنه:"الخروج عن الطاعة الواجبة" كأن منعته الاستمتاع بها، أو خرجت بلا إذن لمحل تعلم أنه لا يأذن فيه، أو تركت حقوق الله تعالى، كالطهارة والصلاة، أو أغلقت الباب دونه، أو خانته في نفسها أو ماله([78]). وهذا التعريف جامع لأسباب النشوز؛ لأن أي خروج منها عن طاعة زوجها فيما لا معصية فيه لله-عز وجل- يعد نشوزا منها.
كما عرفه الشافعية بقولهم:"الناشزة هي الخارجة عن طاعة زوجها"([79])، ومن أمثلة ذلك: أن تخرج من منزله بغير إذنه، أو تمنعه من التمتع بها أو تغلق الباب في وجهه إلى غير ذلك من أسباب نشوز الزوجة([80]). وهذا التعريف قريب من تعريف المالكية.
وعرفه الحنابلة أيضا بأنه:"معصية الزوجة فيما فرض الله عليها من طاعته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأنها ارتفعت و تعالت عما أوجب الله عليها من طاعته"([81]). جاء في شرح منتهى الإرادات:"هو معصيتها إياه فيما يجب عليها، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف"([82]).
ومن مجموع هذه التعاريف يمكن القول بأن نشوز الزوجة يعني خروجها عن الطاعة الواجبة عليها لزوجها([83]).
كما يمكن استخلاص جملة المظاهر التي تعدّ المرأة بموجبها ناشزا منها([84]): أن تخرج من بيت الزوجية بغير إذن الزوج([85])، أو تسافر بغير إذنه، أو تمتنع عن السفر أو الانتقال معه إلى حيث يريد، أو تمنعه من الاستمتاع بها، أو تتطاول عليه بلسانها أو تترك حقوق الله تعالى من غسل جنابة أو صلاة أو صيام رمضان أو غير ذلك مما يشتمل على معصية الزوج والتعالي عليه، أو تخرج إلى العمل الكسبي دون رضا الزوج([86]). فإذا نشزت المرأة سقطت عنها حقوقها الشرعية والقانونية، والتي منها النفقة والسكنى والقسم لها، ولا تثبت لها هذه الحقوق إلا إذا تركت النشوز([87]). قال ابن قدامة:"فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم "([88]).
ومن ثم لا تستحق التعويض الذي يحكم به القاضي عند طلاقها، كونها ناشزا، وأن الطرف المتضرر في مثل هذه الحالة هو الزوج الذي يستحق التعويض طبقا للمادة 55 من قانون الأسرة. وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 27/04/1993:"متى كان من المقرر قانونا أن يحكم القاضي بالطلاق وبالتعويض للطرف المتضرر، عند نشوز أحد الزوجين، فإن القضاء بغير ذلك يعد خرقا للقانون. ومن ثم فإن عدم وجود أي سبب واضح يجعل من الزوجة – في قضية الحال – تلجأ إلى طلب التطليق بعد نشوزها فإن ذلك يعد سببا كافيا لاعتبار الزوج متضررا من هذا الطلاق، وعليه فإن قضاة الموضوع قد أخطأوا حين قرروا أن الضرر والتعويض عنه، يكون للزوجة وحدها مما يستوجب نقض قرارهم جزئيا وبدون إحالة"([89]).
إلا أنه يسقط حقهما معا في التعويض في حالة تراضيهما، واتفاقهما على حل رابطة الزوجية بودّية دون تعسف من أحدهما أومن كليهما، وصورة ذلك ما ورد في المادة 48 من قانون الأسرة، والتي يحسن الحديث عنها في هذا الموضع-كصورة من صور عدم استحقاق المطلقة للتعويض-.
[4]- انظر، محمد فتح الله النشار: حق التعويض المدني بين الفقه الإسلامي والقانون المدني، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2002، ص35.
[5]- عدلت بالقانون 05-10 المؤرخ في 20/6/2005. حررت في ظل الأمر 75-58 المؤرخ في 26/9/1975 كما يلي:"كل عمل أيا كان يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض".
[10]- محمد سراج:ضمان العدوان في الفقه الإسلامي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،ط1، 1993، ص 47.
[11]- انظر، محمد فتح الله النشار: حق التعويض المدني، ص 43. وللاستزادة في الاطلاع راجع، محمد نصر الدين محمد: أساس التعويض في الشريعة الإسلامية والقانون المصري والعراقي-دراسة مقارنة- أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1983.
[13]- انظر، محمد بن المدني بوساق: التعويض عن الضرر في الفقه الإسلامي، دار اشبيليا للنشر والتوزيع، السعودية، ط1، 1999، ص 155.
[14]- من بين الفقهاء الذين أخذوا بمبدأ التعويض عن الطلاق التعسفي: أحمد الغندور: الطلاق في الشريعة الإسلامية والقانون، دار المعارف، مصر، ط1، 1967، ص 69. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/532.
[19]- عبد الناصر توفيق العطار: الأسرة وقانون الأحوال الشخصية، ص 138. إلا أن هذا قياس مع الفارق، إذ أبيح في الخلع أن يأخذ الزوج تعويضا من زوجته عند طلاقها، لأن تعويض الخلع هو ثمن حريتها، بينما تقييد الطلاق بالتعويض قيد على الحرية كما قال عبد الناصر توفيق العطار. المرجع نفسه، ص 140.
[20]- من بين الفقهاء الذين أخذوا بمبدأ عدم التعويض عن الطلاق التعسفي: أبو زهرة: الأحوال الشخصية، ص 285. محمد عقلة: نظام الأسرة في الإسلام، مكتبة الرسالة الحديثة، عمان، الأردن، ط1، 1983، 3/151. عبد الكريم زيدان: المفصل،7/358.
[21]- أبو زهرة: الأحوال الشخصية، ص 285. غير أن تعويض المطلقة أمر قرره الشارع حين أوجب المتعة، ومنه فلا يجوز الحكم لها بغير المتعة.
[24]- انظر، الصابوني: المرجع نفسه،ص 101.عبد الناصر توفيق العطار: الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية، ص 143.
[27]- انطلاقا من أن الطلاق جائز والجواز الشرعي ينافي الضمان. يقول عبد الكريم زيدان في ذلك:" ينادي البعض بضرورة التعويض للمرأة بسبب طلاقها مطلقا ويقيد البعض حقها في التعويض إذا طلقها زوجها على وجه التعسف في استعمال حقه في الطلاق، وهذا الرأي والدعوة إليه غير سديدة ولا مقبولة ولا سند لها من الشرع، لأن الطلاق من حقه الشرعي، وبالتالي فهو جائز له والجواز الشرعي ينافي الضمان أو التعويض، ولا يقال أن الأصل في الطلاق الحظر فيما لم يثبت استعمال الزوج الطلاق لسبب مشروع فإنه يكون مرتكبا محظورا فيجب عليه الضمان أو التعويض، لا يقال هذا فإنه إذا كانت هناك مسؤولية على الزوج في استعماله حق الطلاق فهي مسؤولية دينية لا تدخل تحت سلطان القضاء". المفصل،7/358-359.
[28]- ذهب كثير من الباحثين إلى ترجيح الاتجاه بعدم التعويض في الطلاق سواء كان للطلاق مبرراته القوية أم لا، فلا يجوز أن يعاقب شخص على استعمال حق أعطاه الشرع له لأن طبيعة عقد الزواج على ما هو مقرر ثابت لا توجب تعويض الزوجة إذا طلقت، والمسؤولية التعاقدية ينبغي أن تكون ناشئة من طبيعة عقد الزواج في الشريعة، وعلى هذا فلا أساس للتعويض في الطلاق ويكفي ما منحته الشريعة للزوجة من حقوق تتمثل في مؤخر الصداق ونفقة العدة والمتعة.انظر،عبد الكريم زيدان: المفصل، 7/358-359. عبد العزيز سمك: أحكام الأسرة في الفقه الإسلامي، ص 305.
[34]- إن في إثارة الأسباب كشفا لأسرار الزوجية، وتبادلا للتهم بين الزوجين، مما قد يترتب عنه أضرار أشد خطرا من المصلحة المراد تحقيقها بالتعويض، أما المتعة فلا يترتب عنها مثل هذه الأضرار، ويتحقق بها جبر خاطر المرأة المنكسر بالطلاق.
[37]- أحمد أبو ليل: تقييد حق الزوج في التطليق، أبحاث ندوة حقوق الأسرة في ضوء المعطيات المعاصرة، عدد خاص، كلية الشريعة والقانون، مطبعة جامعة الإمارات العربية المتحدة، 1994، ص 198.
[40]- انظر، محمد علي السرطاوي: شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني -انحلال عقد الزواج والآثار المترتبة عليه- منشورات الجامعة الأردنية، عمان، الأردن، 1995، ص 45.
[41]- انظر، عبير ربحي القدومي: التعسف في استعمال الحق في الأحوال الشخصية، رسالة ما جستير، الجامعة الأردنية، 1996، ص 172.
[42]- توفيق أبو هاشم: متعة الطلاق وعلاقتها بالتعويض عن الطلاق التعسفي، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، 1990، ص 124.
[47]- ملف رقم 32779: المجلة القضائية، العدد الثاني، 1989. انظر، يوسف دلاندة: قانون الأسرة مدعما بأحدث مبادئ واجتهادات المحكمة العليا، ص 51.
[52]- طبقا لما جاء به الاجتهاد القضائي في قراره الصادر بتاريخ 17/3/1998:"إن المرض مهما كانت خطورته لا يمنع الزوج من إيقاع الطلاق ما عدا إذا كان القصد من الطلاق في مرض الموت حرمان الزوجة من الميراث. ومن ثم فإن قضاة الموضوع بقضائهم بطلاق الطاعنة طبقوا صحيح القانون، ومتى كان ذلك استوجب رفض الطعن". انظر، نبيل صقر: قانون الأسرة نصا وفقها وتطبيقا، ص 331.
[61]- انظر، علي محمد علي قاسم:نشوز الزوجة-أسبابه وعلاحه في الفقه الإسلامي- دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2004، ص 9.
[62]- الصلح هو: عقد يتفق فيه المتنازعان في حق على ما يرتفع به النزاع بينهما. وعقد الصلح ليس له موضوع معين يميزه بطبيعة وقابلية خاصة، لأنه يجري في كل نزاع، غير أنه يتضمن عادة تنازل المدعي عن بعض مطلوبه. مصطفى الزرقا: المدخل الفقهي العام، 1/618-617.
[70]- وهذا يفهم من مضمون الاجتهاد القضائي الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ: 16/02/1999 من أنه إذا كان عدم الإنجاب بسبب من الرجل فإنه يعتبر عيبا في الرجل، ويعطي للمرأة الحق في طلب التطليق:"من المقرر قانونا أنه يجوز للزوجة أن تطلب التطليق لكل ضرر معتبر شرعا. ومتى تبين – في قضية الحال – أن المعاشرة الزوجية كانت طويلة بين الزوجين وأن الطاعن لم ينجب أطفالا طيلة هذه المدة الطويلة مما أدى بالزوجة إلى أن تطلب التطليق لتضررها لعدم الإنجاب، وعليه فإن قضاة الموضوع بقضائهم بتطليق الزوجة بسبب العيب الذي يحول دون تحقيق الهدف من الزواج طبقوا القانون تطبيقا سليما.ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن".المجلة القضائية، عدد خاص 2001، ص119. وهذا هو الصحيح الذي يتماشى مع المنطق، إذ يكون بإمكان الزوج الزواج بامرأة أخرى دون اللجوء إلى الطلاق، بينما تكون للمرأة فرصة الإنجاب من زوج آخر عند إجابة طلبها التطليق لضرر عدم الإنجاب.
[73]- أما إذا كان الكره أو الشقاق من جانب الرجل فقد خوله الشرع الحق في إنهاء العلاقة الزوجية بإيقاع الطلاق، وحينئذ يكون ملزما بكل ما ترتب علي الزواج من آثار مالية. أما إذا لحقه ضرر من الزوجة لزمها التعويض له على رأي بعض القائلين بمبدأ التعويض.
[74]- أما إذا كان الكره أو الشقاق من جانب المرأة فقد خولها الشرع إمكانية الخلع ومقتضاها أنها تفتدى نفسها وخلاصها بأن تؤدى للزوج ما دفعه من مقدم مهر وأن تتنازل له عن جميع حقوقها الشرعية والمالية من مؤخر صداق ونفقة المتعة ونفقة العدة، وإمكانية الخلع للزوجة ليست بإرادتها المنفردة فإما أن تتراضى مع زوجها على الخلع أو بإقامتها لدعوى الخلع.
[75]- يقصد بالمتعة هنا التعويض المستحق قانونا للمطلقة تعسفيا، ولا تنطبق على المتعة المقررة شرعا لكل مطلقة.
[83]- ويقابل النشوز: طاعة الزوجة لزوجها، فإذا امتنعت عن الطاعة عدت ناشزة وسقط حقها في الإنفاق، فالتزام الزوج بالإنفاق على زوجته يقابله التزام الزوجة بالدخول في طاعة زوجها، بالاستقرار معه في بيت الزوجية الذي هيأه لها، وشرط الطاعة أن يكون الزوج قد أوفى زوجته معجل صداقها وهيأ لها مسكنها. انظر، ممدوح عزمي: أحكام الطاعة والنشوز للمسلمين وغير المسلمين، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية،1999، ص 11.
[84]- يمكن عدّ جملة أمور تكون سببا لنشوز المرأة: - سوء خلق المرأة وعدم تلقيها قدرا كافيا من التربية الصحيحة - قلة وعي المرأة بمكانة الزوج وجهلها لحقوقها وأهمية طاعته - وجود من يحرضها على الخروج عن طاعة الزوج أو عيشها في بيئة تشجع المرأة على ذلك- التباين الإجتماعي والفكري بين الزوجين ووجود فارق كبير بينهما - تفوق المرأة على الزوج في شيء من الصفات في المال أو الجمال أو الحسب أو النسب مما يحملها ذلك على الغرور والتكبر على الزوج - تأثر المرأة بالأصوات والأطروحات المتغربة التي تحررها فكريا من أحكام وآداب الأسرة الإسلامية وتقنعها بمساواة الرجل وعدم إلتزام الطاعة له- وجود مشاكل بين المرأة وزوجها وعدم تفهمها لنفسية الزوج واحتياجاته الخاصة.
- ظلم الزوج وتقصيره بحقوق المرأة وجفائه لها وعدم مراعاة حدود الله في علاقته بها.[85]-يلاحظ أنه لا يعتبر نشوزا خروج المرأة من بيت الزوجية دون إذن زوجها بمقتضى الشرع لزيارة أبويها أو أقاربها المحارم في حالة الضرورة، كالمرض ونحوه، أو لوجود ضرر كإشراف المنزل على الحريق أو التهدم أو نحو ذلك أو لقضاء حوائجها التي يقضي بها العرف.انظر، عبد العزيز سمك:أحكام الأسرة في الفقه الإسلامي والقانون المصري، ص 256.
[86]- إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في الحكم فيما إذا اشترطت المرأة الخروج إلى العمل عند العقد، فهل تعدّ ناشزا عند عدم الوفاء بهذا الشرط من قبل الزوج أثناء قيام الحياة الزوجية أم لا ؟ وقد سبق تناول ذلك في الفصل الأول من الباب الثاني في مبحث الاشتراط في عقد الزواج.
[87]- إذا وقعت المرأة في النشوز و خرجت عن طاعته يشرع للزوج حينئذ علاجها بأساليب متدرجة على حسب حالتها ومستوى نشوزها ولا ينتقل إلى المرتبة الثانية إلا إذا تعذر إصلاحها بالأولى ، وترتيبها على النحو الآتي:
أولا- يعظها ويخوفها بالله وعقابه ويبين لها وجوب طاعة الزوج وتحريم معصيته وما يلحقها من الضرر. ثانيا- يهجرها في الفراش ويعرض عن جماعها بأن يوليها ظهره. ثالثا- يضربها ضربا خفيفا لا يكسر عظما ولا يسم لحما ويتجنب الوجه والمقاتل. لقوله تعالى:]وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[. النساء:الآية 34. انظر تفصيل هذه الخطوات العلاجية. محمود محمد عوض سلامة: الصلح في مسائل الأحوال الشخصية، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي، 1996، ص85 وما بعدها.
-
-
-
Lesson
المحاضرة السادسة
الطلاق بالتراضي
يعتبر الطلاق بالتراضي حالة من حالات عدم استحقاق المطلقة التعويض، وقد نص عليه المشرع الجزائري كصورة من صور فك الرابطة الزوجية. حيث جاء في المادة 48 من قانون الأسرة الجزائري على أنه:".. يحل عقد الزواج بالطلاق الذي يتم بإرادة الزوج أو بتراضي الزوجين أو بطلب من الزوجة.." ([1]).
وفيما يأتي بيان لمفهومه وصوره وآثاره في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري.
أولا: مفهوم الطلاق بالتراضي
يقصد بهذه الصورة أن كلا من الزوجين يريد فك الرابطة الزوجية بقناعة كاملة، على أن استمراريتها أضحت ضربا من المحال لأي سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف تجعل أحدهما أو كليهما غير قادر على الاستمرار في هذه العلاقة فتكون بذلك إرادة الطرفين متحدة من أجل إحداث الأثر القانوني المتمثل في الطلاق. وهذا معناه أنه يمكن للزوجين أن يتطالقا بتراضيهما، بالمعروف دون خصام أو نزاع، ويقابله الطلاق بالمنازعة أو النزاع عند عدم التراضي بينهما([2]). وهو ما يسمى بالطلاق بالإرادة المشتركة للزوجين.
فيكون من شروطه أن يتم بناء على طلب أحد الزوجين و موافقة الزوج الآخر أو بناء على طلبهما المشترك كأن تتقدم الزوجة للمحكمة بدعوى جوازية و الزوج بدعوى وجوبية طالبان فك الرابطة الزوجية.
وقد جاءت هذه المادة وسطا بين حق الزوج في إيقاع الطلاق منفردا، وحق الزوجة في طلب التطليق أو الخلع بإرادتها المنفردة في حدود ما ورد في المادتين 53 و 54 من قانون الأسرة.
وعلى هذا فإن المشرع باستحداثه هذه الصورة لفك الرابطة الزوجية إنما قصد بذلك ترك الحرية للزوجين للاتفاق بينهما فيما يريانه مناسبا لحالهما، دون بحث القاضي عن أسباب الانفصال، وبغض النظر عن فحوى الاتفاق، ولا معرفة الطرف المتضرر، كون الطلاق بالتراضي يسقط الحق في التعويض.
إلا أن المشرع لم يبين أحكام هذه الصورة من حيث الآثار الشرعية المترتبة عليها، ذلك أن الطلاق بالتراضي يختلف -من حيث آثاره الشرعية المترتبة عليه- عن الطلاق الذي يوقعه الزوج بإرادته المنفردة([3])، لأنه يأخذ عدة طرق -خارج دائرة القضاء- تترتب عليها أحكاما شرعية تختلف باختلاف طريقة وقوعه.
وما دام الأمر يقوم على الاتفاق بين الزوجين وتراضيهما فإنه قد يتم - وفقا لما هو مقرر في الفقه الإسلامي- بإحدى الطرق المقررة شرعا وهي كالآتي:
ثانيا: صور الطلاق بالتراضي
أولا: الجانب الفقهي
الأصل في العقود، وعقد الزواج واحد منها، أن لا يتم حلّها إلا بتراضي الطرفين كليهما كما تمّ إبرامهما، ولكن اختص عقد الزواج بالخروج عن هذا الأصل نظرا لطبيعته الخاصة، فغيره من العقود ليس فيه قوامة لطرف على آخر، أما عقد الزواج فينشئ مؤسسة اجتماعية أسرية لابد لانتظام أمرها من قوامة، وقد أسندت هذه القوامة-بحكم الشرع والعقل- للرجل دون المرأة -كما سبق بيانه-.
ومنه فلا يتوقف إيقاع الطلاق من الرجل على رضا الزوجة ولا على إذن القاضي كونه صاحب العصمة الزوجية، وإرادته كافية في إحداث الفرقة بالطلاق. واستثناء من هذا الأصل جعل للمرأة الحق في طلب الفرقة تطليقا أو خلعا- على ما سيأتي بيانه-.
وقد استحدث المشرع الجزائري لصورة فك الرابطة الزوجية بالإرادة المشتركة بين الزوجين وتراضيهما دون خصام أو نزاع.
ولا يتصور وقوع الطلاق -بهذه الصورة- إلا في حالات نص عليها الفقهاء، ولكل حالة أثرها المترتب عليها شرعا، مما يجعل الطلاق بالتراضي في الفقه الإسلامي مغايرا للصورة التي استحدثها المشرع الجزائري، وبالتالي يختلف الأثر المترتب على كل صورة تبعا لحكمها الشرعي، بينما لا يختلف الحكم وفق نظرة المشرع الجزائري بين الطلاق بالإردة المنفردة وإجراءاته وبين الطلاق بالتراضي، وإنما يكمن الخلاف بين الحالتين في الجانب المادي الذي يتعلق بالتعويض في الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج، إذا ثبت تعسفه في إيقاع الطلاق. وعليه لا بد من بيان صور الطلاق بالتراضي المقررة في الفقه الإسلامي وفق ما يأتي([4]):
أولا: حالة الخلع الاتفاقي
وهو صورة من صور الطلاق بالتراضي؛ كونه عقدا ينعقد بإيجاب وقبول، بأن تفتدي الزوجة نفسها ببذل مال للزوج، مع التزامها بذلك المال في مقابل خلاصها من الزوج، فهو بهذا يعتبر معاوضة من جانبها. ومن جانب الزوج يعتبر يمينا؛ لأنه علق طلاق زوجته على قبول المال([5]). واعتبار الخلع معاوضة من جانب الزوجة ويمينا من جانب الزوج يمثل في حدّ ذاته إيجابا وقبولا دالان على الرضا؛ لأن من أهم شروطه أن يتم بالتراضي أو الاختيار من الزوجة، فلا يصح مع الإكراه([6]).
فإذا تم الطلاق بالتراضي عن طريق الخلع فإنه يقع طلقة بائنة ينقص به عدد الطلقات في رأي الحنفية والمالكية، والشافعية في الراجح، وأحمد-في رواية- لقوله تعالى:]فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[([7]). وإنما يكون الفداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولا يكون ذلك إلا بالطلاق البائن. وفي رواية عن الإمام أحمد أن الخلع فسخ فلا ينقص بها عدد الطلقات التي يمتلكها الزوج([8]).
والملاحظ أن الطلاق بالتراضي وفق ما ذهب إليه المشرع الجزائري لا يأخذ نفس صورة الخلع الاتفاقي، كونه أجاز للزوجة اللجوء إلى الخلع دون التوقف على موافقة الزوج.
كما أن صورة الطلاق بالتراضي وفقا لما ذهب إليه المشرع تختلف عن صورة الخلع الاتفاقي من حيث الأثر الشرعي المترتب على الخلع الاتفاقي وهو الطلاق البائن على رأي الجمهور، ومن ثم فلا رجعة إلا بعقد ومهر جديدين.
ثانيا: حالة الطلاق على مال
يطلق الخلع في الفقه الإسلامي، فيراد به أحيانا معنى عام، وهو الطلاق على مال تفتدي به الزوجة نفسها، وتقدمه لزوجها سواء أكان بلفظ الخلع أو المبارأة، أم كان بلفظ الطلاق، وأحيانا يطلق ويراد به معنى خاص، وهو الطلاق على مال بلفظ الخلع، أو ما في معناه كالمبارأة، فكان الطلاق على مال بلفظ الطلاق قسيم الخلع، ولم يكن هذا شاملا له داخلا في عمومه. والأحكام المنصوص عليها بعضها يعم، والآخر يخص الطلاق على مال بلفظ الخلع والمبارأة([9]).
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخلع غير الطلاق على مال، وذهب الشافعية إلى أنه لا فرق بينهما، فهما اسمان لشيء واحد وهو الفرقة في مقابلة مال تعطيه الزوجة لزوجها([10]).
وفيما يلي بيان الفرق بين الخلع والطلاق على مال:
أ- إن كان الخلع على عوض باطل شرعا([11])، فلا شيء للزوج، ويقع الطلاق بائنا. أما إذا بطل العوض في الطلاق على مال فيقع طلاقا رجعيا عند الحنفية، ولا يجب شيء للزوج على زوجته في مقابل هذا الطلاق.
ب- يسقط الخلع-في رأي أبي حنيفة- كل الحقوق الواجبة لأحد الزوجين على الآخر، كالمهر والنفقة الماضية، لكن لا تسقط نفقة العدة؛ لأنها لم تكن واجبة قبل الخلع. أما الطلاق على مال فلا يسقط به شيء من حقوق الزوجية.
ج- الخلع مختلف في صفته؛ فهو عند الجمهور طلاق بائن، يحتسب به عدد الطلقات، وعند الإمام أحمد-في رواية- فسخ، فلا ينقص من عدد الطلقات. أما الطلاق على مال فلا خلاف في كونه طلاقا بائنا ينقص به عدد الطلقات.
إلا أنه ينحل بهما قيد الزواج في الحال، ويجب بكل منهما العوض الذي اتفق عليه الطرفان في مقابل الخلع أو الطلاق، وتلتزم الزوجة في كل منهما بالبدل ما دامت أهلا للتبرع([12]).
وما دام الطلاق على مال يقع بائنا (وهو صورة للطلاق بالتراضي)، فإن ما ذهب إليه المشرع الجزائري مخالف للقواعد الشرعية في الرجعة، إذ لا رجعة في هذه الصورة إلا بمهر وعقد جديدين.
ثالثا: حالة تفويض الزوجة في الطلاق
يملك الزوج طلاق زوجته، فله أن يتولاه بنفسه أو بواسطة غيره، وهذا الغير قد يكون هو الزوجة نفسها، وتسمى بذلك الزوجة مفوضة([13]). وذلك بأن ينيب الزوج زوجته في تطليق نفسها.
وقد أجاز جمهور الفقهاء([14]) التفويض في الطلاق، فيجوز للرجل أن يجعل للمرأة حق تطليق نفسها من غير أن يسلب ذلك الحق عن نفسه، وذلك بأن يفوض لها أمر طلاق نفسها إن شاءت، وقد يشترط لها ذلك عند العقد، بأن يقول لها عند إنشاء العقد: إذا تم عقد الزواج بيننا فأمرك بيدك تطلقين نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها متى شاءت، ولا تطلقها إلا واحدة رجعية، وليس لها أن تكرر ذلك إلا إذا كان قد أذن لها بالتكرار، وكما أن التفويض يصح عند إنشاء العقد يصح بعد تمام العقد أثناء قيام الحياة الزوجية([15]).
وتتجلى صورة التراضي في طلاق التفويض في إحدى صيغه الآتية([16]):
أولا: إذا اقترن التفويض بما يدل على التعميم، كأن يقول لها: جعلت لك أن تطلقي نفسك متى شئت، فللزوجة أن تختار نفسها متى شاءت، سواء كانت حاضرة حين التفويض أم كانت غائبة، وذلك لأنه ملكها هذا الحق تمليكا عاماّ فتملكه عامّا كما ملكه لها. ومتى اختارت نفسها كان الطلاق بالتراضي.
ثانيا: إذا اقترنت بما يدل على التخصيص بوقت دون وقت، أو بحالة دون حالة، كأن يقول لها جعلت لك أن تطلقي نفسك في أثناء شهر، ففي هذه الصورة تملك أن تطلق نفسها في الوقت الذي حدده لها، فإذا فات الوقت فلا تملك بعدها تطليق نفسها. وعلى هذا فاختيارها لنفسها في هذه الحالة يدل على رضاها بالطلاق.
ثالثا: إذا كانت عبارة التفويض مطلقة غير مقرونة بما يدل على التعميم ولا يدل على التخصيص، كأن يقول لها جعلت لك أن تطلقي نفسك ولا يزيد على ذلك، فإن الزوجة تملك تطليق نفسها في مجلس التفويض نفسه إن كانت حاضرة فيه، واختيارها طلاق نفسها في هذه الحالة يمثل صورة الطلاق بالتراضي.
وحكمه([17]): أنه يقع بالصريح طلقة واحدة رجعية، إلا إذا كان قبل الدخول فيقع بائنا، وإن كان التفويض في مقابل مال، فإنه يقع بائنا أيضا، وإن كان مكملا للثلاث، وقعت به بينونة كبرى.
ويقع بالكناية طلاقا بائنا لأنه لا يتم لها اختيارها لنفسها، أو يكون أمرها بيدها إلا بالبينونة، وإذا نوى به الثلاث وقع إذا كان بلفظ أمرك بيدك، أما إذا كان بلفظ "اختاري" فلا تصح نية الثلاث. وعند الإمام مالك إذا كان الخيار مطلقا فليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث([18]).
كما قد يأخذ الطلاق بالتراضي صورة مجردة عن أي سبب من نشوز أو إعراض من أحد الزوجين أو من كليهما، كأن تعترضهما عقبات وعوائق خارجة عن إرادتهما، فتجعل أحدهما أو كليهما غير قادر على الاستمرار في هذه العلاقة فتكون بذلك إرادة الطرفين متحدة من أجل إحداث الأثر القانوني المتمثل في الطلاق بالتراضي.
وحكم هذه الصورة أن الطلاق يقع رجعيا لاحتمال تغير الظروف والأسباب التي من شأنها أن تنصلح الحال بها. وتستحق بها المطلقة المتعة تخفيفا لها عن ألم الفراق.
وعلى هذا ينبغي قضاء تكييف صورة التراضي على الطلاق وترتيب الأحكام والآثار الشرعية والمادية وفقا لذلك.
ثانيا: الجانب القانوني
كثيرا ما يحدث الطلاق بالتراضي بين الزوجين اللذين يفضلان المحافظة على أسرار العلاقات التي بنيت بينهما، ويتم نتيجة تنازلات متبادلة بينهما، وعلى القاضي -في هذه الحالة- أن يحدد العناصر التي تم الاتفاق بشأنها لأن توحيد إرادة كلا من الزوجين على الطلاق مع الموافقة على جميع آثاره يجعل من القاضي موثقا يوثق إرادة الطرفين في حكم يعد إشهادا لا يوصف بما توصف به الأحكام عادة. وهذا ما تجلى من خلال قرارات المحكمة العليا بهذا الشأن منها: القرار المؤرخ في 19/4/1994 والذي جاء فيه:"من المقرر قانونا أن الصلح عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان به نزاعا محتملا، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التبادل عن حقه.
ومن المقرر أيضا أن الصلح ينهي النزاعات التي يتناولها ويترتب عليه إسقاط الحقوق والادعاءات التي تنازل عنها أحد الطرفين بصفة نهائية. ومتى تبين في قضية الحال أن قضاة المجلس لما قبلوا استئناف الحكم القاضي بالصلح المقام بين الطرفين والذي شهدت عليه المحكمة أخطأوا في تطبيق القانون، لأن الاستئناف لا يرفع إلا ضد الأحكام التي صدرت إثر نزاع بين الأطراف بخلاف الصلح الذي يبرم بين الأطراف الذين جعلوا حدّا للنزاع، وأن دور المحكمة ينحصر في مراقبة صحة وسلامة هذا الصلح، لأن الصلح عقد ينهي به الأطراف نزاعا قائما طبقا لأحكام المادتين 459 و 462 من القانون المدني، ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"([19]).
وفي معرض تأسيسها أكدت المحكمة العليا بشأن هذا القرار أن الاستئناف لا يرفع إلا ضد الأحكام التي صدرت إثر نزاع بين الأطراف بخلاف الصلح الذي يبرم بين الأطراف الذين جعلوا حدّا للنزاع، وأن دور المحكمة ينحصر في مراقبة صحة وسلامة هذا الصلح لأن هذا الأخير عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما طبقا للمادة 459 من القانون المدني([20])، كما أنه ينهي النزاعات التي يتناولها مثل ما نصت عليه المادة 462 من نفس القانون([21]).
يستشف من خلال هذا القرار أن المحكمة العليا اعتبرت ما يلي:
- الطلاق بالتراضي هو عقد صلح ينهي نزاعا قائما بين الطرفين.
- دور القاضي في تجسيد الصلح (الطلاق بالتراضي) يكون بمراقبة صحته وسلامته.
- الطلاق بالتراضي غير قابل للاستئناف([22]).
المآخذ القانونية على هذا القرار
يؤخذ على هذا القرار أنه حاول توظيف بعض الشروط والآثار التي لا تنجسم في الحقيقة وطبيعة صورة الطلاق بالتراضي، فاعتبار الطلاق بالتراضي عقد صلح ينهي نزاعا قائما بين الطرفين على مقتضى المادة 459 من القانون المدني أمر غير مستساغ، حيث يصبح الطلاق بالتراضي تتويجا قضائيا لنزاع قضائي أيضا، في الوقت الذي تتحدث فيه المادة 459 من القانون المدني عن الصلح الذي يسبق اللجوء إلى الحماية القضائية وينهي نزاعا لم يطرح بعد أمام القاضي، فالاقتباس من هذه المادة قد يصلح في مجال تنازل كل من الطرفين عن حقوقهما على وجه التبادل، ولكن ليس معنى ذلك اتقاء لنزاع أو إنهاء له، لأنه موجود ومطروح للنظر فيه من قبل القاضي([23]).
كما يؤخذ على هذا القرار أيضا أنه خول للقاضي مهمة مراقبة صحة وسلامة الصلح-أي الطلاق بالتراضي-وحصرها في ذلك، ثم أكد أن الحكم المتوج لذلك ليس قابلا للاستئناف، وفي هذه الفكرة يُلحظ التناقض الواضح، إذ كيف تُعطى للقاضي صلاحية مراقبة صحة وسلامة الصلح-الطلاق بالتراضي- ثم يجعل من مراقبته هاته غير قابلة للمراجعة من طرف المجلس القضائي، الذي قد يبطل شروطا أو يعلن عدم سلامة الصلح في مسائل معينة قد تكون هامة للطرفين أو لأحد منهما، وفي ذلك مساس بالمبدأ الدستوري القائل بالتقاضي على درجتين، زيادة على أن المادة 459 وما يليها من القانون المدني الذي استند عليها هذا القرار لم يتطرق لدور القاضي في مراقبة صحة وسلامة هذا العقد.
كما يطرح القرار إشكالية أخرى تخص مصطلحين متشابهين لغويا وهما عقد الصلح المشار إليه على أنه الطلاق بالتراضي وكذا الصلح الذي يقوم به القاضي بحضور الطرفين في حدود ما هو مخول له القيام به طبقا للمادة 49 من قانون الأسرة لإقناعهما العدول عن فكرة الطلاق حتى ولو كانا متفقين عليه.
من أجل ذلك واعتبارا للنقاط المثارة يمكن القول أن الاقتباس الذي جاء به قرار المحكمة الصادر في 19/4/1994 كونه عقد صلح طبقا للمادة 459 وما يليها من القانون المدني لم يكن موفقا لوجود اختلاف كبير في المفهوم القانوني والآثار المحددة للطلاق بالتراضي.
ومعالجة للثغرات التي وجدت في القرار - السابق ذكره- صدر قرار آخر في 23/5/2000 مبني على أساس المادة 48 من قانون الأسرة إذ جاء فيه ما يلي:"من المقرر قانونا أن الطلاق بالتراضي هو إشهاد من المحكمة على رغبة الطرفين في الطلاق ولا يوصف بالابتدائية أو النهائية ولا يحق لأي من الزوجين الطعن فيه إلا عن طريق دعوى التزوير"([24]).
فالواضح أن ما ذهبت إليه المحكمة العليا في هذا القرار أكثر دقة وسلامة، إذ جاء ترسيخا لمبدأ التراضي في إحداث الأثر القانوني. إذ لم يكن الاقتباس من القانون المدني موفقا في هذا الشأن، فأخرج هذا القرار الطلاق بالتراضي كصورة مستحدثة من دائرة التعامل المدني القائم على الصلح، وجعل لها اجتهادا خاصا لخصوصيتها أيضا نابع من المادة 48 من قانون الأسرة، وعليه فقد اعتبر هذا القرار صورة الطلاق بالتراضي:
- مجرد إشهاد عن رغبة الطرفين في الطلاق وليس عقد صلح ينهي نزاعا قائما.
- كما حصر دور القاضي في توثيق إرادة الطرفين في إحداث الأثر القانوني ولا يتعداه إلى مراقبة صحة وسلامة ما اتفق عليه. وفي ذلك تفعيل للهدف المرجو من استحداث هذه الصورة، حتى لا تكون هناك عقبات أمام الطرفين في جوانب متفق عليها ما لم تكن مخالفة للنظام العام والآداب العامة وفي حدود الشريعة الإسلامية([25]).
- الطلاق بالتراضي لا يوصف لا بالابتدائية ولا بالنهائية، وهو بذلك يختلف عن باقي الأحكام في جعله مجرد إشهاد.
أما ما يمكن إبداؤه من ملاحظات من الناحية الشرعية حول ما ذهب إليه المشرع الجزائري في صورة الطلاق بالتراضي، فيتمثل ذلك في أمرين أساسيين:
الأول: الأثر القانوني المترتب على الطلاق بإرادة الزوج المنفردة من إمكانية الرجعة دون عقد جديد قبل صدور الحكم بالطلاق، وبعقد جديد بعد صدور الحكم ما لم يكن هذا الطلاق مكملا للثلاث، هو نفسه ينطبق على صورة الطلاق بالتراضي. وهذا ما جاء في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ: 18/07/1988:"من المقرر قانونا أن الطلاق يمكن أن يتم بتراضي الزوجين ولا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي ومن راجع زوجته بعد صدور الحكم بالطلاق يحتاج إلى عقد جديد ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون. ولما كان ثابتا – في قضية الحال – أن قضاة الموضوع لما قضوا برجوع الزوجة رغم أن الطلاق وقع بالتراضي بينهما وتم إثباته بحكم وبقضائهم كما فعلوا خالفوا القانون. ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه"([26]).
إلا أن المشرع قد خالف ما هو مقرر في الفقه الإسلامي من أن الطلاق بالتراضي الذي يتم عن طريق الخلع، أو الطلاق على مال أو تفويض الزوجة في الطلاق على مال، ففي كل هذه الحالات يقع طلقة بائنة، ومنه لا تجوز الرجعة إلا بعقد جديد حتى ولو لم يصدر حكم الطلاق بذلك من الناحية القانونية.
فكان الأولى بالمشرع أن يكيف الطلاق بالتراضي وفق الاتفاق الذي تم بين الزوجين، ويرتب الأثر الشرعي والقانوني وفقا لذلك.
الثاني: ويتعلق بالتعويض الذي أقره المشرع للمطلقة تعسفيا باسم المتعة، ومنه ففي حالة الطلاق بالتراضي لا تستحق المطلقة تعويضا، و إذا قضت المحكمة بخلاف ذلك يكون حكمها معرضا للنقض.
أما شرعا فتستحق كل مطلقة متعة الطلاق([27])، ما لم يكن الطلاق الواقع عليها طلاقا على مال أو بواسطة الخلع، لأن المرأة هي التي تلتزم بالفداء -في هاتين الحالتين- إذا خرجت من سلطان زوجها.
[3]- يكمن الفرق الأساسي بين الطلاق بإرادة الزوج والطلاق بالتراضي في موافقة أحد الزوجين لطلب الآخر على الانفصال وعلى ودية إحداث الفرقة، سواء كان بعوض أم بدونه، عكس الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج الذي يقع رغم رفض الزوجة الانفصال، فإرادة الزوجة في هذه الحالة ليست محل اعتبار، وتوافر رضاها من عدمه لا يغير في الموقف شيء. والأمر نفسه بالنسبة لطلب الفرقة من الزوجة تطليقا أو خلعا فليس ضروريا توافر رضا الزوج.كما أنه في صور الطلاق بالتراضي يتقلص دور القضاء عكس ما يلحظ في صورتي طلاق الزوج أو تطليق القاضي.
[4]- إضافة إلى صور الطلاق بالتراضي المنصوص عليها في الفقه الإسلامي، والتي تترتب على كل منها آثارها الشرعية من حيث وقوع الطلاق فيها رجعيا أو بائنا. هناك صورة قد تحدث حال اتفاق الزوجين على فسخ عقد الزواج المدني لسبب أو لآخر، دون نية أو تلفظ الزوج بلفظ الطلاق، فإنه في هذه الحالة يكون طلاقا صوريا شرعا، وطلاقا رسميا قانونا، وهذه الصورة لم يتكلم عليها الفقهاء القدامى، كون عقود الزواج لم تكن تسجل في زمانهم، وأن وقوع الطلاق لا يخضع لإشراف القضاء. فهذه حالة نادرة الوقوع، إلا أن حكمها يختلف بين الفقه والقانون. لأنه على القول بعدم وقوع الطلاق شرعا فإنه لا يترتب على ذلك أي أثر شرعي، أما قانونا فيسري على حكم هذه الحالة ما يسري على باقي طرق إيقاع الطلاق إذا صدر حكم قضائي بها. وقد رجح الصابوني عدم وقوع الطلاق الصوري. مدى حرية الزوجين في الطلاق، 1/317.
[6]- الخلاف واقع فيما إذا لم يرض الزوج على الخلع، هل للحاكم أن يجبره أم ليس له ذلك؟ وتفصيل هذه المسألة سيأتي لاحقا.
[9]- اختار الشيخ أبو زهرة المعنى العام للخلع.الأحوال الشخصية، ص 329. وذهب السيد سابق إلى اختيار المعنى الخاص، إذ يرى أن:" الفقهاء يرون أنه لا بد في الخلع من أن يكون بلفظ الخلع أو بلفظ مشتق منه، أو لفظ يؤدي معناه، مثل المبارأة والفدية، فإذا لم يكن بلفظ الخلع ولا بلفظ فيه معناه، كأن يقول لها: أنت طالق في مقابل مبلغ كذا وقبلت، كان طلاقه على مال ولم يكن خلعا".فقه السنة، 2/192.
[10]- انظر، سامح سيد محمد: الخلع بين المذاهب الفقهية الأربعة والقانون المصري، دار أبو المجد للطباعة، القاهرة، ط2، 2005، ص 111.
[12]- انظر، سامح سيد محمد: المرجع السابق، ص 111-113. حسن موسى الحاج موسى: المرجع السابق، ص 154. منال محمود المنشي: الخلع في قانون الأحوال الشخصية، دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون، دار الثقافة للنشر، عمان ،الأردن، 2008، ص 58-59.
[14]- انظر، ابن رشد: المصدر السابق، 2/71. ابن قدامة: المصدر السابق، 10/381. الشربيني: المصدر السابق، 3/377.
[15]- انظر، أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، دار الفكر العربي، القاهرة،(دط،دت)، ص 97. الأحوال الشخصية، ص 324.
[16]- انظر، شلبي: أحكام الأسرة في الإسلامي، ص 544-545. حسن موسى الحاج موسى: نفس المرجع السابق، ص 130-131.
[20]- حيث نصت على أن :" الصلح عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان به نزاعا محتملا، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التبادل عن حقه". الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 26/9/1975 المتضمن القانون المدني المعدل والمتمم.
[21]- حيث نصت على أنه:" ينهي الصلح النزاعات التي يتناولها ويترتب عليه إسقاط الحقوق والادعاءات التي تنازل عنها أحد الطرفين بصفة نهائية". الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 26/9/1975 المتضمن القانون المدني المعدل والمتمم.
[22]- ولذلك جاء في المادة 57 من نفس القانون التي عدلت كما يلي:" تكون الأحكام الصادرة في دعاوى الطلاق والتطليق والخلع غير قابلة للاستئناف فيما عدا جوانبها المادية". فالمادة عددت على سبيل الحصر الصور التي تكون غير قابلة للاستئناف فيما عدا جوانبها المادية وهي الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج والتطليق والخلع، ولم تذكر صورة الطلاق بالتراضي، وفي ذلك تأكيد على أن هذه الصورة لا يسري عليها ما يسري على باقي الصور الأخرى، باعتبارها مجرد إشهاد فهي لا توصف بالابتدائية ولا بالنهائية، وليست بذلك قابلة للاستئناف لا من حيث الطلاق ولا من حيث جوانبها المادية.
[23]- غير أن مفهوم الصلح في الفقه الإسلامي يؤدي إلى إنهاء النزاع وفض الخصومة بأثر إيجابي، ينتهي بعودة الحال إلى ما كانت عليه قبل التخاصم أو إلى أحسن منها. والتصالح المذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى:]وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير[ النساء:الآية 128. يعني أن الصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة. وعلى هذا فإن تنازل الزوجة عن بعض حقوقها لزوجها يكون من أجل الحفاظ على الرابطة الزوجية. وعلى هذا يختلف مفهوم الصلح في الآية الكريمة عن مفهومه من خلال المادة 459 من القانون المدني التي ينهي بموجبها النزاع القائم بغض النظر عن أثره السلبي أو الإيجابي، كما جاء مفهومه السلبي (الانفصال) في القرار الصادر عن المحكمة العليا والمؤرخ في 19/4/1994.
[25]- يشترط على القاضي إجراء محاولة صلح و ذلك للتأكد من عزم الزوجين على الطلاق. كما يمكن أن يتفقا على آثار الطلاق كحضانة الأولاد و حق الزيارة و نفقة الأولاد و تحديد النفقة، غير أنه يشترط في كل ذلك أن لا يكون هذا الاتفاق منافيا لمصلحة الأولاد و إلا حكم القاضي بخلاف ذلك.
[27]- ذهب المالكية في الصحيح إلى أن المرأة (المملكة والمخيرة) إذا أوقعت الطلاق على نفسها لا تستحق المتعة، لأنها متسببة في وقوع الفرقة باختيارها، فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها. كما أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة كامرأة المجذوم والعنين، ولا الفسخ ولا المختلعة ولا الملاعنة. انظر، الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/83.
-
-
-
المحاضرة السابعة:
الخلع في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
تنص المادة 54 من قانون الأسرة الجزائري على أنه:"يجوز للزوجة دون موافقة الزوج أن تخالع نفسها بمقابل مالي.إذا لم يتفق الزوجان على المقابل المالي للخلع، يحكم القاضي بما لا يتجاوز قيمة صداق المثل وقت صدور الحكم"([1]).
يتضح من خلال نص هذه المادة أن المشرع الجزائري أجاز للزوجة أن تطلب إنهاء الرابطة الزوجية مقابل مبلغ مالي تعرضه على الزوج، فإن قَبِل به يتم اعتماده من القاضي، وإن لم يقبل به يتم تحديده من طرف القاضي بما لا يتجاوز قيمة صداق المثل وقت صدور الحكم.كما يفهم من نص المادة أنها لم تلزم الزوجة تقديم أسباب طلب الخلع بإيراد الوقائع المؤدية إلى إحداث الضرر الموجب للخلع، حيث انحصر دور القاضي في تحديد قيمة المقابل المالي عند عدم الاتفاق عليه بين الزوجين.
كما يلاحظ أيضا من خلال هذه المادة أن المشرع الجزائري قد ارتقى بالخلع ليجعل منه حقا أصيلا للزوجة دون موافقة الزوج مقابل حق الزوج في الطلاق بعد أن كان رخصة تستعملها الزوجة عند الحاجة لذلك.وعلى هذا –ففي نظر المشرع- أن ربط الخلع برضا الزوج هو تقييد للحق الممنوح للمرأة في طلب الخلع، وحتى لا يتعسف الزوج في استعمال حقه في الرضا مما يفتح باب الابتزاز والاستغلال.
والملاحظ أيضا أن تعديل المادة 54 أصبح يوجب على القاضي أن يحكم للزوجة بالتطليق مقابل مال تحت تسمية خلع بمجرد طلبه، وبمجرد عرض مبلغ من المال مقابل الخلع دون أي اعتبار لإرادة الزوج أو عدم موافقته. وتبعا لذلك فإن التعديل الحالي لم يهمل فقط إرادة الزوج في مسألة الخلع وإنما أقر تغييبها وإهمالها أيضا في مسألة مقابل الخلع، حيث نصت الفقرة الثانية من هذه المادة:"على أنه إذا لم يتفق الزوجان على المقابل المالي للخلع يحكم القاضي بما لا يتجاوز قيمة صداق المثل وقت صدور الحكم". ومن ثم فلا عبرة لعدم قبول الزوج وأنه يجوز للقاضي في مثل هذه الحال أن يترك إرادة الزوج جانبا وأن يحكم للزوج بمبلغ لا يجوز أن يتجاوز قيمة صداق المثل وقت صدور الحكم([2]).
كما أن هذه المادة قد جاءت عارية من كل قيد أو شرط، فلم تبين الشروط الواجب توافرها في المختلعة، ولا القيود الواردة على حق اللجوء إلى الخلع، ولا الآثار المترتبة عليه ولا طبيعة آثاره. ومنه فإن هذه المادة بشأن الخلع تطرح عدة إشكاليات فقهية يعالجها الفقه الإسلامي، ومن ثم يكون لزاما التطرق لهذه الجزئيات التي أغفلها المشرع الجزائري، وذلك قصد معرفة مدى توافق المادة 54 من قانون الأسرة مع أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف الخلع وبيان حكمة مشروعيته وحكمه
ويتم تناول عناصر الخلع -كصورة لفك الرابطة الزوجية- لمعرفة حقيقته وماهيته وفق ما يأتي:
الفرع الأول: تعريف الخلع لغة واصطلاحا
أولا: في اللغة
الخلع هو: الإزالة والنزع، يقال: خلع الرجل ثوبه ونعله، وخلع عليه إذا نزع ثوبه، وخالعت فلانة بعلها فهي خالع إذا افتدت منه.
والاسم: الخلعة، وقد تخالعا، وخلع امرأته خلعا بالضم، وخلاعا، واختلعت منه اختلاعا، فهي مختلعة، ويقال: خلع امرأته وخالعها إذا افتدت منه بمال وطلقها وأبانها من نفسه، وسمي ذلك الفراق خلعا استعارة من خلع اللباس([3])، قال تعالى:] هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [([4])، ولأن كل واحد منهما لباس للآخر، فإذا تحلل أيهما من صاحبه بفعل هذا فكأنه نزع لباسه عنه([5]).
ثانيا: في الاصطلاح الفقهي
عرف فقهاء المذاهب الخلع بتعاريف متعددة منها:
عرفه الحنفية بأنه:"إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبول المرأة بلفظ الخلع أو ما في معناه"، أو هو"عبارة عن أخذ المال بإزالة ملك النكاح بلفظ الخلع"([6]). فقولهم "إزالة ملك النكاح" خرج به أمور ثلاثة([7]):
الأول: إذا خالعها في العدة بعد إبانتها فإن الخلع لا يصح، وذلك لأن ملك النكاح قد زال بإبانتها، فلو خالعها بمال ثم خالعها في العدة بمال آخر فإن الخلع لا يصح.
الثاني: المرتدة إذا خالعها زوجها فإن الخلع لا يصح، لأن الردة أزالت ملك النكاح، والخلع هو إزالة الملك فلم يتحقق معناه.
الثالث: النكاح الفاسد، فإذا نكح امرأة نكاحا فاسدا ووطئها فإن المهر يتقرر لها بالوطء، فإن خالعته على مهرها فإن الخلع لا يصح.
وقولهم"المتوقفة على قبول المرأة"؛ معناه أن إزالة ملك النكاح بالخلع متوقفة على قبول المرأة في المجلس الذي شافهها فيه بالخلع أو في المجلس الذي علمت فيه بالخلع إن خالعها وهي غائبة، فإن لم تقبل الخلع لا يزول ملك النكاح، وهذا مشروط بأحد أمرين: أن يذكر المال صريحا، أو أن يذكر لفظا يتضمن المال([8]).
وعرفه المالكية بأنه:"الطلاق بعوض"([9]). فقولهم "الطلاق" شمل الطلاق بأنواعه، وهو الصريح والكناية الظاهرة، أو أي لفظ آخر كان بنية الطلاق. وعرفه ابن رشد بأنه:"بذل المرأة العوض على طلاقها"([10])، وعرفه ابن عرفة بأنه:"معاوضة على البضع تملك به المرأة نفسها، ويملك به الزوج العوض"([11]).
كما عرفه الشافعية بأنه:"فرقة بين الزوجين بعوض مقصود راجع لجهة الزوج بلفظ طلاق أو خلع"، أو هو "اللفظ الدال على الفراق بين الزوجين بعوض"([12]).
وعرفه الحنابلة بأنه:"فراق زوجته بعوض بألفاظ مخصوصة"([13]).
وأما الخلع عند الظاهرية فهو:"الافتداء إذا كرهت المرأة زوجها فخافت أن لا توفيه حقه أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها"([14]).
ويلاحظ من هذه التعريفات السابقة اتفاق كل من التعريف اللغوي والتعريف الفقهي في بيان مقصود الخلع، وكونه فرقة بطلب المرأة مقابل عوض تلتزمه لزوجها لتحصيل طلاقها، وبذلك تملك أمر نفسها.
الفرع الثاني: دليل مشروعية الخلع
ثبتت مشروعية الخلع بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أولا: الكتاب
قوله تعالى:] وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ[([15]).
ووجه الدلالة من الآية أنها تفيد نهي الله -عز وجل- للأزواج عن أخذ ما دفعوه لزوجاتهن كالصداق بقوله تعالى:]وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا[، إلا أن الشارع الحكيم خص هذا النهي العام بضابط هو نشوز المرأة وإظهارها البغضاء لزوجها حتى يُخاف عليها ترك طاعة الله فيما فرض عليها من حق له بأن تستعصي عليه غير ممتثلة لأوامره وتسيء صحبته وتنفر من عشرته فاتفقا على الفراق مقابل ردّ ما أصدقها الزوج، ولا حرج على المرأة أن تفتدي نفسها، ولا حرج على الزوج في أخذ ما افتدت به نفسها مقابل تحصيل رغبتها بطلب الفرقة([16]).
وقوله عز وجل:]وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا[([17]). فدلت الآية بعموم خطابها على جواز هبة المرأة مهرها لزوجها إذا كان بطيب نفس منها([18])، بقطع النظر عن زمن العطاء هل يكون في الخلع أم لا ومن ثم جوازه في الخلع وغيره ؟.
ثانيا: السنة
حيث وردت عدة أحاديث تشير إلى تطبيق الخلع منذ عهد الرسول r منها ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي r فقالت:يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله r:" أتردين عليه حديقته"؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله r:"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"([19]).
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن الأمر الوارد في قوله r:"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" يدل على جواز الخلع، ومن ثم مشروعيته إذا كرهت المرأة زوجها، الأمر المفضي إلى كفران العشير، وعدم القيام بحق الله فيه، ويعد هذا أول خلع وقع في الإسلام([20]).
ثالثا: الإجماع
انعقد إجماع الصحابة على مشروعية الخلع وجوازه، وعلى ذلك علماء الأمة الإسلامية إذا توافرت شروطه الشرعية([21]). قال القرطبي:"وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم وهو الأمر المجمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها ولم تأت من قبله وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به كما فعل النبي r في امرأة ثابت بن قيس"([22]).
رابعا: المعقول، ويستدل به من وجوه:
الأول: إذا كانت الزوجة متضررة باستمرار حياتها الزوجية والبقاء مع زوجها وتريد إزالة هذا الضرر بالطلاق خلعا كان عليها في المقابل أن تزيل ما سيقع من ضرر على الزوج إذا طلقها، وذلك ببذلها العوض كمقابل يزيل عنه الأضرار المادية في محاولة منها للتخفيف لا سيما إذا كان الرجل غير راغب في الفرقة.
الثاني: إذا كان للزوج أن يملك الانتفاع بالبضع بمقابل هو المهر حال الزواج، جاز له أن يزيل ملكه بمقابل هو العوض حال الخلع([23]).
الثالث: إذا كان من حق المرأة أن تهب مهرها لزوجها من غير فائدة تعود عليها، جاز لها بالأولى أن تعطيه الفداء لتملك به نفسها([24]).
الفرع الثالث: حكمة تشريع الخلع
قد تتبدل الحاجات الزوجية نتيجة وقوع الخلافات بين الزوجين فيزول مقصود الزواج الحقيقي من المودة والسكينة المنشودة إلى الشقاق المستمر بين الزوجين، مما يؤدي إلى التنافر والتشاجر ببغض الرجل لزوجته أو بغضها له أو الاثنين معا.
والإسلام في هذه الحال يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية، وذلك كما في قوله تعالى:] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[([25]). فإذا اشتد الخصام وعسُر العلاج ونفذ الصبر وأصبحت الحياة الزوجية غير قابلة للإصلاح، حينئذ رخص الإسلام بالعلاج الوحيد الذي لا بد منه.
فإن كانت الكراهية من جهة الرجل، فبيده الطلاق، وهو حق من حقوقه يستعمله في حدود ما شرع له. وإن كانت الكراهية من جهة المرأة فخافت ألا تقيم حدود الله فيه بطاعتها له وحسن صحبته، فقد أباح لها الإسلام التخلص من الزوجية بطريق الخلع، ومن ثم إزالة الضرر الواقع عليها، وذلك بأن تعطي الزوج ما كانت أخذت منه باسم الزوجية لتنهي علاقتها به.
وإن كانت الكراهية منهما معا: فإن طلب الزوج التفريق فبيده الطلاق وعليه تبعاته، وإن طلبت الزوجة الفرقة فبيدها الخلع وعليها تبعاته كذلك([26]).
الفرع الرابع: الحكم الشرعي للخلع
يعتري الخلع مجموعة من الأحكام التكليفية تختلف باختلاف الحالة التي يقع فيها بين الزوجين:
أولا: الخلع المباح
يكون طلب المرأة الخلع مباحا في حالات أو بمتطلبات شرعية مختلف فيها بين الفقهاء، فالبعض أجازه مطلقا دون قيد أو شرط، والبعض الآخر أجازه مشروطا، وهؤلاء اختلفوا-أيضا- في صورة القيد، فمنهم من أقرنه بكراهية الزوجة وخوفها، ومنهم من قيده بوقوع الشقاق بين الزوجين، ومنهم من جعل صورة القيد وقوع الزوجة في الفاحشة، وذلك على أقوال:
القول الأول: ذهب أئمة المذاهب الأربعة([27]) إلى جواز الخلع في حالة وقوع الشقاق بين الزوجين أو حالة كراهية المرأة لزوجها لعيوب ظاهرة أو باطنة كنقص دينه أو خلقه أو لمرض أو كبر ونحو ذلك مما يحيق بنفس المرأة ولا ترضاه فتخشى معه معصية الله -عز وجل- بعدم طاعة زوجها متعدية بذلك حدود الله، وكذلك يجوز الخلع بالتراضي بين الزوجين، وإن لم يخف كل منهما نشوزا ولا إعراضا ولا خافا ألا يقيما حدود الله.
قال البهوتي:"ويباح الخلع لسوء عشرة بين زوجين بأن صار كل منهما كارها للآخر لا يحسن صحبته.. ويباح الخلع لمبغضة زوجها تخشى أن لا تقيم حدود الله في حقه..ويصح مع استقامة حال الزوجين"([28]).
واستدلوا على ذلك زيادة على الأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة والتي تفيد مشروعية الخلع، بأن قالوا: إذا كان الخلع رفع عقد وقع بالتراضي بين الزوجين لدفع الضرر جاز من غير وقوع ضرر كالإقالة في البيع([29]).
القول الثاني: للظاهرية، وفيه أن جواز طلب المرأة الخلع مشروط بكراهيتها لزوجها ووجود الشقاق والضرر بينهما عند الخوف من عدم إقامة حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه من طيب العشرة وحسن الصحبة سواء منها أو منهما معا.
واستدلوا بقوله تعالى:] وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[([30]). فالآية تدل بمنطوقها على أن جواز الخلع مشروط بالخوف سواء من الزوجة بكراهيتها، أو من الزوجين معا فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة بينهما، فإذا ما تحقق الشرط صح الخلع، وإلا فلا يصح الخلع، ومن ثم فالخلع مقيد بحالة الشقاق والضرر([31]).
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن ذكر الشقاق أو الخوف في الآية جرى على مجرى الغالب المتعارف بين الناس، وليس على سبيل الشرط؛ لأن الغالب وقوع الخلع في حالة التخاصم والتشاجر بين الزوجين لا في حالة الوفاق والرضا([32]).
القول الثالث: ذهب محمد بن سيرين إلى أن جواز الخلع مشروط مع مشاهدة الفاحشة فليس للزوج أن يأخذ الفدية من زوجته إلا بارتكابها جريمة الزنا([33]).
واستدل بقوله تعالى:]وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [([34]). ووجه الدلالة في الآية أن الخلع يجوز إذا وقعت الزوجة في جريمة الزنا([35]).
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المراد بالفاحشة في الآية بأنها النشوز والعصيان كما قال ابن عباس([36])، ويؤيد هذا التفسير الكثير من الأحاديث الصحيحة([37]).
القول الرابع: يجوز الخلع في كل حال سواء حال الوفاق أو وقوع الشقاق بين الزوجين، وحتى وإن كان بالظلم والنشوز من جهة الزوج بإضراره لامرأته([38]).
ونوقش هذا الرأي بأنه على خلاف ظاهر كتاب الله تعالى، وخلاف الخبر الثابت عن رسول الله r، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم([39]).
القول الخامس: لجماعة من التابعين وفيه لا يجوز الخلع حتى يقع الشقاق من الزوجين معا.
واستدلوا بأن مفهوم الآية ]فلا جناح عليهما فيما افتدت به[، يدل على أن إطلاق نفي الجناح أو الإثم في إجراء الخلع مقيد بوقوع الشقاق بين الزوجين جميعا لكراهية كل واحد منهما لصاحبه، فإذا وقع الشقاق والخوف من أحدهما دون الآخر لا يندفع الإثم([40]).
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المراد الحقيقي من الآية هو نشوز المرأة، فإذا لم تقم بحقوق الزوج ترتب على هذا بغض الزوج لها فنسبت المخالفة إليهما معا لذلك، حيث إن كراهية المرأة تؤدي إلى بغض الزوج ومن ثم وقوع الشقاق بينهما([41]).
ثانيا: الخلع المكروه
يكون الخلع مكروها إذا كانت الحياة الزوجية مستقيمة خالية من الشقاق والنزاع، وقامت المرأة بطلب الخلع لغير عذر كبغض أو خشية أن لا تقيم حدود الله في طاعة زوجها. جاء في المغني"ولو خالعته لغير ما ذكرنا-أي لغير حاجة إلى الخلع- كره ووقع"([42]).
ويستدل لهذا الحكم بقوله r:"أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"([43]). ولما روي عنه r أنه قال:"المختلعات هن المنافقات"([44])، فدل الحديثان على كراهية وترهيب المرأة من طلب الخلع وإجرائه لغير سبب يقتضيه([45]). قال ابن قدامة:"وهذا يدل على تحريم المخالعة لغير حاجة، ولأنه إضرار بها وبزوجها، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة"([46]).
كما أن الخلع مع استقامة الحال بين الزوجين نوع من العبث فيكون مكروها لخلو الأحكام الشرعية منه، وفيه إزالة لمقصود الشارع من الزواج لغير حاجة([47]).
ثالثا: الخلع المحرم
إذا ما عضل الزوج زوجته لطلب الخلع، وذلك بمنعها حقوقها أو بعضها من نفقة وكسوة وقسم مع إساءة معاملتها، وغير ذلك من الأسباب المنفرة والدالة على كون النشوز بالترك والمجافاة من جهته دونها طمعا في مخالعتها على شيء من مالها، فإن الخلع يكون حراما باطلا([48]). قال ابن عابدين:"والحق أن الأخذ إذا كان النشوز منه حرام قطعا"([49])، وقال البهوتي:"ويحرم الخلع إن عضلها لتختلع"([50]).
ويستدل لهذا بقوله تعالى:] وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [([51]). فالأمر الوارد في الآية يدل على عدم جواز قهر الرجل لامرأته والإضرار بها في العشرة لتترك له ما أصدقها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليه بالافتداء به([52]).
[1]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"يجوز للزوجة أن تخالع نفسها من زوجها على مال يتم الاتفاق عليه، فإن لم يتفقا على شيء يحكم القاضي بما لا يتجاوز قيمة صداق المثل وقت الحكم".ومن خلال قراءة نص هذه المادة قبل تعديلها نجد أنها تشترط موافقة الزوج، كون طلب الفرقة عن طريق الخلع هو رخصة للزوجة تستعملها لفدية نفسها من الزوج.
[2]-انظر، عبد العزيز سعد:المرجع السابق، 129-130. و يوسف دلاندة:دليل المتقاضي في مادة شؤون الأسرة، ص 63-64.
[3]- ابن منظور: لسان العرب،8/76.
[4]- البقرة: الآية 187.
[5]- ابن عابدين: رد المحتار،3/439.
[6]- الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، 1/519. ابن عابدين: المصدر نفسه،3/439.
[7]- ابن عابدين:المصدر نفسه،3/439،440.
[8]- انظر، سامح سيد محمد: المرجع السابق، 74-75.
[9]- الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/347.
[10]- ابن رشد: بداية المجتهد، 2/66.
[11]- الرصاع: شرح حدود ابن عرفة، ص 275.
[12]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/347.
[13]- البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/335.
[14]- ابن حزم: المحلى، 10/235.
[15]- البقرة: الآية 229.
[16]- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/74. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم،1/274.
[17]- النساء: الآية 4.
[18]- القرطبي: المصدر نفسه، 6/45.
[19]- البخاري: كتاب الطلاق، باب الخلع وكيفية الطلاق فيه، حديث رقم 5273. 3/406. البيهقي: كتاب الخلع والطلاق، باب الوجه الذي تحل به الفدية، حديث رقم 14838. 7/511.
[20]- الشربيني:مغني المحتاج،3/347.
[21]- انظر، ابن رشد:المصدر السابق، 2/66.ابن قدامة: المصدر السابق، 10/268.
[22]- القرطبي: المصدر نفسه، 4/77-78.
[23]- الشربيني: مغني المحتاج،3/347.
[24]- انظر، نجلاء جمعة محمد حسانين: إرادة المرأة في عقد الزواج والطلاق، ص 343.
[25]- النساء: الاية 19.
[26]- انظر، السيد سابق: المرجع السابق، 2/191.
[27]- انظر، ابن قدامة: المغني،10/267.البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/335. ابن رشد:بداية المجتهد،2/66. الشربيني:مغني المحتاج،3/347.
[28]- البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/335.
[29]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/347.
[30]- البقرة:الآية 229.
[31]- ابن حزم: المحلى، 10/236-237.
[32]- انظر، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/79. ابن حجر: فتح الباري، 12/87. الشربيني: مغني المحتاج، 3/347.
[33]- القرطبي: المصدر نفسه، 6/157.
[34]- النساء:الآية 19.
[35]- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم،1/467.
[36]- ابن كثير: المصدر نفسه،1/467.
[37]- الشوكاني: نيل الأوطار، 12/450-451.
[38]- ابن رشد: المصدر السابق،2/68.
[39]- انظر، القرطبي: المصدر نفسه، 4/73.
[40]- انظر، الشوكاني: المصدر نفسه، 12/451.
[41]- انظر، الشوكاني: المصدر نفسه، 12/451.
[42]- ابن قدامة: المغني، 10/270. البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/336.
[43]- سبق تخريجه، ص 485.
[44]- الترمذي: كتاب الطلاق واللعان، باب ماجاء في المختلعات،حديث رقم 1186. 3/484. النسائي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع، بلفظ "المنتزعات والمختلعات هن المنافقات"، حديث رقم 5626. 5/276. ابن حجر: فتح الباري، 12/96.
[45]- انظر، ابن حجر: فتح الباري، 12/96.
[46]- ابن قدامة: المغني، 10/271.
[47]- انظر، البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/336.الشربيني: مغني المحتاج، 3/347.
[48]- البهوتي: المصدر نفسه،5/336. ابن حزم: المحلى، 10/235.
[49]- ابن عابدين: رد المحتار،3/445.
[50]- البهوتي: المصدر نفسه، 5/336.
[51]- النساء: الآية 19.
[52]- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم،1/466.
-
-
-
المحاضرة الثامنة:
القيود الواردة على حق اللجوء إلى الخلع
مما سبق بيانه يمكن استنتاج أهم القيود الواردة على حق اللجوء إلى الخلع بالنسبة للمرأة كوسيلة للخلاص من رابطة الزوجية على وجه لا رجعة فيه للزوج إلا برضاها، فيرتفع بذلك الضرر عنها، وهذا الحق ليس على إطلاقه أيضا كما في حالة الطلاق بالنسبة للرجل، بل ترد عليه قيود تضبطه، أهمها([1]):
أ- يجب أن يكون المقصود من الخلع تحقيق الحكمة التي دعت إلى تشريعه، وهي تمكين الزوجة من الخلاص من رابطة الزوجية عندما يتحقق لها فوات الغرض المقصود من النكاح لعدم التوفيق في حياتها الزوجية، فإن قصد به غير ذلك لم يحل الخلع شرعا، وتطبيقا لذلك يحرم على الزوجة أن تطلب الخلع من غير حاجة مشروعة إليه، فإن سؤال المرأة زوجها الطلاق بغير ما بأس يعدّ إثما لقوله r:" أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"([2]).
كما أنه لا يحقق الخلع حكمته المشروعة في حال نشوز الزوج؛ لأن للزوج أن يطلق من غير حاجة لرضا الزوجة ودفعها بدلا، وقد أجمع الفقهاء على أن الخلع لا يحل إذا كان النشوز من الزوج، حتى لا يدفعها لأن تفتدي نفسها بمالها، قال ابن قدامة"([3]):" فإن عضل زوجته وضارها بالضرب والتضييق عليه، أو منعها حقوقها من النفقة والقسم ونحو ذلك لتفتدي نفسها منه ففعلت فالخلع باطل والعوض مردود"([4]) لقوله تعالى:]وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ[([5])، وقوله تعالى:] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا[([6]).
ب- ألا يترتب على الخلع ضرر بالغير، وهذا الضرر قد يلحق الزوجة، كما قد يلحق غيرها، وقد عمل الفقهاء فيما قرروه من الأحكام على منعه، والقاعدة في ذلك هي أن ما شمله الاتفاق على الخلع يسري على الطرفين إلا في الحالة التي تضر بالغير، فإن اتفاق الزوجين يتقيد من نفسه بما لا يمس حق غيرهما، وذلك يرجع إلى أن حق الغير محافظ عليه شرعا ولو عند استعمال الإنسان لخالص حقه. ومن أمثلة هذا القيد:
1- خلع المريضة مرض الموت: يجوز الخلع من الصحيحة والمريضة إلا أنه لما كان أساس الخلع أنه يتم بعوض مالي([7])، فقد قيد الفقهاء حق الزوجين في تقدير بدل الخلع إذا كانت الزوجة مريضة مرض الموت لأنهما يتهمان في هذه الحالة بقصد الإضرار بالورثة([8]). ولذلك اتفق الفقهاء على صحة الخلع، ويأخذ الزوج من بدل الخلع القدر الذي تنتفي معه شبهة الإضرار بالورثة([9]).
2- كما لا يصح أن تكون الحضانة بدل الخلع؛ لأن حق المحضون أولى من حق الحاضن، فيصح الخلع ويبطل الشرط([10]).
3- للزوجة أن تختلع من زوجها على أن تقوم بنفقة ولدها منه مدة معينة وتلتزم هي بالنفقة، إلا أنها إذا أعسرت أجبر الزوج على الإنفاق على ولده ويرجع عليها عند يسارها.
والحكمة في كل هذا صيانة حق الولد ودفع الضرر عنه([11]). وفي هذا بيان لمدى خطورة اللجوء إلى الخلع كسبب من أسباب التفريق بين الزوجين لما يترتب عليه في الغالب الأعم من الإضرار بالأبناء نفسيا ومعنويا واجتماعيا([12]) لتفكك الأسرة وتهدمها، فلا يجب اللجوء إليه إلا إذا توافرت أيٌّ من الحِكم التي شرع الخلع من أجلها.
الفرع السادس: التكييف الفقهي للخلع
اختلف الفقهاء في وصف الخلع هل يقع طلاقا بائنا يحتسب من عدد الطلقات أم أنه فسخ ينقض العقد ولا يحتسب من عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته، على النحو الآتي:
أولا: يرى جمهور الفقهاء أن الخلع طلاق بائن؛ لأنه لو كان للزوج رجعة في العدة لم يكن لافتدائها بالمال فائدة، فهي قد بذلت المال لتملك نفسها ولا تعود إليه إلا برضاها، فلذا كان بائنا([13]). ومن جهة أخرى فإن الفسخ يقتضي الفرقة دون اختيار الزوج، أما الخلع فإنه يرجع إلى اختياره فلا يكون فسخا([14]).
ثانيا: ويرى الشافعي في القديم([15]) وأحمد -في رواية- أن الخلع فسخ للنكاح، وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما-([16]) وإذا كان فسخا لا ينقص به عدد الطلقات. واحتج بقوله تعالى:] الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ[([17]) ، وقوله تعالى: ] فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [([18]) وقوله تعالى:] فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[([19]). فذكر الله تعالى تطليقتين والخلع تطليقة بعدها، فلو كان الخلع طلاقا لكان أربعا، ولأن الخلع فرقة خلت عن صريح الطلاق ولا نيته فكانت فسخا([20]).
المطلب الثاني: الخلع بين الرخصة والحق الأصيل
مما سبق بيانه يتضح أنّ الأصل في الخلع في الشريعة الإسلامية أن يقع بالتراضي بين الزوجين واتفاقهما، على خلاف ما ذهب إليه المشرع الجزائري من جعل الخلع حقا من حقوق الزوجة تلجأ إليه دون مراعاة حقّ الزوج في الموافقة أو الاعتراض، كما أنه لم يبين صراحة مدى سلطة القاضي في إجبار الزوج على تلبيته لطلب الخلع من طرف الزوجة، إلا أن مفهوم نص المادة 54 يقتضي ذلك.
وعليه لا بد من بيان الآثار الفقهية للخلع، والشروط الواجب توافرها في المختلعة، وكذا بيان مدى سلطة القاضي في إيقاع الخلع جبرا عن الزوج، وذلك من خلال ما يأتي:
الفرع الأول: الآثار الفقهية للخلع
الوضع الفقهي للخلع أنه عقد ينعقد بإيجاب وقبول، وهو افتداء من الزوجة ببذل مال للزوج مع التزامها بدفعه مقابل خلاصها من الزوج، فإنه يعتبر معاوضة من جانبها، لكنها ليست معاوضة محضة بل فيها شبه بالتبرعات.كما يعتبر يمينا من جانب الزوج، لأنه علق طلاق زوجته على قبول المال، والتعليق يعتبر يمينا عند الفقهاء([21])، واعتباره معاوضة من جانب الزوجة يرتب الأحكام الآتية:
أولا: الآثار المترتبة على الخلع باعتباره معاوضة
1- أن الزوجة لو ابتدأت بالخلع فقالت: اختلعت نفسي منك بكذا، كان لها أن ترجع عن هذا الإيجاب قبل قبول الزوج، لأن الإيجاب في المعاوضات يصح الرجوع عنه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.
2- أن الزوجة لو كانت حاضرة في المجلس فلا بد من قبولها فيه، وإن كانت غائبة عنه فلا بد من قبولها في المجلس الذي تعلم فيه بالخلع، فإن قامت من المجلس بعد سماعها لفظ المخالعة من الزوج، أو بعد علمها بذلك بطل الإيجاب، فلو قبلت بعد ذلك لا يقع الخلع، لأن المعاوضة المالية تبطل إذا تفرق المتعاقدان بعد الإيجاب وقبل القبول.
3- لاعتبار العقد بالنسبة لها معاوضة في معنى التبرع اشترط في الخلع بالنسبة لها أن تكون مع صلاحيتها لإيقاع الخلع عليها أهلا للتبرع، فلا بد لثبوت بدل الخلع عليها من أن تكون بالغة عاقلة رشيدة-وسيأتي بيان ذلك- لأن من لا يستوفي هذه الشروط ليس أهلا للتبرع، وإنما اعتبر من جانبها معاوضة في معنى التبرع لأن بدل الخلع لا يوجد مال في نظيره، وإنما هو افتداء نفسها بهذا المال، فلا يمكن اعتباره معاوضة خالصة، لأن المعاوضة الخالصة تكون في نظير مال أو ما في معناه.
4- يجوز للزوجة أن تشترط لنفسها الخيار في مدة معلومة يكون لها فيها الحق في القبول أو الرفض، لأن الخلع من جانبها معاوضة، والمعاوضات يصح فيها اشتراط الخيار. وبناء عليه لا يصح للزوجة أن تعلق الخلع على شرط ولا أن تضيفه إلى زمن مستقبل([22]).
ثانيا: الآثار المترتبة على الخلع باعتباره يمينا
واعتبار الخلع يمينا من جانب الزوج يرتب الأحكام الآتية:
1- لا يجوز للزوج إذا ابتدأ بالخلع أن يرجع فيه قبل قبول الزوجة لأنه تعليق، والتعليق لا يجوز الرجوع فيه، وعلى ذلك لو صدر إيجاب بالخلع من الزوج في المجلس ثم قام منه قبل قبول الزوجة له لا يبطل الإيجاب بالخلع بقيامه من المجلس، فلو قبلت الزوجة الخلع بعد قيام الزوج كان قبولها صحيحا ويقع الخلع، لأن القيام من المجلس يعتبر رجوعا عن الإيجاب دلالة، وإذا كان الزوج لا يملك الرجوع عن الإيجاب صراحة فلا يملك الرجوع عنه دلالة من باب أولى، لأن التعليق لا يمكن الرجوع فيه.
2- إيجاب الزوج في الخلع يجوز تعليقا على شرط، كما يجوز إضافته إلى زمن مستقبل، فإن قبلت الزوجة عند وجود الشرط المعلق عليه، أو عند حلول الوقت المضاف إليه وقع الخلع ولزمها المال وترتبت عليه آثاره الخاصة، ولكن لا يجوز لها أن تعلق إيجابها على أمر من الأمور، لأن عقود التمليكات لا يجوز تعليقها، بل لا تكون إلا بصيغة منجزة، والخلع تمليك مال بالنسبة لها، فيأخذ كل أحكام التمليك.
3- لا يصح للزوج أن يشترط لنفسه الخيار في مدة معلومة لأنه لا يملك الرجوع عن الخلع، واشتراط الخيار يجعل له الحق في الرجوع عنه في مدة الخيار، وهذا مخالف لمقتضى التصرف الذي صدر منه، والشرط إذا خالف مقتضى التصرف لا يكون صحيحا، فإذا اشترط كان الشرط باطلا، لكن لا يبطل الخلع به لأن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة، فلو خالع زوجته على أن له الخيار ثلاثة أيام وقبلت الزوجة وقع الخلع في الحال ولزمها المال المتفق عليه([23]).
وبالرغم من هذا، فإن الخلع بمفهومه وتكييفه السابقين لا يمكن تصوره إلا في حالة توافر التراضي بين الزوجين، إذ يعتبر الرضا كاف بذاته لتحقيق الآثار المرجوة منه دون حاجة إلى القاضي ليقرره، أما في حال تخلف الرضا من قبل الزوج وأرادت الزوجة أن تختلع منه، فهنا تظهر الحاجة إلى القاضي ليكون الخلع قضاء لا اتفاقا([24]). ولعلّ هذا هو مقصود المالكية عندما قالوا:"جاز الخلع كونه بحاكم أو بلا حاكم"([25])؛ أي قضاء بحاكم أو اتفاقا بلا حاكم.
الفرع الثاني: الشروط الواجبة في المختلعة
إذا كان الخلع فرقة في مقابل مال تلتزمه المرأة لزوجها؛ لذا يشترط كونها في زواج صحيح وأهلا للتصرفات المالية، بأن تكون بالغة عاقلة راشدة ليصح خلعها عن نفسها بالاتفاق([26]). جاء في مغني المحتاج:"وشرط قابله-أي الخلع- أو ملتمسه ليصح خلعه من زوجة أو أجنبي إطلاق تصرفه في المال بكونه مكلفا غير محجور عليه، أي بالنسبة لثبوت المال"([27])، وجاء في بداية المجتهد:"لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها"([28]).
ولكن ما الحال إذا لم تكن الزوجة المختلعة أهلا للتصرف بأن كانت قاصرا، فهل يصح خلعها ويلزمها المال أم لا([29])؟.
أولا: خلع الصغيرة
لا خلاف بين الفقهاء([30]) في أن الزوجة المحجور عليها لصغر إذا خالعت زوجها لا يصح خلعها، ولا يلزمها ما بذلت من مال كعوض له، جاء في كشاف القناع:"إن خالعته المحجور عليها لسفه أو صغر أو جنون لم يصح الخلع، ولو أذن فيه الولي، لأنه تصرف في المال وليست من أهله"([31]).
إلا أنهم اختلفوا في وقوع الطلاق ووصفه على أربعة أقوال:
القول الأول: فرّق الحنفية بين ما إذا جرى الخلع من صغيرة من أهل القبول أو صغيرة ليست من أهل القبول، فإن لم تكن من أهل القبول بأن كانت لا تعرف أن النكاح جالب المهر والاستمتاع، والخلع سالب للعوض، وقبلت أو لم تقبل الخلع لا تطلق. أما إن كانت من أهل القبول بعلمها أن النكاح جالب والخلع سالب تطلق رجعيا لوجود القبول منها، ولا يلزمها المال المخالع به لعدم صلاحيتها للتبرع بشيء من مالها([32]).
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن الزوجة الصغيرة إذا خالعت زوجها تبين ولا يلزمها العوض، وإن أخذه الزوج فعليه رده، مالم يشترطه لوقوع الطلاق، بقوله: إن تم لي هذا المال، أو إن صحت براءتك فأنت طالق([33]).
القول الثالث: يرى الشافعية أن خلع الصغيرة وقبولها-مميزة أو غير مميزة- لغو لا يقع به شيء من الطلاق، لانتفاء أهلية القبول وعدم اعتبار عبارتها([34]).
القول الرابع: ذهب الحنابلة إلى أن الزوجة الصغيرة إذا خالعت زوجها يقع طلاقها رجعيا، إذا كان بلفظ الطلاق أو نيته -وكان دون الثلاث- وإن لم يكن اللفظ مما يقع به الطلاق كان لغوا فلا يقع به شيء([35]).
ثانيا: خلع السفيهة
اختلف الفقهاء في حكم خلع السفيهة عن نفسها هل يصح الخلع ويلزم المال أم لا؟ على رأيين:
الرأي الأول: يرى الحنفية([36]) أن خلع الزوجة الكبيرة غير الرشيدة والمحجور عليها لسفه عن نفسها على مال هو مهر أو غيره جائز، ويقع به الطلاق بائنا إذا كان بلفظ الخلع-والغير صريح في الطلاق- بينما تطلق رجعيا إذا كان بصريح لفظ الطلاق، وفي الحالتين لا يلزم المال المبذول من المرأة لعدم ثبوت حقها في التبرع بشيء من أموالها بسبب السفه. جاء في حاشية ابن عابدين:"وإذا بلغت المرأة مُفسدة([37]) فاختلعت من زوجها بمال جاز الخلع، لأن وقوع الطلاق في الخلع يعتمد القبول، وقد تحقق منها ولم يلزمها المال؛ لأنها ألزمته لا لعوض هو مال ولا لمنفعة ظاهرة، فإن كان طلقها تطليقة على ذلك المال يملك رجعتها؛ لأن وقوعه بالصريح لا يوجب البينونة إلا بوجوب البدل بخلاف ما إذا كان بلفظ الخلع"([38]).
الرأي الثاني: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الزوجة السفيهة لا يجوز أن تنفرد بالمخالعة عن نفسها، ولا يلزمها المال، واختلفوا فيما يقع من طلاق إذا لم يقع باختلاعها الخلع على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب المالكية إلى أن السفيهة غير الرشيدة يقع عليها الطلاق البائن، ولا يلزمها العوض المبذول للزوج عند الاختلاع، فإن أخذه رده إن لم يشترط لوقوع الطلاق ونفاذه([39]).
القول الثاني: يرى الشافعية أن مخالعة السفيهة -المحجور عليها وغير المحجور عليها- لزوجها قبل الدخول يقع به طلاقا بائنا، بخلاف ما إذا اختلعت بعد الدخول فإنه رجعي([40]).
القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى تطليق السفيهة عند مخالعتها مع الزوج رجعيا، إذا خالعت بلفظ الطلاق، وإن لم يكن اللفظ مما يقع به الطلاق لا يقع به شيء من الطلاق وكان لغوا([41]).
ثالثا: خلع المحجور عليها لفلس
ذهب الشافعية([42]) والحنابلة([43]) إلى أنه يجوز خلع المحجور عليها لفلس، بينما يختلف حكم وقوعه تبعا للعوض المخالع به، والذي قد يكون قدرا من المال تلتزمه دينا في ذمتها، أو يكون عينا من مالها على النحو الآتي:
أولا: المخالعة على قدر من المال، إذا اختلعت المحجور عليها لفلس على قدر من المال- غير المحجور عليه- تلتزمه دينا في ذمتها صح الخلع؛ لأنّ لها ذمة مالية يصح تصرفها فيه، ويستوفيه منها الزوج متى رفع الحجر عنها وأيسرت، ولا يحق له مطالبتها باستيفائه زمن الحجر عليها، كما لو كان له دينا في ذمتها أو باعها شيئا وثمنه دينا له عليها. قال البهوتي:"ويصح الخلع من زوجة محجور عليها لفلس على مال في ذمتها لصحة تصرفها فيها كاقتراضها وتُطالب به إذا انفك حجرها وأيسرت لا إن خالعته بعين مالها"([44]).
ثانيا: المخالعة على قدر معين من مالها، إذا جرى خلع المحجور عليها لفلس مع زوجها على عين من مالها لا يصح خلعها لعدم خلاص هذا المال لملكيتها ملكية تامة بتعلق حق الغرماء فيه، ويقع طلاقها بائنا، وللزوج أن يرجع عليها بمهر المثل إذا انفك الحجر عليها([45]).
الفرع الثالث: حكم تلبية الزوج لطلب الخلع
اختلف الفقهاء في حكم تلبية الزوج لطلب زوجته الخلع على رأيين([46]):
الرأي الأول: لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية أنه يستحب للزوج تلبية طلب زجته للخلع، ومن ثم فللزوج رفض طلب زوجته، ولا يجبر عليه -وإلا صار واجبا- الأمر الذي يترتب عليه انتفاء إرادة الزوجة في إيقاع الفرقة بالخلع دون رضا الزوج. قال البهوتي:"وتسن إجابتها –أي الزوجة- إذا سألته الخلع على عوض"([47]). وجاء في المحلى:"فلها أن تفتدي منه ويطلقها إن رضي هو وإلا لم يجبر هو"([48]).
واستدل الجمهور بأن أمر النبي r الوارد في الحديث "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة"([49]) يفيد الإرشاد والإصلاح لا الإيجاب والحتم بإجراء الخلع([50]).
الرأي الثاني: ذهب المالكية إلى القول بوجوب استجابة الزوج لرغبة امرأته في طلب الخلع، ومن ثم فللمرأة الإرادة المنفردة في الحصول على الطلاق بالخلع بإجبار الزوج عليه لوجوبه([51]).
قال ابن رشد:"والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل"([52]).
واستدلوا على ذلك بأن الأمر في الحديث "اقبل الحديقة وطلقها وتطليقة" يفيد وجوب تلبية الرجل لرغبة زوجته في طلب الخلع لبقاء وعدم انصراف الأمر عن أصله في إفادة الوجوب.
كما قاسوا إرادة المرأة في تحصيل الطلاق خلعا على عوض وإرادة الرجل في إيقاع الطلاق بها متى شاء دون اعتبار لرضاها بجامع مشترك هو الكراهية الداعية إلى الفرقة، وعدم الرغبة في استمرار الحياة الزوجية([53]).
كما أن المعقول يقضي بأن الإبقاء على زوجة كارهة ومبغضة لزوجها وبيتها قد يؤدي إلى كثير من الانحرافات والآثام، ومنع المنكر واجب فكان الخلع وهو طريق المنع واجبا([54]).
الترجيح
القول باستحباب تلبية الزوج لطلب زوجته الخلع، فإن حالة عدم موافقة الزوج قد تؤدي إلى الإضرار المعنوي بالمرأة لاستمرار حياتها الزوجية مع زوج كارهة له؛ إلا أن هناك أضرارا أشد قد تقع عند القول بإلزام الزوج وإجباره على قبول طلب زوجته للخلع، إذا ما قورنت بما تتعرض له المرأة من أضرار نفسية. فيكون ذلك سببا في إحجام الشباب عن الزواج وتكوين أسرة، ومن ثم لا عمارة للأرض، ولا وقاية من الوقوع في المعصية لسهولة حصول الزوجة على الانفصال متى أرادات ذلك، وهو ما ينتج عنه كثرة وقوع الطلاق وهدم الأسر، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع مقاصد الشرع في تشريع الزواج.
كما أن إلزام الزوج على الموافقة على طلب الزوجة خلعها يؤدي إلى فتح الباب واسعا لإيقاع الفرقة بينهما، وهذا مخالف لأصل تشريع الطلاق الذي ضيق الشارع من مجالاته، وجعله علاجا لحالات استثنائية.
ومنه فإن رأي الجمهور في هذه المسألة هو الأقرب في تحقيق مقاصد وأهداف الزواج التي تتمثل في الديمومة والإصلاح بين الزوجين عند التنافر والشقاق.
ويميل أبو زهرة إلى ترجيح رأي المالكية ولكن بعد تعذر الإصلاح بين الزوجين، حيث يقول:"بهذا يتبين أن المذهب المالكي يتسع للخلع إن فركت المرأة زوجها، ولكن بعد تحكيم الحكمين ومحاولة الإصلاح والعجز عنه، ويقر القاضي ما يرتئيان ولو كان خلعا"([55]).
[4]- وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة العقد صحيح والعوض لا زم وهو آثم عاص. ابن قدامة: المغني، 10/272.
[8]- اختلف الفقهاء حول المقدار الذي يجوز للمرأة في حال مرضها أن تخالع به ويكون للزوج أخذه إن فارقت المختلعة الحياة في العدة على أربعة أقوال: فيرى الحنفية أن العوض المبذول من المختلعة في حال مرضها مرض الموت يعتبر من ثلث مالها، لكنه يعطى الثلث دفعا لتهمة المواضعة. بينما ذهب المالكية إلى أن المريضة إذا خالعت زوجها بأكثر من مقدار إرثه منها صح الخلع وردت الزيادة، ولا توارث بينهما في جميع الأحوال ، هذا على القول الأول. أما القول الثاني عندهم فيرى أنه لا يجوز خلع المريضة مرضا مخوفا إذا اختلعت بأكثر من مقدار إرث الزوج منها وتطلق بائنا، ولا شيء من المال للزوج ولا يتوارثان. وذهب الشافعية إلى أن الزوجة إذا اختلعت في حال المرض لها أن تخالع بقدر مهر مثلها أو بأقل أو بأكثر منه على أن يخرج العوض إذا ساوى مهر المثل أو دونه من رأس المال، لأن مقدار العوض المبذول هو قيمة ما تملكه، وأما إذا زاد العوض عن مهر المثل يخرج قيمة مهر المثل من جميع التركة والزيادة من ثلثها، لأنها بمثابة التبرع فتأخذ حكم الوصية للأجنبي تنفذ في حدود الثلث، فإن زادت عليه فالأمر يقدره الورثة بالإجازة. بينما ذهب الحنابلة إلى أن العوض المخالع به من الزوجة في مرض موتها يعتبر ميراث الزوج منها، فإن قل عنه أو ماثله صح الخلع، وإن زاد عن قيمته وقع الخلع وبطلت الزيادة، وللورثة استراجاعها من الزوج. انظر، ابن عابدين: رد المحتار،3/460. الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/354-355. الشربيني: مغني المحتاج،3/350. ابن رشد: بداية المجتهد، 2/69. البهوتي: كشاف القناع،5/228-229.
[12]- والحقيقة أن هذا القيد لا يسري على حالة الإضرار بالأبناء نفسيا ومعنويا كأثر مترتب على الخلع، لأن القول بغير ذلك يعني منع وقوع الخلع بين الزوجين للأبد ما دام هناك أبناء حتى لا يترتب عليه ضرر بهم، ومن ثم يتعطل الحكم الشرعي المتعلق بالخلع.
[13]- انظر، ابن رشد: بداية المجتهد، 2/69. الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/351. البهوتي: كشاف القناع، 5/216.
[15]- وفي قول نص عليه الشافعي في الأم أنه لا يحصل به شيء لا فرقة بطلاق ولا فسخ. وأما في مذهبه الجديد فيحصل بالخلع طلقة بائنة تنقص من عدد الطلقات.الشربيني: مغني المحتاج، 3/354.
[21]- انظر، سامح سيد محمد: الخلع بين المذاهب الفقهية الأربعة، ص 103. أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية، ص 357-358.
[22]- انظر، سامح سيد محمد: الخلع بين المذاهب الفقهية الأربعة، ص 105-107. أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية، ص 358-359.
[23]- انظر، سامح سيد محمد: الخلع بين المذاهب الفقهية الأربعة، ص 103-105. أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية، ص 358-359.
[29]- للإشارة فإن المشرع الجزائري لم يتطرق إلى الشروط الواجبة في المختلعة، ولم يبين حكم القاصرة في طلب الخلع. وبالرجوع إلى المادة السابعة في فقرتها الأخيرة من قانون الأسرة التي نصت على أنه:"يكتسب الزوج القاصر أهلية التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات"، فإن القاصر لا يكون بمقدروها الالتزام بدفع العوض في الخلع، ومن ثم فلا يصح الخلع من القاصر كما قررالفقهاء ذلك اتفاقا.
[30]- ابن قدامة: المغني،10/307.الدسوقي:حاشية الدسوقي،2/348.الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة، 4/352.
[32]- انظر، محمد زيد الأبياني: شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، مطبعة النهضة، مصر، ط3، 1920، 1/411-412. عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة، 4/352-353. أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية، ص 371.
[46]- يرجع سبب الاختلاف إلى حقيقة صفة الأمر الوارد في قوله لثابت بن قيس:"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"، هل يحمل على الوجوب أم على الندب والاستحباب، فمن فهم أن الأمر يحمل على الوجوب جعل حكم إجابة الزوج لطلب الزوجة بالخلع الوجوب، ومن حمل الأمر على الندب جعل رضا الزوج معتبرا في قبول طلب الخلع من الزوجة.
-
-
-
المحاضرة التاسعة:
سلطة القاضي في إيقاع الخلع جبرا عن الزوج
إذا كان الأصل في الخلع أن يقع بالتراضي بين الزوجين واتفاقهما، على أساس أنه عقد عند كثير من الفقهاء، والعقد يقوم على التراضي، فهل يشترط الفقهاء دور للقاضي في مسألة الخلع، سواء كان هذا الدور على سبيل الرقابة، أم أنه أكبر من ذلك كأن يشترط لصحة الخلع ضرورة إيقاعه أمام القاضي، ومنه فهل للقاضي إذا طلبت الزوجة الخلع من زوجها بسبب من الأسباب المشروعة إجبار الزوج على الخلع أو إيقاعه بدلا عن الزوج؟.
اختلفت الآراء الفقهية في هذه المسألة، ويمكن حصرها في اتجاهين:
الاتجاه الأول: ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية، وحاصله أن الخلع يصح بدون الحاكم، كما يصح إذا وقع أمام الحاكم، وبالتالي يقع صحيحا ولا يتوقف صدوره من الحاكم أو أمامه. فقد جاء في المبسوط:"أن الخلع جائز عند السلطان وغيره؛ لأنه عقد يعتمد التراضي كسائر العقود"([1])، وجاء في جواهر الإكليل:"وجاز الخلع بلا حاكم فلا يتوقف كونه خلعا على حكم القاضي"([2])، و قال ابن قدامة:"لا يفتقر الخلع إلى حاكم نص عليه أحمد فقال: يجوز الخلع دون السلطان"([3]). وقال ابن حزم:"فلها أن تفتدي منه ويطلقها إن رضي وإلا لم يجبر هو، إنما أجيز بتراضيهما"([4]).
واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يلي:
أولا: يستفاد من قوله تعالى:]فلا جناح عليهما فيما افتدت به[ إباحة الأخذ من الزوجة بالتراضي من غير سلطان([5])، كما أخرج البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب وعثمان-رضي الله عنهما- أجازا الخلع دون السلطان([6]).
ثانيا: الخلع معاوضة لا يحتاج إلى القاضي بل يقوم على اتفاق الطرفين، وقد جاءت الكثير من النصوص وأقوال الفقهاء دالة على ذلك، حيث قالوا: إن كُيِّف الخلع على أنه عقد معاوضة فهو كالبيع، وإن كُيّف على أنه فسخ بالتراضي كان كالإقالة وكل من البيع والإقالة لا يحتاج إلى حكم حاكم([7]).
ثالثا: قياس الخلع على النكاح والطلاق من حيث أنه لما كان النكاح والطلاق لا يحتاجان إلى حكم القاضي فكذلك الخلع؛ لأنه نوع من الطلاق. يقول السيوطي بصدد بيانه أنواع الفُرَق من حيث احتياجها إلى حضور القاضي من عدمه:"وأما ما لا يحتاج -أي إلى الحاكم- أصلا فالطلاق والخلع"([8]).
الاتجاه الثاني: ذهب جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين وأبو عبيد، إلى أنه لا يكفي لوقوع الخلع مجرد اتفاق إرادة الزوج والزوجة استقلالا، بل يجب أن يترافعا إلى الحاكم وهو الذي يقضي بوقوع الخلع. وقد ذكر الجصاص قول سعيد بن جبير:"لا يكون الخلع حتى يعظها وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيرويان ما يُسْمَعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع"([9]).
كما ذكر ابن حجر ما قاله الحسن البصري وابن سيرين:"لا يجوز الخلع دون السلطان"، وأن أبا عبيد اختار هذا القول([10]).
واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يلي:
أولا: من الكتاب، قوله تعالى:]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ[([11])، وقوله تعالى:] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[([12]).
فقد جعل الله تعالى الخوف في الآية الأولى لغير الزوجين بقوله: "فإن خفتم" وأسنده إلى الحكام والولاة وليس إلى الزوجين، وإلا لكان قوله تعالى"فإن خافا"، فجعل الخوف لغير الزوجين، وهذا يدل على أن المراد بالخطاب الولاة وأن الخلع لا يكون إلا عندهم وبواسطتهم.كما أن الآية الأخرى "وإن خفتم شقاق بينهما" تدل على المراد نفسه([13]).
والجمهور على خلاف هذا، وقد أجابوا عن الآية بأنها جرت على الغالب([14]).
ثانيا: من السنة النبوية أن أمر النبي r لثابت بن قيس بأن يقبل الحديقة ويطلقها تطليقة، كالحكم فيلزم من ذلك ألا يقع الخلع إلا عند الحاكم. وذكر الشوكاني أن أمر النبي r في هذه الواقعة للوجوب ولم يرد ما يدل على صرفه عن حقيقته"([15])، وهذا يدل على ترجيحه أن الأمر للوجوب ولم يصرفه عن ذلك صارف.
وناقش الجمهور ما استدل به أصحاب الاتجاه الثاني بما يلي:
أولا: أن ما استدلوا به في قوله تعالى:]فإن خفتم ألا يقيما حدود الله[، قد جرى مجرى الغالب، وأن ذلك ليس خطابا للحكام وحدهم بل يشمل ولي المرأة أيضا. وهذا المعنى أكده القرطبي بقوله:"لا يمكن قصر الخطاب على الحكام، فإن الرجل إذا خالع امرأته فإنما ينفذ ما تراضيا عليه ولا يجبره السلطان على ذلك"([16]).
ثانيا: أن ما استدلوا به من السنة في واقعة ثابت بن قيس يرد عليه أن الواقعة لم تعرض على النبي r بصدد خلاف بين الزوجين، وأن حكم النبي r لم يكن بصفته قاضيا، وإنما كان على سبيل الإرشاد والتوجيه، بدليل أن امرأة قيس امتدحت زوجها للنبي r بقولها:"ما أعتب عليه في خلق ولا دين"، وأن أمره r لثابت بقبول العوض ليس حكما وإنما هو إرشاد وتوجيه([17]).
الترجيح
يظهر أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء -أصحاب الاتجاه الأول- في عدم احتياج الخلع إلى سلطة القاضي، وأنه يتوقف وقوعه على تراضي الزوجين هو الراجح، وذلك لقوة أدلتهم واستنادها إلى فعل كبار الصحابة الذين أقروا الخلع وصحّحوه بتراضي الزوجين دون حكم القاضي، ومن ثم فليس للقاضي منع المخالعة إذا اتفق عليها الزوجان؛ لأن الزواج من حيث أصله يتم بتراضي الطرفين دون حاجة لإذن القاضي، وكذلك الفراق بينهما عن طريق الخلع فإنه يتم بتراضي الطرفين ولا يحتاج لإذن القاضي.
ولأنه لما كانت المخالعة عقد معاوضة يقوم على التراضي فيعتبر إنهاء لعقد الزواج بالتراضي ولا يمكن أن يكون فيه إجبار من القاضي لأي طرف ومن أي جهة ولو كانت جهة السلطان، ذلك أن الإجبار يتعارض مع الرضا الذي يعدّ أساس العقود.
غير أن للمرأة أن ترفع أمرها إلى القاضي إذا تعذّر الحصول على الخلع من الزوج مباشرة فلذلك لا بد من تدخل للقاضي في هذه الحالة.
-
-
-
المحاضرة العاشرة: الخلع في التشريع الجزائري
أولا: تعريف الخلع قانونا
هو دعوى ترفعها الزوجة ضد زوجها إذا بغضت الحياة معه ولم يكن من سبيل لاستمرار الحياة الزوجية وخشيت ألا تقيم حدود الله بسبب هذا البغض، والخلع يقتضى افتداء الزوجة لنفسها بردّ مهرها وتنازلها عن جميع حقوقها الشرعية([1]).
ثانيا: الأساس القانونى للخلع
تعتبر المادة 54 من قانون الأسرة بموجب الأمر 05-02 لسنة 2005 هي الأساس القانوني لنظام الخلع، فبموجب هذه المادة تقرر نظام الخلع كأساس قانوني صحيح وقد سبق للمشرع ذكره في القانون 84-11، إلا أنه لم يبين كيفية تطبيقه.
وقد ألغى المشرع رضا الزوج وجعل الخلع متوقفا على طلب المرأة، طبقا لما جاء به تعديل المادة 54 بموجب الأمر 05-02، وهذا يعد مخالفة لما يراه جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية من أن الأمر في قوله r لثابت بن قيس:"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"([2]) هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب. وعلى هذا لم يكيف المشرع الجزائري الخلع على أنه عقد ثنائي الأطراف لا يتم إلا بالإيجاب والقبول لأنه طلاق على مال.
كما أن المحكمة لم تقيد التطليق للخلع بمحاولة الصلح بين الزوجين وندبها لحكمين لموالاة مساعي الصلح بينهما خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر على الوجه المبين في المادة 49 من نفس القانون.
وكما سبقت الإشارة إليه فإن نص المادة 54 لم يتعرض للشروط الواجب توافرها لصحة إيقاع الخلع([3])، واكتفت بالتأكيد على حق المرأة في مخالعة زوجها دون التوقف على رضاه، وأن للقاضي أن يحكم بالمقابل المالي للخلع عند عدم الاتفاق بين الزوجين على المقابل المالي للخلع. ومنه أصبح الخلع حقا أصيلا للمرأة بعد أن كان رخصة في ظل القانون 84-11 لسنة 1984.
ثالثا: موقف القضاء
سكوت المشرع الجزائري عن تحديد طبيعة الخلع كحق للزوجة أو رخصة، جعل القضاء غير مستقر على اجتهاد ثابت بعد صدور القانون 84-11، وتجلى ذلك بشكل واضح في قرارات المحكمة العليا التي أسست اجتهاداتها تارة على أساس أن العصمة بيد الزوج، وبالتالي فلا بد من رضاه بالخلع حتى يتم، وذلك كما في القرار الصادر بتاريخ21/11/1988 والذي جاء فيه:"من المقرر فقها وقضاء أن قبول الزوج للخلع أمر وجوبي، وأن ليس للقاضي سلطة مخالعة الزوجين دون رضا الزوج، ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعدّ مخالفا لأحكام الفقه.
ولما كان من الثابت -في قضية الحال- أن المطعون ضدها طلبت التطليق ولم يكن لها سبب فيه وأظهرت استعدادها لمخالعة زوجها دون أن يجد ذلك قبولا من هذا الأخير، فإن القضاء بتطليق المطعون ضدها على سبيل الخلع يعدّ مخالفا للقواعد الفقهية الخاصة بالخلع، ومتى كان كذلك استوجب نقض الحكم المطعون فيه دون إحالة"([4]). وهو ما جاء أيضا في القرار المؤرخ في23/04/1991:"إن المادة 54 من قانون الأسرة تشترط لصحة الخلع قبوله من طرف الزوج، ولا يمكن للقاضي فرضه عليه([5]).
وجاء الاجتهاد القضائي تارة على أساس أن الخلع حق للزوجة لا يتوقف على موافقة الزوج، ويتضح ذلك من خلال القرار الصادر عن المحكمة بتاريخ 30/7/1996:"من المقرر قانونا وشرعا أن الخلع حق خولته الشريعة الإسلامية للزوجة لفك الرابطة الزوجية عند الاقتضاء وليس عقدا رضائيا.
ومن ثم فإن قضاة الموضوع لما قضوا -في قضية الحال- بفك الرابطة الزوجية خلعا وحفظ حق الزوج في التعويض رغم تمسكه بالرجوع، فإنهم بقضائهم كما فعلوا طبقوا مبادئ الشريعة الإسلامية، ولم يخالفوا أحكام المادة 54 من قانون الأسرة، ومتى كان كذلك استوجب رفض القرار المطعون فيه"([6]).
وكما جاء في قرار آخر صادر بتاريخ 19/04/1994 وفيه:"إن الخلع أجازته الشريعة الإسلامية وكرسه قانون الأسرة، سواء رضي الزوج أو لم يرض يكفي أن تعرض الزوجة بدلا لفك الرابطة الزوجية دون دفع الحاجة إلى موافقة الزوج"([7]). ونفسه ما جاء في القرار المؤرخ في 16/03/1999:"الخلع رخصة للزوجة تستعملها لفدية نفسها من الزوج مقابل مبلغ مالي تعرضه عليه. ومن ثم فإن قضاة الموضوع لما قضوا بتطليق الزوجة خلعا دون موافقة الزوج طبقوا صحيح القانون. ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن([8]).
أما بالنسبة لتحديد المقابل المالي عند اختلاف الزوجين في تحديده، فلم يختلف القضاء عما جاء به النص القانوني بمنح القاضي السلطة في تحديد المقابل المالي، حيث جاء في القرار الصادر بتاريخ 21/7/1992:"من المقرر قانونا أنه يجوز للزوجة أن تخالع نفسها من زوجها على مال يتم الاتفاق عليه، فإن لم يتفقا على شيء يحكم القاضي بما لا يتجاوز صداق المثل وقت الحكم.
إن المادة المذكورة من قانون الأسرة تسمح للزوجة بمخالعة نفسها من زوجها على مال دون تحديد نوعه كما يتفق الطرفان على نوع المال وقدره، وفي حالة عدم اتفاقهما يتدخل القاضي لتحديده على أن لا يتجاوز ذلك قيمة صداق المثل وقت الحكم دون الالتفات إلى عدم قبول الزوج بالخلع الذي تطلبه الزوجة لأن ذلك يفتح باب الابتزاز والتعسف الممنوعين شرعا. وعليه فإن قضاة الموضوع-في قضية الحال- لما قضوا بتطليق الزوجة خلعا دون موافقة الزوج طبقوا صحيح القانون. ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([9]).
رابعا: آثار الخلع
إن المشرع الجزائري لم ينص على آثار الخلع، إلا أنه وانطلاقا من كون الخلع عبارة عن اتفاق حول مال معين تدفعه الزوجة نظير مخالعتها لزوجها من خلال ما جاء في نص المادة 54 نفسها، وحسب ما ذكره فقهاء الشريعة الإسلامية -مما سبقت الإشارة إليه- بأن من آثار الطلاق بالخلع([10]):
- أنه يسقط ما نشأ قبله من حقوق بين الزوجين كالمهر المؤجل والنفقة الواجبة ما عدا نفقة العدة لأنها حق نشأ بعد الطلاق.
- لا يجوز أن تكون الحضانة هي المقابل؛ لأن الحضانة ليست حقا مستقلا للحاضنة بل هو حق مقرر أيضا للأولاد.
- إذا اتفق الزوجان على أن يكون مقابل الخلع التزام الأم بنفقة الأولاد لمدة محددة أو غير محددة وتم الطلاق ووقعت الزوجة في إعسار فتقع نفقتهم على الزوج ويبقى ذلك دينا في ذمة الزوجة المختلعة.
- إن الطلاق بطريق الخلع يقع طلاقا بائنا على المشهور في المذهب الحنفي والمالكي والشافعي في الجديد.
على أنه يظهر مما سبق أن المشرع الجزائري قد أخذ بالمذهب المالكي في وجوب إجابة الزوج لطلب زوجته للطلاق خلعا، فإن امتنع أجبره القاضي على ذلك كما يفهم ذلك من الفقرة الأولى من المادة 54 من قانون الأسرة.
كما أخذ برأي جماعة من التابعين([11]) في وجوب الترافع أمام القضاء للحكم في قوع الطلاق خلعا، وهذا ما يفهم أيضا من الفقرة الثانية من المادة نفسها.
[1]- انظر، العربي بلحاج: الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري، 1/263. باديس ذيابي:صور فك الرابطة الزوجية، 59-60.
[3]- يشترط قانونا للحكم بالتطليق خلعا:- أن تبغض الزوجة الحياة مع زوجها ولم يكن من سبيل لاستمرار الحياة الزوجية، وأن تخشى ألا تقيم حدود الله بسبب هذا البغض- أن تفتدى الزوجة نفسها بأن ترد لزوجها المهر الذى أعطاه لها وتتنازل عن جميع حقوقها الشرعية من مؤخر صداق ونفقة متعة ونفقة عدة- ألا تفلح المحكمة فى إنهاء الدعوى صلحا سواء بنفسها أو بالحكمين اللذين تندبهما المحكمة لهذه المهمة - أن تقرر الزوجة صراحة - أمام المحكمة- أنها تبغض الحياة مع زوجها وأنه لا سبيل لاستمرار الحياة الزوجية بينهما وتخشى ألا تقيم حدود الله بسبب هذا البغض.
[6]- ملف رقم 141262: المجلة القضائية، العدد الأول، 1998، ص 120. والملاحظ أن الاجتهاد القضائي في هذا القرار جاء متناقضا، حيث أنه وبالرجوع إلى المادة 54 من قانون الأسرة قبل تعديلها يتبن أن الخلع رخصة للزوجة تستعملها لفدية نفسها من الزوج مقابل مبلغ مالي. حيث أنها لم تنص على إهمال موافقة الزوج كما نصت على ذلك بعد تعديلها بموجب الأمر 05-02.
-
-
-
المحاضرة الحادية عشر
التفريق القضائي في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
لقد أجازت المادة 53 من قانون الأسرة للزوجة طلب التطليق بتوافر جملة من الأسباب، وقد صاغ المشرع الجزائري نص هذه المادة انطلاقا مما هو مقرر شرعا، وذلك لعدة اعتبارات أهمها؛ أن الطلاق حق للزوج يملك إيقاعه بنفسه لأنه صاحب العصمة، إلا أن الشريعة الإسلامية راعت جانب الزوجة لرفع الحرج والضرر عنها حيث لا تملك مالاً تفتدي به نفسها، ففتحت لها بابا للخلاص - وإن لم يرض به الزوج- وأوجبت على القاضي الاستجابة لطلبها متى وجد السبب الذي يقتضي حالة الفرقة بين الزوجين، وفي هذا تكريس لمطلق العدالة الإلهية.
وقبل الحديث عن جملة الأسباب التي تخول للمرأة طلب التطليق، لا بد أولا من بيان مفهوم التفريق القضائي في الفقه الإسلامي وما ذهب إليه المشرع الجزائري من خلال ما يأتي:
المطلب الأول: التطليق في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
إن من الصلاحيات التي أعطتها الشريعة الإسلامية للقضاة أن جعلت لهم حق التفريق بين الزوج وزوجته، وإنما يثبت لهم ذلك الحق في التفريق إذا كان فيه المحافظة على حق أمرت الشريعة بالمحافظة عليه، سواء ما تعلق منها بحقوق الشريعة نفسها، أم ما تعلق بحقوق أحد الزوجين، أم ما تعلق بحقوق غيرهما.
إلا أن التفريق القضائي الذي عناه المشرع الجزائري إنما يتثمل في جملة الأسباب التي عدّها وفق المادة 53 موجبات لحقّ المرأة في طلب التطليق. غير أن التفريق القضائي في الفقه الإسلامي يشمل جميع الفُرَق التي يوقعها القاضي سواء كانت طلاقا، كالخلع، وكالتطليق لإعسار الزوج عن نفقة زوجته، أم فسخا كالتفريق بسبب اللعان، أو بسبب الإيلاء، على اختلاف بين فقهاء المذاهب في الفرق التي تتوقف على القضاء ويترتب عليها الطلاق أوالفسخ بحسب موجبها([1]). وفيما يأتي بيان ذلك بإيجاز:
الفرع الأول: الجانب الفقهي
أولا: التفريق في اصطلاح الفقهاء
هو إنهاء العلاقة الزوجية بين الزوجين بحكم القاضي بناء على طلب أحدهما لسبب كالشقاق والضرر، وعدم الإنفاق..أو بدون طلب من أحد حفظا لحق الشرع، كما إذا ارتد أحد الزوجين. وما يقع بتفريق القاضي طلاق بائن في أحوال، وفسخ في أحوال أخرى، وهو طلاق رجعي في بعض الأحوال([2]).
ثانيا: سلطة القاضي في إيقاع الطلاق
من المعلوم أن الأصل في الطلاق حصوله بيد الزوج لا بيد غيره ولو قاضيا، ولكن أجاز جمهور الفقهاء للقاضي بما له من ولاية أن يقوم بالتفريق بين الزوجين نيابة عن الزوج عند نشوزه وتحقق ظلمه لزوجته، فمهمة القاضي منع الظلم ورفع الضرر، وذلك في حالات معينة نصوا عليها، ولعل أكثر الأئمة توسعا في إعطاء القاضي الحق في إجابة طلب المرأة بالتطليق المالكية والحنابلة، على العكس فيما ذهب إليه الأحناف الذين لم يعطوا القاضي الحق في طلاق المرأة إلا لعيب في الزوج، بل اختلفوا فيما بينهم في حدود حق القاضي في التطليق، فقصره الإمام أبو حنيفة على العيوب التناسلية في الرجل، وأضاف محمد الجنون والجذام والبرص([3]).
ثالثا: أسباب التفريق القضائي
إن تفريق القاضي بين الزوجين يكون لحقّ من حقوق الشريعة الإسلامية؛ كأن يرتد أحد الزوجين عن الإسلام، ويثبت ذلك أمام القاضي بإحدى طرق الإثبات الشرعية، فيأمر القاضي بالافتراق من تلقاء أنفسهما، فإن لم يفعلا فرق بينهما.
وإما أن يكون التفريق لحقّ من حقوق أحد الزوجين، فقد يكون صاحب الحق هو الزوج، كما في اختياره نفسه بعد البلوغ، وقد يكون صاحب هذا الحق هو الزوجة، كما في اختيارها نفسها بعد البلوغ أيضا. وقد يكون صاحب هذا الحق هو ولي الزوجة، كما لو زوجت المرأة البالغة نفسها بدون مهر أمثالها ولم يرض الولي، ولم يرض الزوج أيضا أن يكمل لها مهر أمثالها.
وتفريق القاضي بين الزوجين لواحد من هذه الحقوق لا يكون إلا بعد أن يتقدم إليه صاحب الحق طالبا التفريق([4]).
ويلاحظ أن معظم حالات طلب التفريق تكون من قبل الزوجة([5])، فإذا تضررت من زوجها بأن لم يوفّها الزوج حقوقها الشرعية، فلها أن ترفع الضرر عن نفسها شرعا، حيث مكنتها الشريعة الإسلامية في هذه الحالة من أن ترفع أمرها إلى القضاء طالبة تطليقها من زوجها -لأنها لا تملك الطلاق- فإذا أثبتت بأي طريق من طرق الإثبات ما يسوغ شرعا تطليقها حكم لها القاضي بتطليقها منه، بناء على طلبها، ويكون القاضي نائبا عن الزوج الذي امتنع من تطليقها، لأن امتناعه ظلم، والذي يرفع الظلم ويحق الحق وينظر في مصالح الناس الدينية والدنيوية هو القاضي.
والحالات التي يجوز للقاضي فيها التفريق تشمل: التفريق لعدم الإنفاق، والتفريق للعيب أو للعلل الجنسية، والتفريق للضرر بسبب سوء العشرة أو الشقاق والنزاع بين الزوجين الذي يتعذر معه الإصلاح، والتفريق للغيبة والتفريق للحبس أو الأسر، وذلك حفظا لحق أحد الزوجين، والتفريق بسبب الإيلاء واللعان والظهار وردّة أحد الزوجين وذلك بحكم الشرع([6]).
الفرع الثاني: الجانب القانوني
تضمنت المادة 53 من قانون الأسرة الجزائري الأسباب التي يجوز للزوجة فيها طلب التطليق، فنصت على ما يلي:"يجوز للزوجة أن تطلب التطليق للأسباب الآتية:
1- عدم الإنفاق بعد صدور الحكم بوجوبه، ما لم تكن عالمة بإعساره وقت الزواج مع مراعاة المواد 78-79-80 من هذا القانون.
2- العيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج.
3- الهجر في المضجع فوق أربعة أشهر.
4- الحكم على الزوج عن جريمة فيها مساس بشرف الأسرة، وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية.
5- الغيبة بعد مرور سنة بدون عذر ولا نفقة.
6- مخالفة الأحكام الواردة في المادة 8 أعلاه.
7- ارتكاب فاحشة مبينة.
8- الشقاق المستمر بين الزوجين.
9- مخالفة الشروط المتفق عليها في عقد الزواج.
10- كل ضرر معتبر شرعا"([7]).
أولا: تعريف التطليق قانونا
هو طلاق بناء على الإرادة المنفردة للزوجة ويتم بحكم قضائي رغم معارضة الزوج له طالما أنها متضررة ويفرق القاضي بينهما عملا بقواعد العدالة والإنصاف([8]).
ويلاحظ من خلال نص المادة 53 من قانون الأسرة أنه لم تعد إرادة الزوج وحدها تحدث أثر انحلال الزواج بالطلاق، وأصبح بإمكان الزوجة أن تفك الرابطة الزوجية عن طريق القاضي إذا ما أثبتت سببا مشروعا يجعل الحياة الزوجية مستحيلة، وذلك تيسيرا على الناس وتجنبا للحرج وتماشيا وروح الشريعة الإسلامية.
ومقارنة بما جاء في المادة نفسها قبل تعديلها فإن المشرع قد وسع من دائرة الأسباب التي تخول للمرأة طلب التفريق القضائي (التطليق). وهذا يعتبر ارتقاء تدريجيا لتكريس حق الزوجة في التطليق بإيجاد رخصة لها في إمكانية فك الرابطة الزوجية عن طريق القاضي بعد تقديم الأسباب والعلل الشرعية في ذلك([9]).
والملاحظ أيضا أن المشرع الجزائري قد جاء بأسباب أكثر ليونة فيما يتعلق بهذه الصورة، وذلك بمنحه فرصا جديدة للزوجة في حال مطالبتها بالتطليق، وأوصلها إلى عشرة أسباب.
إلا أن فقهاء الشريعة قد حصروا أسباب التطليق في حالات معينة وهي: عدم النفقة والضرر المعتبر شرعا، وغيبة الزوج أو حبسه، والعيوب التناسلية([10]). غير أن بعض ما جاء به قانون الأسرة من أسباب للتطليق يعدّ توسعة على الزوجة في طلب التفريق بحقها في الخلع تارة، أو بسبب مخالفة الزوج للشروط المتفق عليها في العقد تارة أخرى، أو بسبب مخالفة الزوج أيضا للأحكام الواردة في المادة 8 من قانون الأسرة وغير ذلك.
وعلى العكس من ذلك فإن الشريعة الإسلامية، وحفاظا منها على استقرار العلاقة الزوجية، اتجهت إلى التضييق من كل ما من شأنه هدم الحياة الزوجية.
كما يلاحظ على المادة نفسها أنها لم تبين حكم التطليق عند وقوعه هل يقع طلاقا رجعيا أم طلاقا بائنا، إلا أنه يفهم من المواد 49 -50-51 أنها تشمل جميع صور فك بخصوص إجراءاتها عن طريق الطلاق([11]).
هذا، وقد بحث الفقهاء القدامى والمحدثين على اختلاف مذاهبهم كل هذه الأنواع وجملة الأسباب التي تخول للمرأة الحق في طلب التفريق القضائي، وفصلوا الحديث عنها بما لا يدع مجالا للخوض فيها.
غير أن ما أضافته المادة 53 من قانون الأسرة بموجب الأمر 05-02، ويتمثل ذلك بالتحديد في الفقرات السادسة والثامنة والتاسعة من نفس المادة، يتطلب الوقوف عندها لمعرفة مدى توافق ما ذهب إليه المشرع مع ما هو مقرر في الفقه الإسلامي.
ذلك أن المشرع الجزائري قد نص في الفقرة السادسة من المادة 53 أنه من حق المرأة أن تطلب التطليق عند مخالفة الزوج للأحكام الوادة في المادة الثامنة من قانون الأسرة، كما أفرد التطليق للشقاق المستمر وفق الفقرة الثامنة من المادة نفسها، في حين اعتبر الفقه الإسلامي الشقاق نوعا من أنواع الضرر الذي يستوجب التفريق عند استمراره وفشل الحكمين، كما أجاز للمرأة أن تطلب التطليق إذا لحقها ضرر بسبب الزواج عليها، لا بمجرد تعدد زوجها في الزوجات. كما ذهب المشرع الجزائري إلى منح الحق للمرأة في طلب التطليق عند مخالفة الزوج للشروط المتفق عليها في عقد الزواج وفق الفقرة التاسعة التي يعتبر مصدرها في الأساس المادة 19 من قانون الأسرة، والتي سبق التطرق إليها عند الحديث عن الاشتراط في عقد الزواج، ومنه فلا داعي للوقوف عندها.
على أن الفقرتين السادسة والثامنة من المادة نفسها تطرحان عدة إشكالات فقهية من حيث سلطة القاضي في إجابة طلب المرأة في التفريق بينها وبين زوجها بالتطليق. وفيما يلي بيان ذلك.
[4]- يلاحظ أن التفريق يختلف عن الطلاق؛ بأن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته، أما التفريق فيقع بحكم القاضي، لتمكين المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبرا عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع.
[7]- عدلت بالأمر رقم 05-02 المؤرخ في 27/2/2005، وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"يجوز للزوجة أن تطلب التطليق للأسباب التالية: 1- عدم الإنفاق بعد صدور الحكم بوجوبه، ما لم تكن عالمة بإعساره وقت الزواج مع مراعاة المواد 78-79-80 من هذا القانون.2-العيوب التي تحول دون تحقيق الهدف من الزواج.3- الهجر في المضجع فوق أربعة أشهر.4- الحكم بعقوبة شائنة مقيدة لحرية الزوج لمدة أكثر من سنة فيها مساس بشرف الأسرة، وتستحيل معها مواصلة العشرة والحياة الزوجية.5-الغيبة بعد مضي سنة بدون عذر ولا نفقة.6- كل ضرر معتبر شرعا ولا سيما إذا نجم عن مخالفة الأحكام الواردة في المادتين 8 و37 أعلاه.7- ارتكاب فاحشة مبينة".
[9]- واضح من تسهيل المشرع الجزائري من مهمة الزوجة في تأسيس طلبها وإعطائها فرصا أخرى تجعل من رخصتها الجوازية ترتقي شيئا فشيئا لمرتبة الحق الأصيل الذي يقابل إرادة الزوج المنفردة في إيقاع الطلاق.
[11]- ينطبق على هذه الحالة ما قيل بصدد الطلاق بالإرادة المنفردة وحكم الرجعة فيه قبل وبعد صدور الحكم بالطلاق وفق قانون الأسرة. ذلك أن المشرع الجزائري لم يعتبر اختلاف الحكم في التطليق باختلاف سببه. ذلك أن الأمر يختلف من حيث اختلاف فقهاء الشريعة الإسلامية في وقوع الطلاق على سبيل المثال بسبب عدم الإنفاق فيكون طلاق رجعيا عند المالكية، وفسخا عند الشافعية والحنابلة. والتفريق للعيوب طلاق بائن عند أبي حنيفة ومالك، وعند الشافعي وأحمد فسخ. والتفريق للغيبة عند مالك طلاق بائن، وعند أحمد فسخ. والطلاق للضرر طلاق بائن عند مالك. وعلى هذا تختلف الآثار المترتبة على الطلاق عنها في الفسخ.انظر، الدسوقي:حاشية الدسوقي،2/519. الشيرازي:المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/155. ابن قدامة: المغني، 11/ 365. السباعي: شرح قانون الأحوال الشخصية، 1/235 وما بعدها. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/15.
-
-
-
المحاضرة الثانية عشر:
التطليق لمخالفة أحكام المادة الثامنة من قانون الأسرة
أجازت المادة 53 من قانون الأسرة الجزائري في فقرتها السادسة للزوجة المطالبة بالتطليق حال مخالفة الزوج أحكام المادة الثامنة من قانون الأسرة، حيث أوجبت على الزوج عند عزمه الزواج بأخرى، إخبار الزوجة السابقة واللاحقة وأن يقدم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة بمكان مسكن الزوجية، ويمكن لرئيس المحكمة أن يرخص بالزواج الجديد إذا تأكد من موافقتهما، وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته على توفير العدل، والشروط الضرورية للحياة الزوجية. كما نصت المادة 8 مكرر من قانون الأسرة أنه في حالة التدليس يجوز لكل زوجة رفع دعوى قضائية ضد الزوج للمطالبة بالتطليق.
وما يمكن ملاحظته أن أحكام الفقرة السادسة من المادة 53 لا موجب لإعادة ذكرها، ذلك أن القانون قد نص عليها في المادة 8 مكرر، والتي تقضي بأحقية كل زوجة في المطالبة بالتطليق في حالة تدليس الزوج بعدم إخبارهما والحصول على موافقتهما وترخيص القاضي المسبق. كما أن المادة 19 من نفس القانون تعتبر هي الأخرى الأساس لهذه الفقرة التي تجيز للمرأة طلب التطليق عند مخالفة الزوج لشرط في عدم الزواج عليها.
وعليه يبدو أن المشرع قد أخرج من دائرة عموم الضرر المعتبر، حالة مخالفة أحكام المادة الثامنة، وجعلها سببا مستقلا من أسباب طلب التطليق من خلال نص الفقرة السادسة من المادة 53.
ومنه فهل يعدّ مجرد عدم إعلام الزوجة السابقة واللاحقة - دون إلحاق الضرر المعتبر شرعا بإحداهما أو بهما معا- سببا كافيا لطلب التطليق والتفريق القضائي، وما ينجم عن ذلك من آثار سلبية على الأسرة وبخاصة عند وجود الأبناء ؟.
نظرة الشريعة الإسلامية للتطليق لضرر تعدد الزوجات
التطليق لضرر تعدد الزوجات-كضرر خاص- مستقل عن التطليق للضرر مخالف للشريعة الإسلامية، ذلك أن التطليق للضرر هو تطليق لسوء عشرة الزوج لزوجته بسلوكه معها سلوكا مخالفا للشرع، لا لمجرد شعورها بآلام نفسية من زواجه عليها؛ لأن هذا الزواج أمر غير مخالف للشرع، والتطليق للضرر نظام عادل، يقوم على أساس من الحق، وهو تسريح بإحسان فيه خشية لله -عز وجل- لأنه يرفع الضرر عن الزوجة، كما يعطيها حقوقها كاملة، بسبب إضرار الزوج بها المتمثل في سلوكه معها مسلكا مخالفا للشرع([1])، فإذا لم يكن الزوج مضرا بها، ولكن كرهته أو شعرت بآلام نفسية من زواجه عليها رغم أنه قائم بحقوقها، ففي هذه الحالة لم يضيق الشرع عليها، ولم يجبرها على أن تعيش معه رغما عنها، وأعطاها الحق في طلب الخلع الذي هو نظام عادل، إذ يلزم الزوجة الكارهة بأن تدفع تعويضا لزوجها عما يلحقه من ضرر بسبب إنهائها العلاقة الزوجية معه دون تقصير منه، والتعويض هنا فضلا عن عدالته يحدّ من اندفاع الزوجة وراء عواطفها ورغبتها في هدم الحياة الزوجية([2]).
ولا يقال: أن الزوج هو الذي دفع زوجته إلى ذلك بزواجه عليها؛ لأن الزوج لم يخطئ بزواجه الجديد، بل هو حق مشروع له، وبغير استعمال الزوج لهذا الحق لا تتحقق مقاصد تعدد الزوجات الذي أحله الله لصالح النساء، ولصالح الرجال ولصالح المجتمع، وبالتالي فإن التطليق لهذا الضرر النفسي مخالف لنص القرآن في التسريح بإحسان.
كما أن كون الزواج الثاني فيه مظنة الضرر لقوله تعالى:]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[([3])، لا يعني أن تعطى الزوجة الحق في طلب التطليق لأي ضرر مادي أو معنوي أو نفسي؛ لأن الزواج الأول وكل زواج لا يخلو من ضرر، إذ أن الزواج قيد لكل من الزوج والزوجة يفرض على كل منهما واجبات معينة، والعدل مطلوب مع كل زوجة، سواء كان زوجها متزوجا بغيرها أم لم يكن معه سواها، ومن المستحيل أن يعدل الزوج مع زوجته الوحيدة في كل وقت، فكذلك العدل بين زوجاته غير مستطاع، كما في قوله تعالى:] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ[([4]). وطالما كان الزوج يعدل بين زوجاته العدل المستطاع، فلا يحتج عليه بقوله تعالى:]وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا[([5])، كما لا يحتج عليه بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"([6])؛ لأن الضرر الذي يجيز التفريق بين الزوجين ويستوجب الضمان ليس هو كل ضرر، وإنما هو إلحاق مفسدة بالزوجة بغير حق، أو سلوك من الزوج مخالف للشرع، والضرار كذلك هو أن يدخل الشخص الضرر بغير حق على من أضره([7]).
ويمكن القول بأن إعطاء الزوجة الحق في طلب التطليق لما أصابها من آلام نفسية بسبب جمع زوجها بينها وبين أخرى، هو دوران حول حق الرجل في تعدد الزوجات يستهدف تعطيله والحدّ منه، وهو ما يؤدي إلى ضرر عام ومفاسد أعظم من الضرر الذي يصيب زوجة يتزوج عليها زوجها؛ لأنه يؤدي إلى زيادة الفائض من النساء غير المتزوجات، فيزيد أزمة الزواج حدة، كما يؤدي إلى كثرة الزواج العرفي وكثرة وقوع الطلاق، وظهور الانحرافات الخلقية. كما لا يقاس الضرر بعواطف النساء، لأن الضرر العاطفي لا يتعلق به حكم شرعي، إذ الحكم الشرعي هو خطاب الله -عز وجل- المتعلق بأفعال المكلفين لا بعواطفهم أو أهوائهم([8]).
كما أن تزوج الصحابة على زوجاتهم دون أن يشترط عليهم رسول الله r أخذ رضا زوجاتهم، ولم يعتبر الألم النفسي الذي يصيب الزوجة من تعدد الزوجات ضررا يجيز الحكم لها بكافة حقوق المطلقة إذا رغبت في فراق زوجها، على الرغم من أن غيرة النساء موجودة في كل عصر. ومن المغالطة القول بأن الصحابة كانوا يعددون زوجاتهم بحكم البيئة والعرف، وقد تغير العرف الآن فيجب أن يتغير حكم تعدد الزوجات بتغيره، بل أنهم كانوا يعددون في الزوجات امتثالا لقوله r :"وإن من سنتنا النكاح"([9])، كما أن أحكام تعدد الزوجات والطلاق غير مبنية على العرف، وإنما هي مبنية على نصوص قرآنية في شريعة صالحة لكل زمان ومكان([10]).
وأما المفاسد التي يراها المنادون بتقييد تعدد الزوجات في المشكلات التي تنشأ بين الزوجات والأولاد، فيمكن الحدّ منها عن طريق التربية الدينية الصحيحة([11])، وعن طريق الأخذ بما رسمه الإسلام من صلح بين الزوجين وبعث للحكمين، ثم إن المفسدة التي تسدّها الذريعة يجب أن تكون مفسدة في نظر الشرع، لا مفسدة يتوهمها ولي الأمر بسلطته في تقييد المباح عملا بالسياسة الشرعية التي تعتمد على سدّ الذرائع([12])، فقد قيد الإسلام التعدد بقيود تختص بالعدد والعدل وعدم الجمع بين المحارم كالجمع بين الأختين في عصمة رجل واحد، وكل قيد بعد ذلك ليس تقييدا لمباح وإنما هو تضييق على حلال. كما أن التطليق لتعدد الزوجات أو لضرر نفسي ناتج عنه يصيب الزوجة أمر مخالف للثابت في جميع المذاهب الإسلامية، فإذا كان المذهب المالكي قد أجاز التطليق للضرر، فإن مراجعه صريحة في أن زواج الرجل بأخرى لا يعتبر ضررا([13]).
ومما سبق ذكره يمكن تنظيم تعدد الزوجات -إضافة إلى ما هو مقرر في الشريعة من قيود- بما يأتي([14]):
أولا: على الزوج إسكان زوجته في مسكن مستقل بمرافقه، ويعتبر في استقلال المسكن حال الزوج وعرف البلد.
ثانيا: ليس للزوج أن يُسكن مع زوجته ضرة لها في مسكن واحد بغير رضاها.
ثالثا: للزوجة إن خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا أن تطلب الصلح بينها وبينه.
رابعا: للزوجة المتضررة ضررا لا يُستطاع معه دوام العشرة بين أمثالها، وتعذر الصلح بينهما، أن تطلب التفريق بينها وبينه، ويعتبر هذا تطليق للضرر لا لمجرد التعدد.
وخلاصة لهذه المسألة يمكن القول بأن الشريعة الإسلامية تعترف بتفضيل الزواج الموحد ولا تقضي بتحريم الزواج المتعدد، فقد أباحته مع ضمان العدل بين الزوجات. وإذا كانت مشاركة امرأة أخرى في الزوج تولد إحساسا بالغيرة لدى الزوجة الأخرى، فإن هذا الإحساس ليس أقسى من مهانة العمل أو مهانة الحاجة أو مهانة الغيرة البائسة أو مهانة الابتذال.
[1]- أقرت الشريعة الإسلامية للزوجة طلب التطليق للضرر الذي يلحقها من زوجها أيّا كان نوعه، إلا أنه ليس لها أن تطلب التطليق بسبب زواج زوجها من زوجة أخرى إلا إذا أثبتت الضرر المادي أو المعنوي، بحيث يكون من الجسامة ما يتعذر معه دوام العشرة بين أمثالهما، وطلب التطليق في هذه الحالة هو تطليق للضرر، ومناطه وقوع الضرر فعلا. انظر، أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 490.
[2]- انظر، عبد الناصر توفيق العطار: الأسرة وقانون الأحوال الشخصية، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة،(دط،دت)، ص 249.
[3]- النساء: الآية 3.
[4]- النساء: الآية 129.
[5]- البقرة: الآية 231.
[6]- انظر، محمد الزرقا: شرح القواعد الفقهية، ص 165.
[7]- انظر، عبد الناصر توفيق العطار:الأسرة وقانون الأحوال الشخصية، ص 251.
[8]- قال أنور العمروسي:"ولا يعد مجرد الزواج بأخرى في حدّ ذاته ضررا مفترضا يجيز للزوجة طلب التطليق، إذ أن من حق الزوج أن ينكح من الزوجات مثنى وثلاث ورباع، وما شرع الله حكما إلا لتحقيق مصالح العباد، وأن ما كان ثابتا بالنص هو المصلحة الحقيقية التي لا تبديل لها فإن العمل على خلافها ليس إلا تعديا على حدود الله".موسوعة الأحوال الشخصية للمسلمين، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2000، 1/603.
[9]- سبق تخريجه، ص 259.
[10]- انظر، عبد الناصر توفيق العطار: المرجع نفسه، ص 261.
[11]- إن ما قد يحتاج إليه الرجل من تعدد الزوجات بالشروط والضوابط المذكورة آنفا، لا يخدش شيئا من مصلحة الأسرة ولا يدخل أي اضطراب في عمود النسب. انظر، البوطي: المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني ، ص 133.
[12]- انظر،عبد الناصر توفيق العطار: الأسرة وقانون الأحوال الشخصية، ص 264.
[13]- ففي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:"ولها، أي للزوجة التطليق على الزوج للضرر، وهو ما لا يجوز شرعا، كهجرها بلا موجب شرعي، وضربها كذلك، وسبها وسب أبيها... ويؤدب كذلك زيادة على التطليق...لا، (أي ليس لها التطليق) بمنعها من حمام وفرجة –أي نزهة- وتأديبها على ترك صلاة أو تسر أو تزوج عليها"ثم قال:"ومتى شهدت بينة بأصل الضرر فلها اختيار الفراق".2/345. واضح من هذا النص أن زواج الرجل على زوجته لا يعتبر ضررا يجيز للزوجة طلب التطليق، بل لا بد من وقوع الضرر فيكون تطليقا للضرر.
[14]- انظر، عبد الناصر توفيق العطار: تعدد الزوجات من النواحي الدينية والاجتماعية والقانونية،دار الشروق، جدة، ط4، 1977،ص 322-323.
-
-
-
المحاضرة الثالثة عشر:
التطليق للشقاق في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
بيّن الشرع الإسلامي أن لكل من الزوجين حقا قِبَل الآخر يجب عليه رعايته وأرشد أن أساس الزواج السكن والمودة والرحمة، ووجه الزوجين إلى مقاومة الخلافات بالموعظة الحسنة والتقويم السليم، فجعل للرجل أن يعظ زوجته بحيث إذا لم يجد معها الوعظ هجرها في المضجع، فإن لم يجد ذلك ضربها ضربا غير مبرح دون بغي ولا عدوان، كما وجه الشارع المرأة إلى استرضاء الزوج إذا شعرت منه نشوزا أو إعراضا، حتى يستقيم حاله، وإلا فإنها ترفع أمرها إلى القاضي فيعذره بما يرى أنه أنفع. ولا شك أن المقصود بالشقاق هو سوء العشرة بين الزوجين واستمرار التنافر بينهما، بسبب من الزوج أو من الزوجة، أو بسببهما معا([1])، مما يلحق الضرر بأحدهما أو بكليهما؛ لأن الشقاق بحدّ ذاته يعتبر ضررا، ولذا فإذا دبّ الخلاف واتسع نطاق الشقاق فإن الشارع قد عالج ذلك بتوسيط حكم من أهله وحكما من أهلها ليدرسا سبب الشقاق وهما على قرب منهما وصلة بهما تمكنهما من تكشف الحقائق، لمحاولة إصلاح ذات البين وملافاة أسباب النزاع قبل أن يستفحل أمره، ويتعداهما إلى باقي الأسرة. بخلاف ما ذهب إليه المشرع الجزائري من عدم بعث الحكمين في حال الشقاق وثبوت الضرر أمام القاضي وفق ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 56 من قانون الأسرة:"إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما".
وكما هو معلوم شرعا أن الفرقة بسبب الشقاق المستمر قد تكون طلاقا على الوجه المشروع إذا كانت الإساءة من جانب الزوجة، كما يكون خلعا إذا كان الشقاق بسبب كرهها له([2])، ويكون تطليقا من الحكمين إذا كان التشاجر بينهما وجهلت أحوالهما في التشاجر، ولم يعرف المحق من المبطل([3]). غير أن المشرع الجزائري جعل الحق للمرأة في طلب التطليق عند الشقاق المستمر بينها وبين زوجها، الأمر الذي قد تكون المرأة سببا في استفحاله واستمراره. ومنه فإذا كانت الشريعة قد عالجت حالة الشقاق ببعث الحكمين قصد الإصلاح بين الزوجين والتوفيق بينهما، فإن المشرع الجزائري قد أجاز للزوجة طلب التطليق عند قيام الشقاق. وترك أمر تحديد هذا الشقاق وتكييفه التكييف الذي يؤدي إلى الوقوف بجانب الزوجة، والقضاء لها بطلبها التطليق على زوجها.
على أن التطليق إنما يكون بسبب الضرر الناشئ عن الشقاق أو سوء العشرة، والذي يتعذر معه استمرار الحياة الزوجية كالهجر دون موجب شرعي والضرب والسب، والإكراه على محرم أو تعاطي المحرم([4]). وهذا ما أقرته المادة 53 من قانون الأسرة في فقرتها العاشرة بقولها:"كل ضرر معتبر شرعا". فكان الأولى عدم إضافة الفقرة الثامنة الخاصة بحالة الشقاق المستمر بين الزوجين، ذلك أن الشقاق يعتبر صورة من صور الضرر المعتبر شرعا لما ينجم عنه من آلام نفسية ومعنوية -تلحق بأحد الزوجين أو بكليهما- قد تكون أشد وقعا من الضرر المادي([5]).
وعلى هذا فإن الشريعة الإسلامية لم تعتبر الشقاق سببا للتطليق، بل أوجبت تعيين الحكمين للإصلاح، وفي حالة الضرر أجازت للمرأة رفع أمرها للقاضي، ومن هنا بان الفرق الذي يستوجب الوقوف عنده في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري من خلال ما يأتي:
الفرع الأول: الجانب الفقهي
الشقاق: هو النزاع الشديد بين الزوجين، سواء أكان بسبب من أحد الزوجين أو بسببهما معا، أو بسبب أمر خارج عنهما([6]). والضرر هو إيذاء الزوج لزوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم والتقبيح المخل بالكرامة والضرب المبرح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر من غير سبب يبيحه ونحوه([7]). قال الطبري:" وإن علمتم أيها الناس شقاق بينهما، وذلك بمشاقة كل واحد منهما لصاحبه، وهو إتيان ما يشق عليه من الأمور؛ فأما من المرأة فالنشوز، وتركها أداء حق الله عليها، الذي ألزمها الله لزوجها؛ وأما من الزوج فتركه إمساكها بالمعروف، أو تسريحها بإحسان"([8]). فقد يختل التوازن وتسوء العشرة ويقع الضرر، ويكون الضرر من الزوجة تارة، ومن الزوج أخرى، وحصول الضرر من الزوجة يعالج بالتأديب الوارد في آية النشوز، فإذا فشل التأديب والصلح فالطلاق بيد الزوج، وبذلك يستطيع أن يرفع الضرر عن نفسه، فإن كان الضرر من الزوج-والمرأة لا تملك الطلاق فلا يجوز أن تبقى ضحية ظلم الزوج وتجبره- من أجل هذا جعل الشرع الحكيم للمرأة الحق في أن ترفع أمرها إلى القضاء إذا وقع عليها ضرر من الزوج، وجعل للقاضي الحق في أن يطلق على الزوج على الرغم منه، إذا ثبت له ضرر، وهو ما تقتضيه نصوص القرآن التي تأمر بالعدل والإحسان والعشرة بالمعروف([9]).
والذي يهمّ في هذا المقام هو التطرق لحالة كون الزوج هو المسيء لزوجته بظلمها والتعدي عليها، أو أن الشقاق كان بسببه([10])، بمعنى الضرر الناشئ عن إيذاء الزوج زوجته ماديا أو معنويا، بكل ما يجاوز حق التأديب المباح شرعا، ولا ترى الزوجة الصبر عليه ويستحيل معه دوام العشرة بين أمثالها([11]).
والضرر الذي يعطي الحق للمرأة في رفع دعوى الطلاق يكون بواحد من الأمور الآتية([12]): سوء العشرة، والإيلاء من غير سبب شرعي، وترك الإنفاق على الزوجة، وغياب الزوج سنة فأكثر، وأسر الزوج أو حبسه، وكذا العيوب التي تكون بالزوج وتمنع تحقق بعض مقاصد الزواج، وليس لمجرد الشقاق الذي لا يخلو منه زواج، والذي عالجه القرآن ببعث الحكمين بقصد الإصلاح.
ولا شك أن من حق الزوج على زوجته إن هي خالفته ولم تطعه فيما تجب عليها طاعته شرعا أن يؤدبها، والأصل في ذلك قوله تعالى:]وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا[([13])، ولكن لا يحق للزوج أن يتجاوز هذا الحق بضربها ضربا مبرحا ولو لأجل التأديب اتفاقا. كما اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج أن يسيئ إليها المعاملة، ولا يؤذيها بقول، لقوله تعالى:]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[([14]). فإذا تعدى الزوج حسن العشرة والمعاملة الحسنة إلى الإضرار بالزوجة، فهل يحق للزوجة في هذه الأحوال أن تطلب من القاضي أو المحكمة التفريق بينها وبين زوجها للضرر؟. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فلم يجز الحنفية والشافعية والحنابلة([15]) التفريق للشقاق أو للضرر مهما كان شديدا([16])؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب حتى يرجع عن الإضرار بها، جاء في مغني المحتاج:"فإن أساء خلقه وآذاها بضرب أو غيره بلا سبب نهاه -أي القاضي- عن ذلك ولا يعزره، فإن عاد إليه، وطلبت تعزيره من القاضي عزره بما يليق به لتعديه عليها"([17]). وجاء في المغني([18]):"إذا وقع بينهما-أي الزوج والزوجة- شقاق نظر الحاكم، فإن بان له أنه من المرأة فهو نشوز، وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة يمنعه من الإضرار بها والتعدي عليها، وكذلك إذا بان من كل واحد منهما تعدّ، وادّعى كل واحد منهما أن الآخر ظلمه، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف، فإن لم يتهيأ ذلك وتمادى الشر بينهما، وخيف الشقاق عليهما والعصيان بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها فنظرا بينهما وفعلا ما يريان المصلحة فيه من جمع أو تفريق"([19]). وأجاز المالكية([20]) التفريق للشقاق أو للضرر منعا للنزاع، وحتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيما وبلاء([21])، ولقوله r:"لا ضرر ولا ضرار"([22]).
وبناء عليه ترفع المرأة أمرها للقاضي، فإذا أثبتت الضرر أو صحت دعواها طلّقها منه، وإن عجزت عن إثبات الضرر رفضت دعواها، فإن كررت الادّعاء بعث القاضي حكمين للإصلاح بينهما، أو التفريق بعوض أو دونه([23]).
الفرع الثاني: الجانب القانوني
نص قانون الأسرة الجزائري في الفقرة الثامنة من المادة 53 على اعتبار الشقاق المستمر بين الزوجين سببا من أسباب طلب الزوجة للتطليق، حيث جاء فيها:"الشقاق المستمر بين الزوجين"([24]).
لم يعرف قانون الأسرة الجزائري التطليق للشقاق بين الزوجين قبل تعديله بموجب الأمر 05-02، وباستقراء المادة المذكورة فإنه يمكن للزوجة أن تطلب التطليق للشقاق تحت عنوان وحيد وهو الضرر المعتبر شرعا، غير أن طلبها يبقى محل تقدير من قبل قاضي الموضوع الذي يمكنه أن يحكم لها بالطلب، كما يمكن له رفضه، ويمكن الرجوع في ذلك إلى ما أقره الاجتهاد القضائي الذي جاء به القرار الصادر في 24/9/1996, والذي قرر أن استفحال الشقاق بين الزوجين يقضي بالتفريق القضائي شرعا([25]).
غير أن التعديل الذي جاء به الأمر 05-02 جعل من بين أسباب طلب التطليق الشقاق المستمر بين الزوجين، وبذلك يكون المشرع الجزائري قد استدرك هذا الموضوع وجعله سببا من أسباب التفريق القضائي، لكن دون بيان لكيفية إثبات وجود الشقاق، وإثبات استمراره، والضرر الحاصل منه، ومعرفة المتسبب فيه.
وعلى هذا لا بد من بيان إجراءات القاضي عند طلب المرأة التطليق بسبب الشقاق الناشئ عنه ضرر بها.
الإجراءات التنفيذية عند ثبوت الضرر
لم يبين المشرع الجزائري المقصود بالشقاق ولا الكيفية التي يثبت بها بغض النظر عن الضرر الناشئ بسببه. وعليه كان الأجدر بالمشرع أن لا يجيب المرأة لطلبها التطليق، حتى يتحقق من طبيعة الضرر الناشئ بسبب الشقاق، ويثبت لديه، كالضرب الذي يخلف أثرا، أو أن يثبت له أن الضرر غير بيّن، ولكن اشترطت الزوجة على زوجها في العقد أنه إذا أضر بها فلها أن تطلق نفسها، ففي هاتين الحالتين يحكم القاضي بالطلاق، ولو لم يتكرر الضرر من الزوج، لأن بقاء أثر الضرر على بدن المرأة واشتراطها عدم الضرر في العقد يقوي حجتها، ويعطي مبرر التفريق دون انتظار لتكرر الضرر.
فإن كان الضرر غير بيّن كالهجر والضرب الخفيف ولم تشترط المرأة في العقد طلاق نفسها للضرر فإن القاضي يخبر الزوج أنه إذا تكرر منه الضرر فإنه يطلق عنه، فإن تكرر الضرر، ولم يستطع الزوج أن يفند دعوى الزوجة حكم عليه بالطلاق، وإذا تكررت دعوى الزوجة بالضرر، وفي كل مرة يفند الزوج دعواها، فإن لم يتضح الأمر مع ذلك عين القاضي حكمين للإصلاح والتوفيق أو الحكم بالفراق إذا تعذر الإصلاح([26]).
وهذه النظرة الفقهية تعتبر أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه المشرع الجزائري بإجابة الزوجة في طلبها التطليق لمجرد الشقاق. ذلك أن الفقرة الثامنة من المادة 53 لم تقرن الشقاق بالضرر - الذي يعد سببا من أسباب التطليق- بل تركت الأمر لإرادة الزوجة في طلبها التطليق بمجرد سوء التفاهم بينها وبين زوجها سواء لحقها ضرر أم لا، وهذا ما يُفهم من نص الفقرة الثامنة من المادة 53. الأمر الذي لا تقره مقاصد تشريع الزواج ولا أهدافه المنشودة.
كما أنها لم تحدد المعيار الذي يعتبر الشقاق وفقه سببا كافيا لإجابة المرأة طلبها في التطليق، من حيث إثباته وقدره واستمراره وما قد يخلفه من أضرار([27]).
والإجابة عن ذلك يمكن استقراؤها من خلال نص المادة 53 التي تشترط الاستمرار في الشقاق([28]) ومن خلال الاجتهاد القضائي الصادر سنة 1996 الآتي ذكره.
التطليق للشقاق في القضاء
اشترط القضاء في الشقاق الموجب للتفريق شرطين هما الاستمرارية وثبوت الضرر، فقد جاء في المادة 53 الفقرة الثامنة منها ما يفيد استمرار الشقاق، وجاء في القرار الصادر في 24/9/ 1996 والذي كان مدعاة لوجود هذه الفقرة من المادة 53- ما يلي:" من المستقر عليه أن استفحال الشقاق بين الزوجين يقضي بالتفريق القضائي شرعا، ولما كان في قضية الحال أن المطعون ضدها تضررت من جراء استفحال الخصام مع زوجها لمدة طويلة، مما نتج عنه إصابتها بمرض الأعصاب، وأصبحت الحياة مستحيلة بينهما، فإن القضاة بقضائهم بتطليق الزوجة لهذا السبب كاف للتفريق القضائي، طبقوا صحيح القانون، ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([29]).
وعليه يمكن القول بأن المشرع الجزائري قد تناول موضوع الشقاق المبرر لطلب التفريق -الذي جاء متأخرا- بطريقة عرضية غامضة تدعو إلى الاختلاف حوله، إلا أنه يمكن الاستئناس بالاجتهاد القضائي الذي جاء به القرار المؤرخ في 24/9/1996، وكذا القرار المؤرخ في 15/6/1999 السابقين عن وجود هذه الفقرة من المادة 53 في تفسيرها ومعرفة شروطها المتمثلة أساسا في استمرار الشقاق واستفحاله وتضرر الزوجة منه.
حيث جاء في القرار الصادر بتاريخ 15/6/1999:"من المستقر عليه قضاء أنه يجوز تطليق الزوجة لاستفحال الخصام وطول مدته بين الزوجين، باعتباره ضررا شرعيا. ومتى تبين - من قضية الحال- أن الزوجة تضررت لمدة طول الخصام مع الزوج وأن الزوج هو المسؤول عن الضرر؛ لأنه لم يمتثل للقضاء لتوفير سكن منفرد للزوجة، مما يجعل الزوجة متضررة ومحقة في طلبها التعويض. وعليه فإن قضاة الموضوع لما قضوا بتطليق الزوجة لطول الخصام، وبتظليم الزوج وتعويض الزوجة طبقوا صحيح القانون، ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن"([30]). حيث يفهم من هذين القرارين أن الاجتهاد القضائي قد قيد التطليق للشقاق بقيدين أساسيين هما: الاستمرار الذي تصبح معه الحياة الزوجية مستحيلة، وكذا ثبوت الضرر بسبب الشقاق، وهذا ما لم يوضحه المشرع الجزائري من خلال نص الفقرة الثامنة من المادة 53 من قانون الأسرة.
وعلى هذا -ومن خلال ما سبق بيانه- يمكن ملاحظة ما يأتي:
- أن المشرع اعتبر الشقاق المستمر سببا يجيز للزوجة طلب التطليق وفق المادة 53، مع ثبوت الضرر الذي أكدته الاجتهادات القضائية، إلا أنه لم يفرق بين حالة الشقاق التي يكون سببها الزوج ، وبين أن تكون الزوجة سببا في حصول هذا الشقاق. ومنه يحسن إعادة صياغة الفقرة على غرار ما جاء في قانون الأحوال الشخصية السوري([31]) فيما يخص الضرر المشترك بين الزوجين وحالة تغلبيه من أحدها. مع تحديد الضرر الناشئ عن غير الزوج كأولاده من زوجته الثانية أو أقربائه عندما يصل إلى حد تعكير الحياة الزوجية ويوصل إلى الشقاق وأن يكون للزوجة حق التطليق رفعا للظلم عنها بناء على قاعدة لا ضرر وضرار .
- كما أنه لم يتطرق إلى موضوع الإثبات رغم أن القضاء يفرق بين الضرر المعتبر شرعا فيقع على عاتق الزوجة إثباته، وبين الضرر المؤسس في حالة تعدد الزوجات وهنا تعفى الزوجة من إثباته، بناء على أن مجرد التعدد دون علم الزوجة يعتبر ضررا موجبا لطلب التطليق.
- ولم يحدد المشرع الجزائري معيار الضرر بسبب الشقاق الموجب للتطليق وفي غياب ذلك يبقى أمر تحديده خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي، لذلك فإن الضرر الخفيف لا يعدّ موجبا للتطليق كما ذهبت إلى ذلك المحكمة العليا.
- كما أنه لم يبين طرق إثبات الضرر الناشئ بسبب الشقاق، تاركا الأمر معلقا- على ما يبدو- على حرية الإثبات المدني، مثل وجود أحكام قضائية سابقة بين الزوجين، أو شهادة الشهود أو وصفات طبية تثبت وجود الضرر المعتبر. فهل تكفي حجية الحكم الجنائي الصادر بإدانة الزوج في جنحة ضرب الزوجة بتطليقها على الزوج دون اللجوء إلى وسائل الإثبات الأخرى ؟. وهو ما يستدعي التطرق لمسألة حجية الحكم الجنائي الصادر بإدانة الزوج في جنحة ضرب الزوجة كوسيلة إثبات كافية لتطليق الزوجة للضرر دون الحاجة إلى وسائل إثبات أخرى.
فقد تستند الزوجة في إثبات وقائع اعتداء الزوج عليها ضربا وسبًّا إلى سبق صدور حكم جنائي ضده لثبوت اعتدائه عليها بالضرب. والذي يثير هذا التساؤل هو أن إثبات وقائع الأضرار المتمثلة في اعتداء الزوج على زوجته بالضرب إنما يشترط لثبوتها رأي العين حيث لا يكفي التدليل عليها ببينة سماعية، وأن يشاهد تلك الوقائع رجلان عدلان أو رجل وامرأتان. في حين أن الحكم الجنائي الصادر بالإدانة ضد الزوج لاعتدائه عليها يستند غالبا إلى أقوال المجني عليها وما ثبت بالتقرير الطبي المحرر بعد توقيع الكشف الطبي عليها، فهل يعدّ هذا مثل هذا الحكم دالاًّ على نسبة الإصابات التي وجدت بالزوجة إلى الزوج لمجرد ادّعائها باعتدائه عليها بالضرب، وهل يمكن للكشف الطبي المتوقع عليها في إطار الدعوى الجنائية الجزم بأن الإصابات التي شوهدت بالزوجة لا تكون إلا من الزوج وبفعله؟
هذا ما لا يمكن القول به، ومن هنا ظهرت مشكلة تعارض اختصاص الإثبات في مسائل الأحوال الشخصية بقواعد خاصة وقاعدة حجية الحكم الجنائي أمام القضاء المدني، ومنه قضاء الأحوال الشخصية بطبيعة الحال.
فهل يعدّ مثل هذا الحكم الجنائي الذي صدر بإدانة الزوج لمجرد أقوال الزوجة المجني عليها وما ورد بالتقرير الطبي حجة دالة على نسبة إحداث إصابات بالزوجة إلى الزوج في أمر يشترط لإثباته شرعا أن يشاهده شاهدان عدلان مشاهدة العين؟
وبالنظر إلى أن المحكمة العليا لم تتعرض في قراراتها إلى تبيين طرق الإثبات، ومنها حجية الأحكام الجنائية السابقة، فإنه يمكن الإجابة عن ذلك بالاستئناس بما قضت به محكمة النقض المصرية في قراراتها المختلفة.
وتنحصر الإجابة في القول بأن الحكم الجنائي البات يفيد القضاء المدني فيما يتصل بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم([32])، وأن هذا المبدأ يشمل نطاقه الدعوى المدنية بالمعنى الواسع حيث يمتد إلى جميع الدعاوى المدنية مثل دعوى الطلاق المترتبة على جريمة الزنا([33]).
وحقيقة الأمر في هذا المجال أن الضرر الواقع على الزوجة لا يقتصر أمر إثباته على البينة وحدها إذ يثبت بكافة طرق الإثبات القانونية الشرعية، فيثبت بإقرار الزوج به، كما يثبت بالأوراق الرسمية والعرفية والقرائن فضلا عن البينة. أما إذا لجأت الزوجة إلى اختيار البينة وسيلة لإثبات الضرر الموجب للتطليق يتعين عليها الالتزام بقيود البينة الشرعية على وقوع الضرر، وهي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين يشهدان برؤيتهما وقائع اعتداء الزوج على الزوجة رأي العين([34]).
وعلى ذلك فإن الزوجة تستطيع أن تلجأ في إثبات وقائع إضرار الزوج بها إلى غير البينة الشرعية، ويدخل في ذلك الوسائل الأخرى مثل صدور أحكام جنائية ضد الزوج تثبت إدانته بشرط أن تكون هذه الأحكام باتة تثبت اعتداء الزوج عليها بالضرب مثلا شريطة أن يكون الحكم الجنائي ضد الزوج بإدانته لعقابه عن ذات وقائع الاعتداء التي تستند إليها الزوجة في دعواها بالتطليق للضرر.
أما إذا اختلفت واقعة اعتداء الزوج والتي صدر ضده الحكم الجنائي بشأنها عن تلك التي تستند إليها الزوجة في دعواها بالتطليق انتفت حجية الحكم الجنائي المذكور لاختلاف المحل في كل منهما، وليست العلة في ذلك اتحاد الخصوم والموضوع والسبب في الدعويين، وإنما هي في الوقائع لتوافر الضمانات المختلفة التي قررها المشرع في الدعاوى الجنائية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة فيها لارتباطها بالأرواح والحريات بما يقتضي أن تكون الأحكام الجنائية محل ثقة الناس على الإطلاق، وأن تبقى آثارها نافذة على الدوام، وهو ما يستلزم حتما ألا تكون هذه الأحكام معرضة في أي وقت لإعادة النظر في الموضوع الذي صدرت فيه حتى لا يجر ذلك إلى تخطئتها من جانب أيًّا من جهات القضاء([35])، ذلك أنه ليس من المقبول في النظام الاجتماعي أن توقع المحكمة الجنائية العقاب على شخص من أجل جريمة وقعت منه، ثم تأتي المحكمة المدنية فتقضي بأن الفعل المكون للجريمة لم يقع منه([36]).
وتأكيدا لهذا الاتجاه ذهبت محكمة النقض المصرية إلى أنه متى كانت الدعامة الأساسية التي أقام عليها الحكم قضاءه بالتطليق هي ما ثبت للمحكمة من أن الطاعن قد قام بطرد زوجته المطعون ضدها من منزل الزوجية ودأب على سبها وهي تكفي وحدها لحمل الحكم، ولكن يبين أن أحد الحكمين الجنائيين خاص باعتداء الطاعن على شخص لا صلة له بالدعوى وأن الثاني انتهى إلى تبرئة الطاعن من تهمة الاعتداء بالضرب على المطعون عليها، وكان الحكم لم يؤسس قضاءه على هذه الواقعة، فإن التذرع بالحجية يصبح تذرعا لا سند له([37]).
وحتى يكون الحكم الجنائي الصادر ضد الزوج من المحكمة الجنائية لاعتدائه على الزوج بالضرب أو السب أمام القضاء الشرعي يتعين تكرار الإشارة هنا إلى وجوب أن تكون وقائع الاعتداء التي تستند إليها الزوجة في طلبها التطليق هي ذاتها التي كانت تشكل موضوع الدعوى الجنائية، وهو تعبر عنه محكمة النقض المصرية بكون الفعل يشكل أساسا مشتركا بين الدعويين الجنائية والمدنية([38]).
أما إذا كانت وقائع الاعتداء التي تسند إليها الزوجة في دعوى الطلاق غير تلك التي حوكم الزوج عنها في الدعوى الجنائية بمقتضى الحكم الجنائي الذي تستند الزوجة إلى حجيته امتنع القول بالحجية ويتعين عدم اعتبارها، مما يكون معه على الزوجة في هذه الحالة تقديم دليل آخر على وقائع الاعتداء المدعاة.
وإعمال مبدأ الحجية تتولاه المحكمة من تلقاء نفسها إذا ما انطوت الأوراق على حكم جنائي بات، حيث يتعين على المحكمة الاستناد إليه والقضاء على أساسه، وكفايته وحده في هذه الحالة لحمل الحكم بالتطليق.
أما إذا لم يصل الحكم الجنائي إلى هذه المرتبة جاز لمحكمة الأحوال الشخصية الاستناد إليه في إثبات إضرار الزوج بزوجته، ولكن لمجرد قرينة ضمن قرائن أخرى يتعين توافرها في الدعوى.
[1]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/342.
[2]- انظر، الدردير: الشرح الصغير، 1/440.
[3]- انظر، ابن رشد: بداية المجتهد، 2/98.
[4]- انظر،حسن موسى الحاج موسى: القضاء الشرعي السني، ص 148.
[5]- يختلف التطليق للضرر عن التطليق للشقاق، ذلك أن من حق المرأة أن تطلب التطليق لضرر معتبر شرعا لحق بها، وأما التطليق للشقاق فقد يكون الشقاق بسببها، فكيف يكون لها الحق في طلب التطليق، مع أن الفقهاء قد نصوا في مثل هذه الحالة على حق الزوج في تأديب زوجته بالطرق المنصوص عليها شرعا.
[6]- الموسوعة الفقهية: إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بيروت، (مطابع دار الصفوة)، ط1، 1993، 29/53.
[7]- وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته،7/527.
[8]- الطبري: جامع البيان، 5/70.
[9]- انظر، الصادق عبد الرحمن الغرياني: مدونة الفقه المالكي وأدلته، 3/12.
[10]- وقد سبق الكلام عن حالة نشوز الزوج مع رغبة الزوجة في البقاء في بيت الزوجية وعدم رفع أمرها للقاضي طالبة التفريق، وكذا نشوز الزوجة وطرق علاجه ، فلا حاجة للحديث عن ذلك في هذا الموضع.
[11]- انظر، أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 432.
[12]- ليس من الضرر منع المرأة من الخروج للنزهة ولا تأديبها في حقوق الله كترك الصلاة، ولا تزوج الرجل عليها امرأة أخرى، لأن ما أذن به الشرع لا يكون فعله ضررا، وما نهى عنه ففعله من الضرر. الغرياني: مدونة الفقه المالكي وأدلته،3/13.
[13]- النساء: الآية 34.
[14]- النساء: الآية 19.
[15]- انظر، الشربيني: مغني المحتاج،3/344. ابن قدامة: المغني، 10/262-263.
[16]- هذا النوع من الضرر يختلف عن الضرر الذي قد يلحق الزوجة ويجيز لها طلب التفريق كما في حالة إعسار الزوج بالنفقة أو وجود عيب بالزوج، أو غيابه أو حبسه، فإن الضرر فيها جميعا متى ثبت يجوز للزوجة طلب التفريق، ويكون معياره موضوعيا عاما وواحدا لجميع الزوجات لا يتغير بتغير البيئة أو الثقافة أو الوسط الاجتماعي، وليس له معيار شخصي، فإما أن يثبت الضرر أو لا يثبت، فإن ثبت فإنه يعتد به بغير الالتفات إلى مدى ثقافة الزوجة أو وسطها الاجتماعي، أما بالنسبة للشقاق بين الزوجين وإيذاء الزوج زوجته فالمعيار فيه شخصي يتوقف على مكانة الزوجة بين أمثالها، فإنه يختلف من زوجة إلى أخرى، ففعل معين بذاته قد يكون أمرا عاديا بالنسبة لزوجة، وقد يكون ضررا جسيما لا تتحمله زوجة أخرى، وتقدير الضرر ومدى جسامته أمر متروك لتقدير القاضي وفق ظروف وملابسات الدعوى وحال الزوج. فإذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بها بما لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالها وأثبتت الضرر وعجز القاضي عن الإصلاح بينها وبين زوجها طلقها القاضي على زوجها، أما إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بها وأخفقت في إثبات دعواها قضى برفض طلبها. انظر، أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 432-433. وهذا ما أغفله المشرع الجزائري حين أطلق الحق للمرأة في طلب التطليق بسبب الشقاق.
[17]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/344.
[18]- ابن قدامة: المغني، 10/263-264.
[19]- وسيأتي ذكر الخلاف في الحكمين هل يملكان التفريق أم لا؟.
[20]- الصادق عبد الرحمن الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/12.
[21]- ليس المقصود بالشقاق عند الفقهاء عدم التفاهم بين الزوجين، أو عدم الانسجام بين طبائع الرجل والمرأة، إنما يقصد به الضرر أو التعدي الذي ينشأ عنهما الشقاق، فيكون تفريق القاضي بسبب الضرر لا مجرد الشقاق كما ذهب إلى ذلك المشرع الجزائري.
[22]- سبق تخريجه، ص 275.
[23]- انظر، وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/ 527-528. حسن موسى الحاج موسى: القضاء الشرعي السني، ص 134.
[24]- أضيفت هذه الفقرة من المادة 53 بموجب الأمر 05-02.
[25]- ملف رقم 139353: المجلة القضائية، العدد الثاني، 1997، ص 66.
[26]- انظر، الغرياني: مدونة الفقه المالكي وأدلته، 3/14.
[27]- وكان يفترض في مثل هذه الحالة النص على بعث الحكمين للإصلاح إذا تعذر ذلك على القاضي، وهذا مقرر في الشريعة الإسلامية بمجرد خوف وقوع الشقاق بين الزوجين.
[28]- دون بيان لمفهوم الشقاق هل المقصود به الضرر، ومن ثم يكون للمرأة الحق في طلبها التطليق، أم مجرد عدم الانسجام والتفاهم بين الزوجين فتصبح بذلك العلاقة الزوجية مرهونة بحسب مزاج الزوجة، كما أن شرط الاستمرار في الشقاق غير واضح، ذلك أن العبرة في هذه الحالة بما يخلفه الشقاق من أضرار نفسية ومعنوية أو مادية، حتى ولو لم يستمر.
[29]- ملف رقم 139353: المجلة القضائية العدد الثاني 1997، ص 66.
[30]- ملف رقم 224655: المجلة القضائية: عدد خاص 2001، ص 129.
[31]- المادة 114: 1- يبذل الحكمان جهدهما في الإصلاح بين الزوجين فإذا عجزا عنه وكانت الإساءة أو أكثرها من الزوج قررا التفريق بطلقة بائنة. 2- وإن كانت الإساءة أو أكثرها من الزوجة أو مشتركة بينهما قررا التفريق بين الزوجين على تمام المهر أو على قسم منه يتناسب ومدى الإساءة. المرسوم التشريعي رقم 59/ 1953 المعدل.
[32]- حكم محكمة النقض المصرية الصادر في 30/12/1972.
[33]- أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980،ص 1140.
[34]- حكم محكمة النقض المصرية، دائرة الأحوال الشخصية، الطعن رقم 84 ، جلسة 28/3/1989.
[35]- حكم محكمة النقض المصرية، دائرة الأحوال الشخصية، الطعن رقم 45، بتاريخ 09/5/1940.
[36]- حكم محكمة النقض المصرية، دائرة الأحوال الشخصية، الطعن رقم 21، بتاريخ 12/1/1944.
[37]- حكم محكمة النقض المصرية، دائرة الأحوال الشخصية، بتاريخ 12/1/1944.
[38]- حكم محكمة النقض المصرية، دائرة الأحوال الشخصية، الطعن رقم 60، بتاريخ 14/12/1929.
-
-
-
المحاضرة الرابعة عشر:
التحكيم في دعوى التطليق للشقاق
خص المشرع الجزائري ندب الحكمين للإصلاح بين الزوجين في حال تفاقم الخصام بينهما ما لم يثبت الضرر، طبقا للمادة 56 من قانون الأسرة والتي نصت على أنه:"إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما. يعين القاضي الحكمين، حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرا عن مهمتهما في أجل شهرين"([1]). وهذا ما نصت عليه المادة 446 من قانون الإجراءات المدنية:"إذا لم يثبت أي ضرر أثناء الخصومة جاز للقاضي أن يعين حكمين اثنين لمحاولة الصلح بينهما حسب مقتضيات قانون الأسرة"([2]).
حيث يفهم من هذه النصوص أن المشرع الجزائري لا يلجأ إلى ندب الحكمين إلا في حالة تفاقم الخصام وعدم تبين الضرر، على خلاف ما هو ثابت شرعا من أن ندب الحكمين يكون لمجرد خوف الشقاق، منعا لاستمراره وتفاقمه كوسيلة ناجعة لإعادة الأمر إلى ما كان عليه، ولمعرفة الطرف المسيئ من المتضرر، ومن ثم تكون مهمة الحكمين الأساسية هي الإصلاح لا مجرد معرفة الطرف المتضرر للحكم له بالتعويض.
ومنه لا بد من معرفة أساس التحكيم في الفقه الإسلامي والتشريع الجزائري، وذلك على النحو الآتي:
أولا: الجانب الفقهي
الفرع الأول: تعريف التحكيم وحكمة مشروعيته
أولا: تعريف التحكيم لغة واصطلاحا
أ- لغة: مصدر حكم، يقال حكّمه في الأمر تحكيما، أي أمره أن يحكم فاحتكم وتحكم، يعني جاز فيه حكمه، واستحكم فلان في مال فلان، إذا جاز فيه حكمه. وحكّمت الرجل؛ أي فوضت الحكم إليه، ويقال: حكمته إلى حاكم؛ أي خاصمته إليه، ودعوته لحكمه. ومن اختاره الطرفان للتحاكم إليه يسمى حكما، أو محكّما، أو حاكما، ويسمى أطراف النزاع المحكم فيه، محتكما أو محكما بكسر الكاف وتشديدها([3]).
كما يفيد المنع أيضا، تقول: أحكمت فلانا أي منعته، وبه سمي الحاكم لأنه يمنع الظلم([4]). ويطلق الحكم على من يختار للفصل بين المتنازعين([5])، كما في قوله تعالى:]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[([6]).
يتبين من التعريف اللغوي أن التحكيم يفيد تفويض الأمر للغير، وكذلك رفع الأمر للحاكم للفصل في المنازعات بين المتخاصمين.
ب- اصطلاحا: عرفه الفقهاء بتعاريف متعددة وهي في جملتها لا تخرج عن المعنى اللغوي.
فقد جاء في الدر المختار أن التحكيم هو:"تولية الخصمين حاكما يحكم بينهما"([7])، وجاء في الحاوي الكبير:"إذا حكّم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو ليس فيه قاض جاز"([8])، وقال ابن قدامة:"إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكّماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز"([9]).
وعرفه الزرقا من المعاصرين بأنه:"عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضاهما شخصا آخر حكما بينهما للفصل في خصوماتهما بدلا من القاضي"([10]).
يتضح من جملة هذه التعاريف أن التحكيم هو([11]): أن يختار أطراف الخصومة طرفا ثالثا بتراضيهما ليفصل في النزاع القائم بينهما طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
والتحكيم بين الزوجين في اصطلاح الفقهاء هو:"تولية الزوجين المتنازعين رجلين من أهلهما للإصلاح بينهما والفصل في خصومتهما"([12]).
ثانيا: مشروعيته
ثبتت مشروعية التحكيم بالكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة.
أ- من الكتاب: وردت آيات عديدة تفيد مشروعية التحكيم:
منها قوله تعالى:] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[([13])، ووجه الدلالة في هذه الآية أن الله تعالى أمر في حالة الشقاق بين الزوجين ببعث حكمين حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة، وفي هذا دليل على مشروعية التحكيم بين الزوجين عند وقوع التنازع بينهما، أو إذا ما خيف وقوع الشقاق بينهما، وإذا ما جاز التحكيم بين الزوجين جاز في سائر الحقوق والدعاوى.
كما أن الأمر الوارد في الآية "فابعثوا" يفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن حقيقته إلى الندب، ولا توجد قرينة هنا، وبالتالي يكون بعث الحكمين واجبا([14]).
وقوله تعالى:] فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[([15])، فقد أرشدت الآية الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم.
وقوله تعالى:] فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[([16])، ووجه الدلالة في الآية أن الله تعالى خير نبيه r إذا جاءه أهل الكتاب محتكمين إليه بين الحكم أو الإعراض عنهم.
ب- من السنة: ثبتت مشروعية التحكيم من السنة بأحاديث كثيرة منها:
ما جاء في حديث بريدة "أن رسول الله r كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"([17]).
ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله r أوصى أمراء الجيوش والسرايا بقبول التحكيم إذا ما طلبه الأعداء، وهذا تشريع منه r بإمضاء التحكيم، وما يؤدي إليه اجتهاد المحكم.
ج- من الإجماع: انعقد الإجماع على جواز التحكيم ومشروعية العمل به من عصر الرسول r إلى يومنا هذا، قال السرخسي:"والصحابة مجمعون على جواز التحكيم"([18])، وقال الشربيني:"ولو حكّم خصمان رجلا غير قاض في غير حدّ الله من مال أو غيره جاز مطلقا على التفاصيل الآتية بشرط أهلية القضاء، ولا يشترط عدم القاضي لأنه وقع لجمع من كبار الصحابة ولم ينكره أحد ، قال الماوردي: فكان إجماعا"([19]).
ثالثا: حكمة مشروعيته
شرع التحكيم لغرض فض المنازعات والخلافات القائمة بين الناس دون اللجوء إلى القضاء نظرا لطبيعة الإجراءات المتبعة أمامه، والتي يجد فيها الناس كثيرا من المشقة والتعب.
وتتحقق من خلال نظام التحكيم مصلحتين: مصلحة القضاء في تخفيف العبء عنه، ومصلحة الأفراد في رفع المشقة عنهم الخاصة بإجراءات التقاضي وتعقيداتها، والتي تكون في بعض الأحيان حائلا دون تحقيق العدالة في إيصال الحق إلى أهله([20]). قال ابن العربي:"وتحقيقه-أي التحكيم- أن الحكم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم، بيد أن الاسترسال على التحكيم خرق لقاعدة الولاية مؤدٍّ إلى تهارج الناس..فلا بد من نصب فاصل-أي حاكم يفصل الدعاوى- فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه-أي عن الحاكم- وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدتان"([21]).
الفرع الثاني: دور الحكمين في الإصلاح بين الزوجين
لما كان الغرض من الحياة الزوجية إقامة أسرة مستقرة عني التشريع الإسلامي ببيان ما يجب أن يكون إذا تصدع ائتلاف الزوجين، وهو بعث حكمين من أهله وأهلها يبذلان غاية جهدهما في جمع الشتات وإصلاح ذات البين، لقوله تعالى:] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[([22]). فهذا الإجراء وقائي وعلاجي إذا خيف فوات الأصل في العلاقة الزوجية وهو الاستقرار والدوام.
أولا: العشرة بالمعروف هي أصل العلاقة الزوجية
إن الأصل في العلاقة الزوجية أن تقوم على العشرة بالمعروف لقوله تعالى:] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[([23])، فالخطاب في هذه الآية موجه للأزواج، حيث أمرهم الله تعالى بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها والميل إلى غيرها، وترك العبوس في وجهها بغير ذنب([24]). ومن ناحية أخرى أوجب الله تعالى على المرأة أن تطيع زوجها طاعة مطلقة في غير معصية فيما يتعلق بحياتهما الزوجية([25])، أما فيما يتعلق بأموال المرأة فليس للزوج حق التدخل فيها، لأن المرأة لها ذمة مالية مستقلة تماما عن الذمة المالية لزوجها، فلها حرية التصرف فيها ما دامت بالغة عاقلة راشدة([26]).
غير أنه قد لا يستمر الوئام بين الزوجين وتظهر بوادر الشقاق والخلاف بينهما، من أجل ذلك وضعت الشريعة الإسلامية حلولا محددة وحاسمة قد تنتهي بالمصالحة بين الزوجين، وقد تنتهي بالفرقة بينهما.
كما أن النشوز قد يكون من جانب الزوج، أو من جانب الزوجة، وقد يكون منهما معا.
ويكون التحكيم أو بعث الحكمين في حالة عدم معرفة الناشز منهما أو كلاهما ناشز بعصيان أحدهما الآخر، وتعذر الوفاق بينهما، وبات الفراق متوقعا، فيجوز للقاضي أن يبعث رجلين حكمين أحدهما من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة، لينظرا ما هو الأصلح لهما، وأدعى لدوام العشرة والمعاملة بالإحسان.
ويشترط في الحكمين: الإسلام والبلوغ والعقل والذكورية والحرية والرشد والفقه والعدالة والأمانة والإخلاص والورع والتقى([27]).
وإن تعذر ذلك فللقاضي أن يختار من يثق به ممن يقدّر هذه المهمة النبيلة([28]). ويستحب أن يكونا من أهل الزوجين وأقاربهما([29]).
ثانيا: عمل الحكمين
الهدف الأساسي للتحكيم، هو إصلاح العلاقات الزوجية، التي أصابها النزاع والشقاق، وإرجاعها إلى حالة الوفاق والوئام، فيكون الواجب على الحكمين بذل جهدهما في الإصلاح بين الزوجين والجمع بينهما([30]). قال الدسوقي:"يجب عليهما في مبدأ الأمر أن يصلحا بين الزوجين بكل وجه أمكنهما لأجل الألفة وحسن العشرة، وذلك بأن يخلو كل واحد منهما بقريبه"([31]). فعلى كل من الحكمين أن يتحدث مع من يمثله بصراحة وانفتاح، ليعرف واقع حالته، وما يشكو منه، وما يطلبه، للوصول معه إلى نتيجة تفضي إلى تحقيق الأصلح لهما. ثم يلتقي الحكمان ويتدارسان الأمر بصراحة ووضوح، لا يخفي أحدهما على الآخر شيئا مما له ارتباط بمعالجة الموضوع، ويتفقان على رأي واحد للحل، ورأيهما ملزم للطرفين.
فإذا استحكم الخلاف واتسعت هوة الشقاق فواجب على أهل الخير والإصلاح، وخاصة الحاكم أو القاضي التدخل لمعالجة الخلاف بالنصح والوعظ والإرشاد، أو بعث الحكمين للصلح بما يريانه من كل ما من شأنه أن يعيد الوئام والوفاق، وإن انسدت السبل، ورأيا أن التفريق هو الحل الأنسب فهل يكون لهما سلطة التفريق بين الزوجين، أم يقتصر دورهما في توجيه القاضي لذلك، وله-أي للقاضي- واسع النظر في تقرير ما يراه مناسبا؟.
ثالثا: مدى سلطة الحكمين في التفريق
اختلف الفقهاء في حق الحكمين في التفريق على قولين([32]):
القول الأول: يجوز لهما التفريق لكونهما مبعوثين من قبل القاضي، فلهما حرية اتخاذ ما يريانه مناسبا، إما الإصلاح أو التفريق، لقوله تعالى:] فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [([33])، وقوله تعالى:]وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[([34]). وبه قال المالكية([35])، -ورواية- عن الشافعية([36]) -ورواية- عن أحمد([37]). قال مالك:"وذلك أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل وامرأته في الفرقة والاجتماع"([38]).
القول الثاني: لا يجوز لهما التفريق لكون الحكمين وكيلين عن الزوجين ولا يجوز لهما التفريق إلا بوكالة من الزوجين، لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما. فمهمتهما الإصلاح فحسب، وبه قال الحنفية([39]) وهو قول للشافعية([40]) -ورواية- عن أحمد([41]).
الترجيح: أنهما حكمان يجوز قولهما في التفريق والاجتماع حتى بغير توكيل من الزوجين أو الإذن منهما، حسب المصلحة التي يريانها في المشكلة؛ لأن الله تعالى سماهما حكمين، فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل. وأيضا فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص، يقول ابن القيم:"الحكَم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك"([42]).
رابعا: نوع الطلاق عند تفريق الحكمين
على الرأي القائل أن الحكمين حاكمان غير وكيلان لهما سلطة الجمع والتفريق بين الزوجين، بعوض أو بغير عوض، برضا الزوجين وبغير رضاهما. وعليه فإذا فشل الحكمان في الصلح بين الزوجين، وحكما بالتفريق بينهما، فهل يكون الطلاق رجعيا أم بائنا؟.
يقول ابن العربي:"إذا حكم بالفراق فإنه بائن لوجهين: أحدهما كلي، والآخر معنوي. أما الكلي: فكل طلاق ينفذه الحاكم فهو بائن، وأما المعنوي: فإن المعنى الذي وقع الطلاق لأجله هو الشقاق، ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الشقاق"([43]).
وقال القرطبي:"فإن وجداهما قدا اختلفا ولم يصطلحا، وتفاقم أمرهما سعَيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة، فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كان غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما، وتفريقهما جائز على الزوجين، وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلهما، والفراق في ذلك طلاق بائن"([44]).
وليس لهما أكثر من طلقة واحدة يوقعانها، فإن أوقعا أكثر من طلقة واحدة تلزم واحدة ويبطل الزائد؛ لأن الواحدة هي طلاق السنة، ولأن حكم الحكمين ليس بأعلى من حكم الحاكم، ولا يطلق الحاكم أكثر من واحدة، فكذلك الحكمان.
جاء في بلغة السالك أنه:"لا يلزم الزوج ما زاد على الواحدة إن أوقعا أكثر من واحدة، قوله: ولا يلزم الزوج ما زاد، حاصله أنه لا يجوز لهما ابتداء إيقاع أكثر من واحدة، فإذا أوقعاه فلا ينعقد منه إلا واحدة؛ لأن الزائد خارج عن معنى الإصلاح"([45]).
هذا، ويفرق المالكية بين إساءة الزوج للزوجة، وإساءة الزوجة للزوج، فإن كانت الإساءة من جانب الزوج طلق الحكمان طلقة بائنة بدون أخذ مال من الزوجة للزوج، وإن كانت الإساءة من جانب الزوجة لزوجها طلقا نظير عوض مناسب تلتزم به الزوجة لزوجها، وإن كانت الإساءة من الجانبين وعجز الحكمان عن الإصلاح بينهما، فيرى البعض منهم أنه يتعين الطلاق بدون عوض منها، ويرى البعض الآخر أنهما يطلقان أو يخالعان بالنظر على شيء يسير منها لزوجها([46]).
وهذا ما أيده الأستاذ محمد بلتاجي حيث يرى بأن ما ذهب إليه المذهب المالكي في التحكيم بين الزوجين يجمع بين قوة الدليل وتحقيق المصلحة بالعمل على حسم الشقاق بين الزوجين بصورة عادلة يدخل فيها التطليق للضرر (إذا ثبت)، والخلع بين الزوجين إذا كانت المضارة من الزوجة واستحالت العشرة بينهما، والمالكية يرجعون في كل ذلك إلى نصوص القرآن والسنة([47]).
ثانيا: الجانب القانوني
نصت المادة 56 من قانون الأسرة على أنه:"إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما. يعين القاضي الحكمين، حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرا عن مهمتهما في أجل شهرين"([48]).
حيث نصت هذه المادة على وجوب تعيين الحكمين للإصلاح بين الزوجين عند اتساع هوة الخصام والشقاق بينهما ما لم يثبت عن ذلك ضرر أثناء الخصومة.
في حين نصت المادة 446 من قانون الإجراءات المدنية على جواز تعيين حكمين لمحاولة الإصلاح بين الزوجين:"إذا لم يثبت أي ضرر أثناء الخصومة جاز للقاضي أن يعين حكمين اثنين لمحاولة الصلح بينهما حسب مقتضيات قانون الأسرة"([49]).
كما يتضح من خلال نص المادة 449 من قانون الإجراءات المدنية أنه يجوز للقاضي إنهاء مهمة الحكمين، إذا ثبت له فشلهما في الإصلاح:"يجوز للقاضي إنهاء مهام الحكمين تلقائيا إذا تبينت له صعوبة تنفيذ المهمة وفي هذه الحالة يعيد القضية إلى الجلسة وتستمر الخصومة"([50]).
وما يمكن إبداؤه من ملاحظات حول موقف المشرع الجزائري من مسألة ندب الحكمين للإصلاح بين الزوجين ما يلي:
أولا: خص المشرع ندب الحكمين بحالة واحدة تعدّ سببا من أسباب التفريق القضائي بين الزوجين وتتمثل هذه الحالة في تفاقم الخصام بين الزوجين واستمرار الشقاق، دون أن يثبت الضرر في ذلك([51]).
ومنه يشترط لتعيين الحكمين في دعوى التطليق للشقاق([52]):
1- أن يشتد الخصام بين الزوجين، وتقدير شدة الخصام هنا أمر يتعلق بموضوع الدعوى، ولذلك يخضع تقديره لقاضي الموضوع.
2- ألا يثبت الضرر أمام القاضي، ولم يستطع القاضي التوفيق بين الزوجين.
ثانيا: أن المشرع قد قصر دور الحكمين في الإصلاح ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، وليس لهما القول بالتفريق بين الزوجين.
ثالثا: لا تعدو أن تكون سلطة الحكمين اللذين يعينهما القاضي مجرد تكليف بمهمة، فإذا فشلا في ذلك، فإن للقاضي إنهاء مهامهما تلقائيا، ويعيد القضية إلى الجلسة واستمرار الخصومة، بعد أن يطلع الحكمان القاضي بما يعترضهما من إشكالات أثناء تنفيذ المهمة طبقا للمادة 447 من قانون الإجراءات المدنية.
[1]- الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. يُفهم من نص هذه المادة أن تعيين القاضي للحكمين في حالة الشقاق بين الزوجين إنما يكون عند عدم طلب الزوجة التطليق استنادا إلى الفقرة الثامنة من المادة 53 من نفس القانون.
[2]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخة في 23/4/2008.
[3]- المعجم الوسيط: ص 190.
[4]- ابن منظور: لسان العرب،12/141.
[5]- المعجم الوسيط: ص 190.
[6]- النساء: الآية 35.
[7]- الحصكفي: الدر المختار، مطبعة محمد علي صبيح، مصر،(دط،دت)، 2/150.
[8]- الماوردي: الحاوي الكبير، 16/325.
[9]- ابن قدامة: المغني، 14/92.
[10]- مصطفى الزرقا:المدخل الفقهي العام، 1/619.
[11]- القضاء هو النظر في الخصومات التي تقع بين الناس بولاية عامة أما إن كان ذلك بولاية خاصة فهو التحكيم. انظر، أحمد إبراهيم بك: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 433.
[12]- انظر، ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/264.
[13]- النساء: الآية 35.
[14]- انظر، محمود محمد عوض سلامة: الصلح في مسائل الأحوال الشخصية، ص 65-66.
[15]- النساء: الآية 65.
[16]- المائدة: الآية 42.
[17]- مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، حديث رقم 1731. 2/828-829.
[18]- السرخسي: المبسوط،21/62.
[19]- الشربيني: مغني المحتاج،4/506.
[20]- انظر، محمود محمد عوض سلامة: الصلح في مسائل الأحوال الشخصية، ص 76-77.
[21]- ابن العربي: أحكام القرآن،2/622-623.
[22]- النساء: الآية 35.
[23]- النساء: الآية 19.
[24]- الجصاص: أحكام القرآن، 2/109.
[25]- الجصاص: أحكام القرآن، 2/188.
[26]- كما نصت على ذلك الفقرة الأولى من المادة 37 من قانون الأسرة الجزائري بموجب الأمر 05-02:"لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر".
[27]- راجع شروط الحكمين بالتفصيل: ابن قدامة: المغني، 10/265.
[28]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/265.
[29]- اختيار الحكمين من أهل الزوجين، يقصد منه الاستفادة من عاطفتهما، وحرصهما على مصلحة الزوجين القريبين منهما، كما أن اطلاعهما على أسرار حياة الزوجين، لا يشكل إحراجا كبيرا، كاطلاع الأجانب ضمن المحاكم العامة، إضافة إلى تجاوز هذا التحكيم العائلي قيود ونفقات المحاكم العامة. لكن ذلك مشروط بأن يأتي كل واحد من الحكمين بقصد الإصلاح، وعودة الانسجام والوئام بين الزوجين، لا بقصد الانتصار لطرف، أو الانتقام من الآخر.
[30]- يفترق المحكم عن القاضي الرسمي بأمور منها: أن سلطة القاضي وصلاحيته عامة على سائر الناس في منطقة قضائه. أما سلطة المحكم فمقصورة على المحتكمين إليه، لأنه في الأصل ليس منصوبا للقضاء من مرجع له سلطة الإلزام العام، وإنما جعل حاكما بإرادة من اختاروه، فلا ينفذ حكمه إلا في حقهم وفي الحدود التي قيدوه بها. الزرقا: المدخل الفقهي العام، 1/620.
[31]- الدسوقي: حاشية الدسوقي، 2/345.
[32]- الماوردي: الحاوي الكبير، 9/602-603.
[33]- البقرة: الآية 229.
[34]- النساء: الآية 130.
[35]- الباجي: المنتقى شرح موطأ مالك، 5/404-405.
[36]- الشيرازي: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 2/488.
[37]- ابن قدامة: المغني، 10/264.
[38]- الباجي: المنتقى، 5/404.
[39]- انظر،الجصاص: أحكام القرآن، 2/191.
[40]- الشيرازي: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 2/488.
[41]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 10/264.
[42]- ابن القيم: زاد المعاد، 5/190.
[43]- ابن العربي: أحكام القرآن،1/426.
[44]- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن،6/292.
[45]- الصاوي: بلغة السالك، 1/440. شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام، ص 603.
[46]- الدردير: الشرح الصغير، 1/440.
[47]- محمد بلتاجي: دراسات في الأحوال الشخصية، ص 97.
[48]- الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005.
[49]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخ في 23/4/2008.
[50]- القانون رقم 08-09 المؤرخ في 25/2/2008. الجريدة الرسمية: العدد 21 المؤرخ في 23/4/2008.
[51]- كما يمكن ندب الحكمين في صورتي الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج، أو الخلع بطلب من المرأة ، ذلك أن سبب الفرقة في هاتين الحالتين لا تخلو من الشقاق، وقلّما تحصل الفرقة بغير سبب معقول.
[52]- لم يرد في نص المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري حكم ما إذا لم يوجد حَكَم من أهل كل من الزوجين أو من أهل أحدهما، وبالتالي يتعين الرجوع إلى إعمال حكم المادة 222 من نفس القانون والتي تقضي بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
-
-
-
المحاضرة الخامسة عشر:
آثار انحلال الرابطة الزوجية في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
يقصد بالآثار التي تترتب على انحلال الرابطة الزوجية -في هذا الموضع- هي تلك المترتبة على فك الرابطة الزوجية عن طريق الطلاق. إذ تترتب على الطلاق آثار شرعية لا بد أن يلتزم بها طرفا العلاقة الزوجية بعد انحلالها شرعا وقانونا، قد لا تكون موجودة أثناء الحياة الزوجية، أو قد تكون محرمة فتصبح مباحة بعد الطلاق، أو قد تكون مباحة أثناء قيام العلاقة الزوجية، فتصبح بعد انحلالها ممنوعة، كما أن هناك التزامات شرعية على المطلقة لا بد من فعلها بعد الطلاق، وهي أثر من آثاره شرعا، كالعدة مثلا.
وهذه الآثار من عمل الشارع فتكون ملزمة للمطلقين؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولا بأس من ذكر بعضها على سبيل تمييزها عن بعض المسائل الاجتهادية التي تخص آثار الطلاق وهي:
- حل الرجعة إن كان الطلاق رجعيا ما دامت في العدة ولا يشترط رضا الزوجة.
- حل زواج المطلق بمن كانت تحرم عليه حرمة مؤقتة. وحل زواج المطلقة بآخر-بعد انقضاء عدتها من الأول- غير مطلقها، وكذا حرمة الخلوة بين المطلّقين.
- وجوب العدة على المطلقة، ونقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، مع استحقاق مؤخر الصداق بالطلاق واستحقاق المتعة، ونفقة المعتدة وسكناها، ونفقة الأولاد وأجرة حضانتهم وأجرة الرضاعة وما إلى ذلك.
وهذه الآثار المترتبة على الطلاق ثابتة في الشريعة الإسلامية، وقد دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة. ومن ثم فلا حاجة للبحث فيها، وأحكامها مبثوثة في كتب الفقه الإسلامي. إلى جانب ذلك لم يخرج المشرع الجزائري عما قررته الشريعة الإسلامية فيها من أحكام على العموم، إلا في كيفية تطبيقه لبعض المسائل الجزئية-وقد سبقت الإشارة إليها-.
وعليه فإن مجال الاختلاف الفقهي إنما يخص بعض الآثار التي تشتمل على مسائل للعلماء القدامى والمحدثين رأي فيها، كموضوع النزاع في متاع البيت، والذي يتحاكم فيه إلى العرف، أو إلى القاعدة الفقهية في الإثبات "البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر"، وعلى هذا سار المشرع، ومنه فلا حاجة للتطرق لهذه المسألة. وكمسألة ثبوت النسب بعد الطلاق -وقد سبقت الإشارة إليه في الفصل الأول من هذا الباب-.
ويبقى موضوع الحضانة كأثر من آثار الطلاق وما تختص به من مسائل وأحكام، وخصوصا التعديلات الجديدة التي أدخلت على موادها بموجب الأمر 05-02 مجالا للاختلاف الفقهي فيها، إلا أنه لا يخرج عن الأصول والقواعد العامة للشريعة الإسلامية، إذ لا يعدو أن يكون خلاف في طريقة تكييف وتطبيق بعض الجزئيات، وذلك راجع لطبيعة وأسباب اختلاف الفقهاء.كمسألة سقوط حق الحضانة بالنسبة للحاضنة العاملة، ومسألة انتقال الحضانة وترتيب مستحقيها، ومسألة مسكن الحاضنة. إلا أن المشرع الجزائري قد خرج في بعضها عما نص عليه الفقهاء سلفا، مما يستوجب التعرض لها كونها تمس أحد القضايا المطروحة بصورة مستمرة على القضاء.
وقد تناول قانون الأسرة الجزائري أحكام الحضانة في مواده من 62 إلى 72 بموجب الأمر 05-02 الذي ألغى المادة 63، وأخضع بعضا من مواد الحضانة للتعديل. حيث جعل الأب أولى بحضانة الولد بعد الأم وفقا للمادة 64، كما أكد على حق المرأة الحاضنة في العمل وفقا للمادة 67، وفي المادة 72 ألزم الأب بتوفير سكن ملائم للحاضنة، وإن تعذر عليه ذلك فعليه دفع بدل الإيجار، وتبقى الحاضنة في بيت الزوجية حتى تنفيذ الأب للحكم القضائي المتعلق بالسكن.
وبالرغم من ذلك يبقى هذا التعديل محل نقاش إذا ما قورن بما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وخصوصا ما نص عليه التعديل الجديد من خلال محاولته الموازنة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة([1])، من ذلك ما يتعلق ببعض مسائل الحضانة كانتقالها إلى الأب مباشرة بعد الأم، وكون عمل المرأة لا يعدّ سببا لسقوط الحضانة عنها، وجعل السلطة التقديرية للقاضي مراعاة لمصلحة المحضون فيما يتعلق بإسناد الحضانة عند سفر الحاضن، وبقاء الحاضنة في مسكن المطلق إلى غاية تنفيذه للحكم القضائي المتعلق بالسكن. إلى غير ذلك مما سنعرض له من خلال بيان ما قرره فقهاء الشريعة في اجتهاداتهم في مسائل الحضانة، مع إبراز وجهة نظر المشرع الجزائري في ذلك. ويكون ذلك على النحو الآتي:
أولا: أحكام الحضانة في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري
عني الإسلام بالفرد منذ نعومة أظفاره، بل قبل ذلك عندما أمر الرجل أن يختار الزوجة الصالحة والنبت الحسن. ذلك أن الفرد الصالح هو أساس الأسرة الفاضلة، والأسرة الفاضلة هي نواة المجتمع الخيّر، ولهذا نبه النبي r إلى أهمية تنشئة الطفل تنشئة صالحة، فقال:"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أوينصِّرانه، أويمجِّسانه"([2]). فكانت للحضانة في الإسلام أهمية خاصة؛ لخطورتها البالغة؛ لذلك أوجبها الإسلام على الأب أو من ينوب عنه في حال الوفاة أو العجز. وتزداد أهمية الحضانة ويعظم قدرها عندما يفترق الزوجان، وتنشأ بينهما نزاعات وخصومات تعرض الطفل لمخاطر كبيرة، ولانحرافات مثيرة، إذا لم يلتزم الطرفان المتنازعان بالأحكام الشرعية والآداب المرعية، ويتقيا الله في أنفسهما وأولادهما، ويقدما مصلحة الأولاد على حظوظ النفس.
وسيتم تناول ذلك من خلال ما يأتي:
الفرع الأول: تعريف الحضانة وحكمها
أولا: تعريف الحضانة لغة واصطلاحا
أ- في اللغة: مأخوذة من الحضن، وهو الجنب أو الصدر، وحضنت الأم ولدها إذا ضمته إلى جنبها أو صدرها، وقامت بتربيته، وتسمى حينئذ حاضنته([3]).
ب- في الاصطلاح: تربية وحفظ من لا يستقل بأمور نفسه، كطفل وكبير مجنون أو معتوه، وذلك برعاية شؤونه وتدبير طعامه وملبسه ونومه وتنظيفه وغسله وغسل ثيابه ونحوها([4]).
ولم يختلف تعريف الحضانة في الفقه الإسلامي عن تعريفها في قانون الأسرة، حيث عرفتها المادة 62 بأنها:"رعاية الولد وتعليمه والقيام بتربيته على دين أبيه والسهر على حمايته وحفظه صحة وخلقا".
حيث ركز المشرع في تعريف الحضانة على أسبابها وأهدافها محددا بذلك نطاق الحضانة ووظائفها الأساسية، ومن هنا فإنه يتعين على المحكمة عندما تحكم بالطلاق وتفصل في حق الحضانة أن تراعي كل هذه الجوانب التي تضمنها هذا التعريف([5]).
ثانيا: حكمها
كفالة الطفل وحضانته واجبة؛ لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه، وإنجاؤه من المهالك، ولا مخالف في ذلك([6]).
ثالثا: حق الحضانة
لكل من الحاضن والمحضون حق في الحضانة، فهي حق للحاضن؛ بمعنى أنه لو امتنع عن الحضانة لا يجبر عليها، لأنها غير واجبة عليه، ولو أسقط حقه فيها سقط، وإذا أراد العود وكان أهلا لها عاد إليه حقه عند الجمهور؛ لأنه حق يتجدد بتجدد الزمان، وهي حق للمحضون بمعنى أنه لو لم يقبل المحضون غير أمه أو لم يوجد غيرها، أو لم يكن للأب ولا للصغير مال، عينت الأم للحضانة وتجبر عليها، لذلك قال الجمهور لو اختلعت الزوجة على أن تترك ولدها عند الزوج صح الخلع وبطل الشرط ([7]). غير أن المالكية-في غير المشهور- يرون: أن الحاضن إذا أسقط حقه في الحضانة دون عذر بعد وجوبها سقط حقه، ولا يعود إليه الحق بعد ذلك لو أراد، ومقابل المشهور يعود إليه حقه بناء على أنها حق المحضون([8]).
والظاهر لدى العلماء المحققين أن الحضانة تتعلق بها ثلاثة حقوق معا: حق الحاضنة وحق المحضون وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن أمكن التوفيق بين هذه الحقوق وجب المصير إليها، وإن تعارضت قدم حق المحضون على غيره. وبناء على هذا تترتب الأمور الآتية([9]):
1- أن الحاضنة تجبر على الحضانة إذا تعينت لها، بأن لا يكون هناك حاضنة غيرها، أو رفضها من يليها في استحقاقها.
2- إذا لم تتعين الحاضنة للحضانة لا تجبر عليها.
3- إذا اختلعت الأم من زوجها على أن تترك ولدها المحتاج إلى الحضانة عند الأب كان الخلع صحيحا، ولا يسقط حق الأم في الحضانة إذا كان في سقوطها ضرر يلحق المحضون.
4- لا يجوز للأب أن ينزع المحضون من صاحبة الحق في الحضانة إلا لمبرر شرعي.
5- إذا كان الصغير يرضع من غير الحاضنة فعلى المرضع أن ترضع الصغير عند الحضانة.
الفرع الثاني: مدة الحضانة
نصت المادة 65 على أنه:"تنقضي مدة حضانة الذكر ببلوغه 10 سنوات، والأنثى ببلوغها سن الزواج، وللقاضي أن يمدد الحضانة بالنسة للذكر إلى 16 سنة إذا كانت الحاضنة أمًّا لم تتزوج ثانية على أن يراعى في الحكم بانتهائها مصلحة المحضون".
وعلى ذلك فإن حضانة الصغار تبدأ منذ الولادة، والمقرر أن النساء أحق بالحضانة من الرجال([10])، وانتهاء حضانة النساء للصغار حال افتراق الزوجين مختلف فيه بين المذاهب على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يرى الحنفية أن حضانة الولد تمتد إلى سن التمييز وهو سبع سنين، وبه يُفتى، وقيل تسع سنين، والبنت إلى البلوغ وهو تسع سنين، وبه يُفتى، وقيل إحدى عشرة سنة. وسبب التفرقة بين الذكر والأنثى هو أن الغلام يحتاج إلى التخلق بأخلاق الرجال، والأب على ذلك أقدر وأقوم، والبنت أحوج إلى تعلم آداب النساء، والتخلق بأخلاقهن، وخدمة البيت، والأم أقدر على ذلك بعد البلوغ أو الحيض([11]).
الرأي الثاني: ذهب المالكية إلى أن حضانة الغلام تستمر إلى بلوغه، وتنقطع حضانته بالبلوغ ولو مريضا أو مجنونا على المشهور، وأما حضانة الأنثى فتستمر إلى زواجها ودخول الزوج بها([12]).
الرأي الثالث: ذهب الشافعية([13]) والحنابلة([14]) إلى أن سن الحضانة يمتد إلى التمييز، وهو سبع أو ثمان سنوات، ويستوي في ذلك الذكر والأنثى؛ لأن النبي r خير غلاما بين أمه وأبيه في سنّ التمييز([15])، ولأن المميز أعرف بحظه ومصلحته، فيرجع إليه، ولا تخير الفتاة عند الحنابلة؛ لأن الحظ والحفظ في كيانها عند الأب([16]). واشترط الحنابلة لتخيير الغلام شرطين: أن يكون الأبوان وغيرهما أهلا للحضانة، وألا يكون الغلام معتوها، فإن كان معتوها، كان عند الأم، ولم يخير، لأنها أحق بكفالة ولدها المعتوه([17]).
وإذا انتهت مدة الحضانة ضم الولد إلى ولي النفس من أب أو جدّ لا لغيرهما، ويظل للأب أو الجد الحق في إمساك الصبي حتى يبلغ، فيخير بين أن ينفرد بالسكن أو يسكن مع أي أبويه شاء، إلا إذا بلغ سفيها غير مأمون على نفسه، فيضمه الأب إليه لدفع الفتنة أو العار، ولتأديبه إذا وقع منه شيء، ولا يلزم الأب بالنفقة على الابن بعد البلوغ إلا أن يتبرع، فإن بلغ معتوها كان عند الأم سواء كان ابنا أم بنتا. وأما الفتاة فيضمها الأب أو الجد إذا كانت بكرا، وكذا إذا كانت ثيبا يخشى عليها الفتنة، فإن كان لا يخشى عليها الفتنة، وكانت ذا خلق مستقيم وعقل سليم وصارت مسنّة (بلغت سن الأربعين) فلها أن تنفرد بالسكن حيث شاءت، ولا يلزم الأب بالإنفاق على الفتاة إذا رفضت السكن معه، أو متابعته بغير حق([18]).
وما ذهب إليه المشرع الجزائري في تحديد مدة الحضانة لا يخرج عما هو مقرر في الفقه الإسلامي، مع ملاحظة أن اشتراط النص "أماًّ لم تتزوج ثانية"، يفهم منه أن مجرد زواج الأم ثانية -ولو لم يكن هذا الزاج قائما- كاف لعدم تمديد حضانتها لولدها إلى سنّ السادسة عشرة. غير أنه أغفل الكلام عن وضعية المحضون بعد انتهاء مدة الحضانة أو سقوطها بقوة القانون. والحكم الفقهي في هذا الخصوص أنه يعود إلى الأب، وليس للمحضون حق الخيار في أن يختار الأب أو الأم على رأي الحنفية والمالكية، لأنه لا قول له ولا يعرف حظه، وقد يختار من يلعب عنده، وذهب الشافعية والحنابلة إلى تخييره إذا كان مميزا([19]).
موقف القضاء
جاء في القرار المؤرخ في 24/10/1995:"إن لقضاة الموضوع الحق في تمديد الحضانة بالنسبة للذكر إلى سن السادسة عشر إذا كانت الحاضنة لم تتزوج ثانية مع مراعاة مصلحة المحضون دون أن يكونوا قد خرقوا المادة 65 من قانون الأسرة"([20]).
وجاء في القرار المؤرخ في 13/3/1989:"من المقرر شرعا وقانونا أن الأم أولى بحضانة ولدها ولو كانت كافرة، إلا إذا خيف على دينه، وأن حضانة الذكر للبلوغ وحضانة الأنثى حتى سن الزواج، ومن ثم فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعد خرقا للأحكام الشرعية والقانونية، ولما كان قضاة الاستئناف-في قضية الحال- قضوا بتعديل الحكم المستأنف لديهم بخصوص حضانة الأولاد الثلاثة، ومن جديد إسنادها إلى الأب، فإنهم بقضائهم كما فعلوا أصابوا بخصوص الولدين، باعتبار أنهما أصبحا يافعين، إلا أنهم أخطأوا بخصوص البنت خارقين بذلك أحكام الشريعة الإسلامية، والمادة 64 من قانون الأسرة. ومتى كان كذلك استوجب نقض القرار جزئيا فيما يخص حضانة البنت دون إحالة"([21]).
الفرع الثالث: مكان الحضانة
تنص المادة 69 من قانون الأسرة على أنه:"إذا أراد الشخص الموكل له حق الحضانة أن يستوطن في بلد أجنبي رجع الأمر للقاضي في إثبات الحضانة له أو إسقاطها عنه، مع مراعاة مصلحة المحضون".
ومؤدى هذا أن ثبوت الحق في الحضانة في حالة سفر الحاضن سفر نقلة -كما يقول المالكية- متروك أمر تقديره لقاضي الدعوى- مع مراعاة مصلحة المحضون- ولذلك قضت المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 19/2/1990 بأنه:"من المقرر شرعا وقانونا أن إسناد الحضانة يجب أن تراعى فيه مصلحة المحضون، والقيام على تربيته على دين أبيه، ومن ثم فإن إسناد حضانة الصغار إلى الأم التي تسكن في بلد أجنبي بعيدا عن رقابة الأب يعد قضاء مخالفا للشرع والقانون ويستوجب نقضه"([22]). كما قضت به أيضا في القرار المؤرخ في 25/12/1989 بأنه:"في حالة وجود أحد الأبوين في دولة أجنبية غير مسلمة، وتخاصما على الأولاد بالجزائر فإن من يوجد بها أحق بهم ولو كانت الأم غير مسلمة"([23]).
وهنا تطرح مسألة سقوط الحضانة بسبب سفر المرأة، فوفقا لما ذهب إليه المشرع الجزائري، فإنه إذا أراد الشخص الذي صدر حكم الحضانة لصالحه أن يستوطن في بلد أجنبي فإن حقه في الحضانة يسقط إلا إذا رأى القاضي أن مصلحة المحضون تتطلب أن يبقى مع حاضنه، أما انتقال الحاضن بالمحضون داخل الوطن ولو بعدت المسافة فلا يسقط حق الحاضن في الحضانة. وعلى هذا لم يفرق المشرع في الاستيطان خارج الوطن بين الحاضن والحاضنة، بقدر ما راعى مصلحة المحضون التي يرجع تقديرها إلى القاضي.
مكان الحضانة في الفقه الإسلامي
هو مكان مسكن الزوجين إذا كانت الزوجية قائمة بينهما، أو في أثناء العدة من طلاق، أما بعد انقضائها، فمكان الحضانة هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون أو وليه، وكذلك إذا كانت الحاضنة غير الأم، لأن للأب حق رؤية المحضون، والإشراف على تربيته، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان الحاضن يقيم في بلد الأب أو الولي، وهذا قدر مشترك بين المذاهب الفقهية، وهو ما صرح به الحنفية وتدل عليه عبارات المذاهب الأخرى ([24]).
أمّا مسألة انتقال الحاضن، أو الولي إلى مكان آخر ففيه اختلاف المذاهب، وبيان ذلك كما يلي :
يفرق جمهور الفقهاء- المالكية([25]) والشافعية([26]) والحنابلة([27]) -بين سفر الحاضنة، أو الولي للنقلة والانقطاع- أي تغيير محل الإقامة- والسكنى في مكان آخر، وبين السفر لحاجة كالتجارة والزيارة:
فإن كان سفر أحدهما (الحاضنة أو الولي) للنقلة والانقطاع سقطت حضانة الأم، وتنتقل لمن هو أولى بالحضانة بعدها بشرط أن يكون الطريق آمنا، والمكان المنتقل إليه مأمونا بالنسبة للصغير، والأب هو الأولى بالمحضون سواء أكان هو المقيم أم المنتقل، لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير، وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولد في بلد الأب ضاع، لكن قيد الحنابلة أولوية الأب بما إذا لم يرد مضارة الأم وانتزاع الولد منها، فإذا أراد ذلك لم يجب إليه، بل يعمل بما فيه مصلحة الولد. وإن سافرت الأم مع الأب بقيت على حضانتها.
وإن كان السفر لحاجة كتجارة وزيارة كان الولد مع المقيم منهما حتى يعود المسافر، وسواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، وكذا يكون الولد مع المقيم لو كان الطريق أو المكان المنتقل إليه غير آمن في سفر النقلة والانقطاع. قال الباجي:"وإذا أراد الأب أن يرتحل إلى بلد غير بلد سكنى الأم، يريد السكنى فله أن يرتحل بولده معه، تزوجت الأم أو لم تتزوج، وإن كان إنما هو مسافر يجئ ويذهب فليس له أن يخرجهم عن الأم..ووجه ذلك أن كونه مع أبيه أحوط وأثبت لنسبه"([28]).
وجاء في المغني:"إذا أراد أحد الأبوين السفر لحاجة ثم يعود، والآخر مقيم، فالمقيم أولى بالحضانة، لأن في المسافرة بالولد إضرار به وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أحق به لأن في السفر به خطرا به، ولو اختار الولد السفر في هذه الحال لم يُجب إليه، لأن فيه تغريرا به، وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه آمنا، فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المنتقل، إلا أن يكون بين البلدين قريب، بحيث يراهم الأب كل يوم ويرونه فتكون الأم على حضانتها"([29]).
أما الحنفية فقد ذهبوا إلى أنه لا يجوز للأم الحاضنة التي في زوجية الأب أو في عدته الخروج إلى بلد آخر، وللزوج منعها من ذلك. أما إن كانت منقضية العدة فإنه يجوز لها الخروج بالمحضون إلى بلد آخر في الأحوال الآتية([30]):
1- إذا خرجت إلى بلدة قريبة بحيث يمكن لأبيه رؤيته والعودة في نهاره على ألا يكون المكان الذي انتقلت إليه أقل حالا من المكان الذي تقيم فيه حتى لا تتأثر أخلاق الصبي.
2- إذا خرجت إلى مكان بعيد مع تحقق الشروط الآتية:
أ - أن يكون البلد الذي انتقلت إليه وطنها.
ب - أن يكون الزوج قد عقد نكاحه عليها في هذا البلد؛ أي: تزوجها فيه.
ج– ألا يكون المكان الذي انتقلت إليه دار حرب إذا كان الزوج مسلما أو ذميا.
فإذا تحققت هذه الشروط جاز لها السفر بالمحضون إلى هذا المكان البعيد، لأن المانع من السفر أصلا هو ضرر التفريق بين الأب وبين ولده، وقد رضي به لوجود دليل الرضا وهو التزوج بها في بلدها لأن من تزوج امرأة في بلدها فالظاهر أنه يقيم فيه، والولد من ثمرات النكاح فكان راضيا بحضانة الولد في ذلك البلد، فكان راضيا بالتفريق، وعلى ذلك فليس لها أن تنتقل بولدها إلى بلدها إذا لم يكن عقد النكاح - أي الزواج- قد وقع فيه ، ولا أن تنتقل إلى البلد الذي وقع فيه عقد النكاح إذا لم يكن بلدها، لأنه لم يوجد دليل الرضا من الزوج، فلا بد من تحقق الشرطين، واعتبر أبو يوسف مكان العقد فقط.
أما شرط ألا يكون المكان حربيا إذا كان الزوج مسلما أو ذميا فلما في ذلك من إضرار بالصبي لأنه يتخلق بأخلاق الكفار. هذا إذا كانت الحاضنة هي الأم، فإن كانت غيرها فلا يجوز لها الخروج بالصغير إلى أي مكان إلا بإذن الأب لعدم العقد بينهما.
كما يرى الحنفية أنه ليس للأب أو الولي أخذ الصغير ممن له الحضانة من النساء والانتقال به من بلد أمه بلا رضاها ما بقيت حضانتها قائمة، ولا يسقط حقها في الحضانة بانتقاله، وسواء أكان المكان الذي ينتقل إليه قريبا أم بعيدا([31]).
ومنه فإن الراجح ما ذهب إليه الحنفية من أنه لا يجوز للأب أن يأخذ ولده من حضانة أمة ما دامت الحضانة قائمة. وهذا الرأي هو الأقرب للعدل، والأحوط لعدم مضارة الولي للأم الحاضنة.
ولكن يمكّن من رؤية ولده متى شاء دون إرهاق للأم.كأن يسافر إليه فيراه، وإن تيسر للأم أن تسافر قريبا من الأب فهو أفضل، ليقوم الأب بالإشراف على ولده .
الفرع الرابع: سقوط الحضانة واستعادتها
نصت المادة 66 من قانون الأسرة على أنه:"يسقط حق الحاضنة بالتزوج بغير قريب محرم، وبالتنازل ما لم يضر بمصلحة المحضون".
فتسقط الحضانة بوجود مانع منها، أو زوال شرط من شروط استحقاقها([32])، وملخص ذلك فيما يأتي:
- سفر الحاضن سفر نقلة وانقطاع إلى مكان بعيد.
- ضرر في بدن الحاضن، كالجنون والجذام والبرص، وهو محل اتفاق بين المالكية والحنابلة وغيرهم.
- الفسق أو قلة الدين والصون، بأن كان غير مأمون على الولد لعدم تحقق المصلحة المقصودة من الحضانة، وهذا متفق عليه.
- تزوج الحاضنة و دخول زوجها بها، إلا أن تكون جدة الطفل زوجة لجده، أو تزوج الأم عمًّا له، فلا تسقط الحضانة لوجود المحرمية، و هذا متفق عليه.
- اختلاف الدين، وذلك عند الشافعية والحنابلة وبعض فقهاء المالكية([33])، إذ لا ولاية للكافر على المسلم، وللخشية على المحضون من الفتنة في دينه، ومثله مذهب الحنفية بالنسبة للحاضن الذكر([34])، والمشهور عند المالكية والحنفية بالنسبة للحاضنة الأنثى([35])، فلا يشترط الإسلام فيها إلا أن تكون مرتدة، لأنها تحبس وتضرب فلا تتفرغ للحضانة كما يقول الحنفية. أما غير المسلمة -كتابية كانت أو مجوسية – فهي كالمسلمة في ثبوت حق الحضانة، ما لم يعقل المحضون الدين أو يُخشى أن يألف الكفر، فإنه حينئذ ينزع منها، ويضم إلى أناس من المسلمين، لكن عند المالكية إن خيف عليه فلا ينزع منها، وإنما تضم الحاضنة لجيران المسلمين ليكونوا رقباء عليها([36]).
أولا: سقوط الحضانة بزواج الحاضنة
قال ابن القيم: واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال([37]):
أحدها: سقوطها به مطلقا سواء كان المحضون ذكرا أو أنثى وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم وقضى به شريح .
والقول الثاني: أنها لا تسقط بالتزويج بحال ولا فرق في الحضانة بين الأيم وذوات البعل وحكي هذا المذهب عن الحسن البصري وهو قول أبي محمد ابن حزم .
القول الثالث: أن الولد إن كان بنتا لم تسقط الحضانة بنكاح أمها وإن كان ذكرا سقطت وهذه إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- نص عليه في رواية مهنا بن يحيى الشامي فقال: إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها. قيل له والجارية مثل الصبي ؟ قال: لا، الجارية تكون مع أمها إلى سبع سنين. وعلى هذه الرواية فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ ؟ على روايتين. وعن أحمد أن الأم أحق بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ .
والقول الرابع: أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها، ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال.
أحدها: أن المشترَط أن يكون الزوج نسيبا للطفل فقط وهذا ظاهر قول أصحاب أحمد.
الثاني: أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
الثالث: أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد بأن يكون جدا للطفل وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد، فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة.
وجاء في "روضة الطالبين" للنووي في فقه الشافعية: في شروط الحاضنة:"فلو نكحت أجنبيا سقطت حضانتها؛ لاشتغالها بحقوق الزوج، فلو رضي الزوج لم يؤثر؛ كما لا يؤثر رضا السيد بحضانة الأمة؛ فقد يرجعان؛ فيتضرر الولد"([38]).
غير أن المالكية قد وضعوا لسقوط حضانة المرأة عند زواجها بأجنبي القيود الآتية([39]):
1- عدم سكوت من له الحق في الحضانة بعد علمه بزواج الحاضنة سنة فأكثر، فإن سكت هذه المدة الطويلة بعد علمه بالزواج عدّ سكوته رضىً بإسقاط حقه. وهذا ما أخذ به المشرع الجزائري في المادة 68 التي نصت على أنه:"إذا لم يطلب من له الحق في الحضانة مدة تزيد عن سنة بدون عذر سقط حقه فيها".
2- وجود مرضعة للطفل غير حاضنته إذا كان الطفل رضيعا وقَبِل ثديها.
3- وجود حاضن للطفل تتوفر فيه الشروط المطلوبة في الحضانة.
4- أن لا تكون الحاضنة التي تزوجت بأجنبي وصية على الطفل المحضون من قبل أبيه أو من قبل القاضي.
5- إذا لم تفارق الحاضنة زوجها بطلاق أو موت الزوج قبل أن يطالب من يليها بحقه في الحضانة، فإن مات الزوج أو طلق قبل مطالبة صاحب الحق في الحضانة، فإن الحضانة تستمر للحاضنة التي كانت متزوجة، لأن العذر الذي يسقط حضانتها وهو الزواج قد زال بطلاقها، والولد لا يزال معها فتستمر على حقها.
ثانيا: رجوع الحضانة للمرأة بعد سقوطها
نصت المادة 71 من قانون الأسرة على أنه:"يعود الحق في الحضانة إذا زال سبب سقوطه غير الاختياري".
فيعود حق الحاضنة في الحضانة إذا سقطت عنها لعذر وأخذ الحضانة من يليها في المرتبة، إذا زال ذلك العذر([40])، وذلك في الحالات الآتية وفق مذهب المالكية الذين يفرقون بين زوال الحضانة لعذر اضطراري وبين زوالها لعذر اختياري([41]):
1- العذر الذي لا يقدر معه القيام بحق المحضون كالمرض أو عدم وجود اللبن، فإذا زال عنها ذلك استحقت الولد مرة أخرى، إلا أن تتركه بعد زوال العذر سنة فأكثر.
2- سفر الولي بالمحضون وانتقاله به إلى بلد آخر، فإنه إذا ترتب عليه سقوط الحضانة لعدم رغبة الحاضنة في الانتقال معه، ثم رجع الولي بالمحضون إلى بلده الأول رجع الحق للحاضنة من جديد.
3- سفر الحاضنة لأداء فريضة الحج، فإذا رجعت كان لها الحق في الولد.
وعلى هذا فإن المشرع الجزائري قد اعتمد المذهب المالكي في هذه المسألة حين فرق بين العذر الاضطراري والعذر الاختياري في سقوط الحضانة.
[1]- وهذا الاتجاه يلحظ في سائر المواد المعدلة بموجب الأمر 05-02.
[2]- الإمام مالك: الموطأ، كتاب الجنائز، باب جامع الجنائز، حديث رقم:646، 1/329. الترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة، حديث رقم:2138، 4/447. أبو داود: كتاب السنة، باب في الذراري المشركين: حديث رقم: 4714، 5/58-60.
[3]- المعجم الوسيط: ص 182.
[4]- انظر، الكاساني: بدائع الصنائع، 4/40. أبي عبد الله الرصاع: شرح حدود ابن عرفة، ص324. الشربيني: مغني المحتاج،3/592. ابن قدامة: المغني، 11/412.
[5]- انظر، العربي بلحاج: الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري، 1/390. عبد العزيز سعد: المرجع السابق، ص 139.
[6]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 11/412.
[7]- انظر، السرخسي: المبسوط، 6/169. الشربيني: مغني المحتاج 3/596. ابن قدامة:المصدر نفسه، 11/427.
[8]- انظر، الغرياني: الفقه المالكي وأدلته، 3/167.
[9]- انظر، وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/719. أحمد نصر الجندي: شرح قانون الأسرة الجزائري، ص 151.
[10]- البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/693.
[11]- السرخسي: المبسوط، 5/207-208. الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، 1/566. الكاساني:بدائع الصنائع، 4/42.
[12]- الغرياني: مدونة الفقه المالكي وأدلته، 3/165.
[13]- الشيرازي: المهذب، 3/168.
[14]- ابن قدامة: المغني، 11/415.
[15]- لحديث أبي هريرة قال : جاءت امرأة إلى رسول الله r - وأنا قاعد عنده - فقالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال النبي r : استهما عليه فقال زوجها : من يحاقني في ولدي ، فقال النبي r :"هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أحدهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به. النسائي: كتاب الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين و تخيير الولد، حديث رقم:5660، 5/292.
[16]- البهوتي: شرح منتهى الإرادات، 5/ 698.
[17]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 11/417.
[18]- الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، 1/566.
[19]- انظر، الشربيني: مغني المحتاج، 3/598-599. ابن قدامة: المصدر نفسه، 11/415. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/743.
[20]- ملف رفم 123889: نشرة القضاة، العدد 52، 1997، ص 111.
[21]- ملف رقم 52221: المجلة القضائية، العدد الأول، 1993، ص 48.
[22]- ملف رقم 59013: المجلة القضائية، العدد الرابع، 1991، ص 117.
[23]- ملف رقم 56597: المجلة القضائية، العدد الثالث، 1991، ص 61.
[24]- الكاساني: بدائع الصنائع، 4/44-45. الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، 1/567.
[25]- الدردير: الشرح الكبير، 2/532.
[26]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/600-601.
[27]- ابن قدامة: المغني، 11/419.
[28]- الباجي: المنتقى، 8/156.
[29]- ابن قدامة: المغني، 11/419.
[30]- الكاساني: بدائع الصنائع، 4/44. الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/309-311.
[31]- انظر، عبد الوهاب خلاف: أحكام الأحوال الشخصية، ص 199-200.
[32]- جاء في الفقرة الثانية من المادة 62:"ويشترط في الحاضن أن يكون أهلا للقيام بذلك"، حيث أغفل المشرع ذكر الأوصاف المتعلقة بشروط أهلية الحاضن، مما يستدعي الرجوع إلى الشروط المقررة في الفقه الإسلامي، وهي: البلوغ والعقل والقدرة على صيانة الولد صحة وخلقا، والأمانة والاستقامة والإقامة في بيت ليس فيه من يبغض الصغير، وعدم زواج الحاضنة بأجنبي أو بغير قريب محرم. انظر، العربي بلحاج: المرجع السابق، ص 391.
[33]- الشربيني: مغني المحتاج، 3/595. البهوتي: الروض المربع، ص 629.
[34]- الكاساني: بدائع الصنائع، 4/42.
[35]- الكاساني: المصدر نفسه، 4/42. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/161-162.
[36]- الدردير: الشرح الكبير، 2/529. السرخسي: المبسوط، 6/171. عبد الله الموصلي: الاختيار لتعليل المختار، 4/16.
[37]- ابن القيم: زاد المعاد، 5/454-455.
[38]- النووي: روضة الطالبين، 6/506.
[39]- انظر، الدردير: المصدر نفسه، 2/530. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/166-167.
[40]- لم يفرق الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة في عود الحضانة إذا كان سبب سقوطها اضطراريا أو اختياريا طبقا لقاعدة "إذا زال المانع عاد الممنوع". ابن قدامة: المغني، 11/427. الموسوعة الفقهية، 17/313.
[41]- انظر،الدردير: الشرح الكبير، 2/532-533. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/168. الموسوعة الفقهية، 17/313.
-
-
-
المحاضرة السادسة عشر:
أحكام الحضانة وفق التعديل الجديد
يتناول هذا المطلب على الخصوص المواد القانونية المتعلقة بالحضانة، وهي بالتحديد المواد: 64 و67 و72 من قانون الأسرة الجزائري، وذلك على النحو الآتي:
الفرع الأول: الأولى بالحضانة عند اجتماع الرجال والسناء
تنص المادة 64 من قانون الأسرة على أن:"الأم أولى بحضانة ولدها، ثم الأب، ثم الجدة لأم، ثم الجدة لأب، ثم الخالة ثم العمة ثم الأقربون درجة مع مراعاة مصلحة المحضون في كل ذلك.."([1]).
أي أن الحضانة تكون مباشرة للأب بعد الأم، بعد عدول المشرع عن مذهب الجمهور، وبخاصة المذهب المالكي في ترتيب الحواضن كما كانت عليه المادة 64 قبل تعديلها. ومنه لا بد من الوقوف عند مسألة انتقال الحق في الحضانة بعد الأم إلى الأب مباشرة لمعرفة ما استند إليه المشرع فيما ذهب إليه ([2]).
أولا: الأم أولى بالحضانة
الحضانة تكون للنساء والرجال من المستحقين لها، إلا أن النساء يقدمن على الرجال؛ لأنهن أشفق وأرفق، وبها أليق وأهدى إلى تربية الصغار، ثم تصرف إلى الرجال؛ لأنهم على الحماية والصيانة وإقامة مصالح الصغار أقدر([3]). فتكون حضانة الولد للأبوين إذا كان النكاح قائما بينهما، فإن افترقا فالحضانة للأم بالاتفاق([4])؛ لما ورد أن امرأة جاءت إلى النبي r فقالت : يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله r:" أنت أحق به ما لم تنكحي"([5]).
وجاء في المبسوط:"اعلم أن الصغار لما بهم من العجز عن النظر لأنفسهم، والقيام بحوائجهم جعل الشرع ولاية ذلك إلى من هو مشفق عليهم، فجعل حق التصرف إلى الآباء لقوة رأيهم مع الشفقة، والتصرف يستدعي قوة الرأي، وجعل حق الحضانة إلى الأمهات لرفقهن في ذلك مع الشفقة وقدرتهن على ذلك بلزوم البيوت، والظاهر أن الأم أحنى وأشفق من الأب على الولد، فتتحمل في ذلك من المشقة ما لا يتحمله الأب، وفي تفويض ذلك إليها زيادة منفعة للولد"([6]). وجاء في المغني:"الأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت وهو قول الجمهور"([7]). وهذا ما أخذ به قانون الأسرة في المادة 64 التي نصت على أن:"الأم أولى بحضانة ولدها".
على أن الفقهاء قد اتفقوا في الجملة على أن الأم أحق بحضانة الولد بعد الفرقة إذا كملت الشرائط فيها، فإذا عدمت بأن تزوجت من أجنبي أو قريب غير محرم، أو سقط حقها في الحضانة بأي سبب من أسباب سقوطها، فإنها تنتقل إلى الجدة لأم - وإن علت- فإن لم تكن -بأن كانت ميتة أو متزوجة بغير محرم منه- فالحضانة إلى أم الأب -على خلاف بينهم في تقديم الخالة والأخت عليها-([8]) ثم إلى من يليها من مستحقيها من النساء([9]). والأصل في تقديم الجدة لأم ما جاء في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال:" كانت عند عمر امرأة من الأنصار فولدت له عاصما، ثم فارقها عمر -رضي الله عنه- فركب يوما إلى قباء، فوجد ابنه يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعَضُده فوضعه بين يديه، فأدركته جدّة الغلام، فنازعته إياه أباه، فأقبل حتى أَتيا أبا بكر-رضي الله عنه- فقال عمر: هذا بعضي، وقالت المرأة: ابني. فقال أبو بكر: خلِّ بينه وبينها؛ فإن ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر"([10]) قال أبو بكر ذلك والصحابة حاضرون متوافرون، فلم ينكر ذلك أحد ولم يعارضه عمر، قال مالك: وهذا الأمر الذي آخذ به في ذلك([11]).
ثانيا: انتقال الحضانة من الأم إلى الأب وفقا لقانون الأسرة
إن ما ذهب إليه المشرع الجزائري في موضوع الحضانة بمختلف مسائلها إنما يهدف بالأساس إلى حماية مصلحة المحضون، ويتجلى ذلك من خلال السلطة التقديرية للقاضي، والتي تقضي بما يضمن تحقيق المصلحة للمحضون بالدرجة الأولى، ومثال ذلك استثناء سقوط الحضانة بالنسبة للحاضنة العاملة إذا كان في عملها ما يفوّت على المحضون رعايته والعناية به، وكذا من خلال الحكم بالنسبة لمكان الحضانة التي تكون حسبما تقتضيه مصلحة المحضون بغض النظر عن الحاضن، وكما في مسألة انتقال الحضانة من الأم إلى الأب مباشرة، من خلال المادة 64 والتي نصت على أن:"الأم أولى بحضانة ولدها، ثم الأب..مع مراعاة مصلحة المحضون في كل ذلك". حيث يفهم من هذا كله أن المشرع قد احتفظ في ترتيب الحاضنين بشرط مراعاة مصلحة المحضون في جميع الأحوال، وهذا يعني أن مصلحة المحضون فوق كل اعتبار، ومن شأنها أن تغير ترتيب حقوق الحاضنين، بحيث يمكن أن يمنح حق الحضانة للخالة وهي في المرتبة الخامسة إذا طلبتها وكان من شأنها ضمان مصلحة المحضون([12]).
وقد استند المشرع فيما ذهب إليه من جعل انتقال الحضانة من الأم إلى الأب مباشرة -فيما يبدو- إلى ما ورد في فقه الحنابلة، حيث جاء في المغني:"ولا يشاركها -أي الأم في الحضانة- في القرب إلا أبوه، وليس له مثل شفقتها، ولا يتولّى الحضانة بنفسه، وإنما يدفعه إلى امرأته، وأمه أولى به من امرأة أبيه"([13]).
وجاء في موضع آخر منه:"عن أحمد روايتين إذا عدمت الأم. الأولى: أن أم الأم وإن علت أولى بحضانته وهو المشهور، والثانية: أن أم الأب وأمهاتها مقدمات على أم الأم، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم، لأنهن يدلين به، فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته"([14]).
وجاء في موضع آخر منه أيضا:"وإن تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها، ففيه وجهان: أحدهما تنتقل إلى الأب؛ لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق، فإذا أسقطت حقها سقط فروعها. والثاني: تنتقل إلى أمهاتها وهو أصح، لأن الأب أبعد"([15]).
وعلى هذا يمكن القول بأن المشرع قد أخذ بالرواية المرجوحة عند الحنابلة في هذه المسألة، إلا أنه جعل المعيار في ترتيب الحواضن مراعاة مصلحة المحضون في كل الأحوال.
كما استند إلى ما قضت به المحكمة العليا في قرارها المؤرخ في 18/2/1997أنه:"من المستقر عليه قضاء أن الحضانة تمنح حسب مصلحة المحضون، ولما كان ثابتا في قضية الحال أن الحضانة أسندت إلى الأب مراعاة لمصلحة المحضون واعتمادا على تقرير المرشدة الاجتماعية التي تؤكد ذلك، فإن قضاة الموضوع إعمالا لسلطتهم التقديرية فقد طبقوا القانون، مما يستوجب رفض الطعن"([16]).
وكذا القرار المؤرخ في 12/2/2001:"إن إسناد الحضانة للأب بعد وفاة الأم كون مصلحة المحضون تقتضي ذلك يعد تطبيقا صحيحا للقانون"([17]).
الفرع الثاني: سقوط الحضانة بسبب عمل الحاضنة
نصت الفقرة الثانية من المادة 67 على أنه:"ولا يمكن لعمل المرأة أن يشكل سببا من أسباب سقوط الحق عنها في ممارسة الحضانة. غير أنه يجب في جميع الحالات مراعاة مصلحة المحضون"([18]).
حيث استدرك المشرع النص على عمل المرأة من خلال الفقرة الثانية (المضافة) من هذه المادة، من خلال ما أكدته المحكمة في قرارها الصادر بتاريخ 18/7/2000:" من المستقر عليه قضاء أن عمل المرأة لا يعتبر من مسقطات الحضانة، ومن ثم فإن قضاة المجلس بقضائهم بإلغاء الحكم المستأنف، والقضاء من جديد بإسقاط حضانة الولدين عن الطاعنة باعتبارها عاملة أخطأوا في تطبيق القانون وعرضوا قرارهم للقصور في التسبيب وانعدام الأساس القانوني، مما يستوجب نقض القرار المطعون فيه"([19]).
وبناء على هذا أكدّ المشرع على أن عمل الحاضنة خارج مسكن الحضانة لا يمكن أن يكون سببا من أسباب سقوطها([20])، ولا سقوط حقها في ممارسة الحضانة. واحتياطا ربط المشرع هذا الشرط بمصلحة المحضون، وهذا يعني أنه حتى وإن كان عمل الحاضنة لا يشكل سببا من أسباب سقوط حق الحضانة كمبدأ عام، فإنه كاستثناء من هذا المبدأ يجوز الحكم بإسقاط حق الحاضنة على العاملة إذا كان عملها يحرم المحضون من الرعاية والعناية، وغيرهما مما يخل بمصلحة المحضون([21]). وهذا ما جاء في القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 3/7/2002:" عمل الأم الحاضنة لا يوجب إسقاط حقها في حضانة أولادها، ما لم يتوفر الدليل الثابت على حرمان المحضون من حقه في العناية والرعاية"([22]).
وهذا الرأي له ما يسانده من وجهة نظر الفقه الإسلامي في الحضانة بالنسبة للمرأة العاملة.
فقد اهتم الفقه الإسلامي بمصلحة المحضون، وجعل له الأولوية في كل ما يرجع عليه بالنفع، ويدفع عنه الضرر، فاشترط في الحاضنة كونها خلية متفرغة، حتى لا تنشغل بحقوق الغير عن حق المحضون في الرعاية والتربية، والاهتمام بكل ما يلزمه من عناية وخدمة. ولذلك جعلوا زواج الحاضنة بأجنبي من مسقطات حقها في الحضانة لانشغالها بحقوق الزوج، وقياسا على ذلك فإن خروج المرأة للعمل بالمفهوم الحديث (الموظفة)، يسقط حق الحضانة بالنسبة لها -وبخاصة من تعمل طوال أيام الأسبوع.
حتى وإن لم ينص الفقهاء القدامى على ذلك صراحة، كون المسألة لم تكن مطروحة لديهم بشكلها المعروف حاليا، إلا أن ما يفهم من خلال تتبع نصوصهم في هذا الشأن أنهم يجعلون عمل المرأة عائقا يحول دون استحقاقها الحضانة. وعلى هذا فمعيار سقوط حق الحضانة بالنسبة للمرأة العاملة هو التقصير وعدمه في القيام بواجبات المحضون. حيث يرى الحنفية([23]) والحنابلة([24]) أنه يجب على الحاضنة القيام بواجبات المحضون فإن لم تقم بذلك بأن قصرت في رعاية المحضون سواء من حيث الصحة والنظافة والتعليم والتأديب بحيث يلحق تقصيرها الضرر به في جسمه وسلوكه أو تسببت في إضاعة مصالحه، فإن هذا يؤدي إلى سقوط حقها في الحضانة.
ويلحق بتقصير الحاضنة كثرة خروجها من البيت على وجه يؤدي إلى إضاعة المحضون، فقد اتفق الفقهاء قديما وحديثا على أن المرأة التي تعمل خارج بيتها ويؤدي خروجها المتكرر إلى الإضرار بالمحضون فإن هذا يفقدها حقها في حضانة الصغير. جاء في المبسوط:"وجعل حق الحضانة إلى الأمهات لرفقهن في ذلك مع الشفقة وقدرتهن على ذلك بلزوم البيوت"([25])، وجاء في الفتاوى الهندية:"ولا حضانة لمن تخرج كل وقت وتترك البنت ضائعة"([26]). وفي روضة الطالبين:" الشرط الخامس كونها فارغة خلية"([27]).
واختلفوا في صور العمل التي لا تؤدي إلى فقد حق الحضانة:
أ- فقد نص الحنفية على أن عمل المرأة إذا لم يؤثر على المحضون بأن كانت مدة خروجها قصيرة فإن هذا لا يفقدها حقها في الحضانة، بخلاف ما لو كانت مدة خروجها طويلة كما لو كانت قابلة أو مغسلة([28]).
ب- ذهب مجموعة من الفقهاء المعاصرين إلى أن عمل المرأة يكون في ضوء قدرتها على تربية المحضون ورعايته، فإذا تمكنت من التوفيق بين الأمرين بإنابة غيرها عنها في الحضانة، فيبقى حقها في الحضانة قائما. وعلى هذا فعمل المرأة يجب أن ينظر إليه من خلال أداء الحقوق والواجبات الأسرية، وممن قال بهذا الرأي مصطفى شلبي، و عبد الرحمن الصابوني.([29])
ج- أما الشيخ أبو زهرة فقد ذهب إلى رأي قريب من رأي الحنفية السابق فقال إن المرأة التي تخرج من بيتها معظم النهار لا تستطيع القيام بتربية محضونها وعليه تفقد حقها في الحضانة، إلا أنه ذهب إلى أن تقدير الاستطاعة يرجع فيه إلى القاضي([30]).
د- ويرى محمد عقلة سقوط حق المرأة العاملة في حضانة الصغير، ويبرر رأيه بأن الواقع العملي يثبت الأثر السلبي لعمل المرأة وما يسببه من تفكك الأسر وضياع الناشئة([31]).
والذي أراه في هذه المسألة القول بعدم سقوط حق الحضانة بمجرد عمل المرأة، إنما يمكن النظر إلى طبيعة هذا العمل، فإن كان يستغرق منها وقتا طويلا يؤدي إلى تفريط في حق المحضون فأرى سقوط حقها في الحضانة.
كما يجب أيضا ضرورة مراعاة الجوانب النفسية والعاطفية عند دراسة أثر العمل وعدم الاقتصار على الجوانب المادية فقط، فإن العلماء عندما تحدثوا عن الحضانة تطرقوا لتأديب المحضون ورعايته وتعليمه والقيام بمصالحه، ولا شك أن من أعظم المصالح مراعاة الجوانب النفسية والعاطفية والتربوية للمحضون.
ولا بد من التنبيه في هذا المقام إلى أنه ما دام المشرع يتجه إلى تشجيع خروج المرأة للعمل، فيكون بالضرورة عليه مراعاة قوانين العمل -المعمول بها- لظروف المرأة الحاضنة وتقليص ساعات عملها بما لا يتعارض مع واجبها الأسري بحضانة صغارها. فمشاركة المرأة في الحياة العامة يجب ألا يؤثر سلبيا على واجباتها الأسرية، لأن تربية الجيل الجديد وتشكيل شخصيته يعد من أهم وظائف الأم، فإذا ما غابت هذه الوظيفة فإن المتوقع هو وجود جيل يعاني أبناؤه من خلل عاطفي ونفسي ووجود جيل متفكك الأسر متقطع الروابط.
ومن هنا يمكن القول أنه في جميع الحالات التي تكون عليها الحاضنة يجب تقديم ومراعاة مصلحة المحضون، كما ذهب إلى ذلك المشرع الجزائري وأكدته الاجتهادات القضائية المستندة أساسا إلى ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وذلك لأن حق المحضون أولى وأوكد من حق الحاضن، فلا يكون للمرأة العاملة الاحتفاظ بحقها في الحضانة ما لم تتحقق وتتأكد مصلحة المحضون.
الفرع الثالث: مسكن الحاضنة أو بدل الإيجار
نصت المادة 72 من قانون الأسرة على أنه:"في حالة الطلاق يجب على الأب أن يوفر لممارسة الحضانة سكنا ملائما للحاضنة، وإن تعذر ذلك فعليه دفع بدل الإيجار، وتبقى الحاضنة في بيت الزوجية حتى تنفيذ الأب للحكم القضائي المتعلق بالسكن"([32]). حيث يتضح من خلال هذا النص أن المشرع قد كفل للحاضنة المطلقة الحق في السكن حتى ولو كانت حاضنة لابن واحد أو بنت واحدة على خلاف ما ورد النص عليه في المادة 52 قبل تعديلها من خلال عبارة"مع محضونيها". والذي يفهم منها أن شرط استحقاق السكن أن تكون حاضنة لأكثر من واحد. كما يظهر أيضا أن المشرع قد أغفل عمدا النص على أسباب سقوط حق المطلقة الحاضنة في المسكن أو بدل إيجاره دون أي مبرر، وذلك عكس مانصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 52 قبل تعديلها:"تفقد المطلقة حقها في السكن في حال زواجها أو ثبوت انحرافها".
كما أنه لم يبين الحكم في حالة ما إذا كانت الفرقة خلعا أو تطليقا، ولم يكن للرجل يد في إيقاع الطلاق، وكذا الحكم عند الفرقة باللعان([33]).
على أن النفقة والسكن للمحضون واجبة على من تجب عليه نفقة الولد في الجملة عند جمهور العلماء، وإنما اختلفوا في سكنى الحاضنة نفسها، قال ابن عابدين بعد ذكره خلاف فقهاء الحنفية في ذلك:"والحاصل أن الأوجه لزوم أجرة المسكن على من لزمه نفقة المحضون، فإن السكن من النفقة، لكن هذا إن لم يكن لها مسكن، أما لو كان لها مسكن يمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعا لها، فلا تجب الأجرة لعدم احتياجه إليه". وقال أيضا:"فينبغي أن يكون هذا توفيقا بين القولين، ولا يخفى أن هذا هو الأرفق للجانبين فليكن عليه العمل" ([34]). والخلاف عند المالكية كما قال الدردير في حاشيته على مختصر خليل:"إنما هو فيما يخص الحاضنة من المسكن، وأما السكنى فيما يخص المحضون فعلى الأب اتفاقا.ومذهب المدونة الذي به الفتوى أنه على الأب للمحضون والحاضنة معا، ولا اجتهاد فيه. وقيل تؤدي الحاضنة حصتها من الكراء. قال سحنون سكنى الطفل على أبيه وعلى الحاضنة ما يخص نفسها بالاجتهاد. ويكون عليه من الكراء على قدر ما يجتهد الحاكم. والمشهور أن على الأب السكنى وهو مذهب المدونة خلافا لابن وهب القائل أن أجرة المسكن على الحاضنة، وعلى المشهور قال سحنون تكون السكنى على حسب الاجتهاد"([35]). وجاء في النوادر لأبي زيد القيرواني:"قال ابن القاسم فيمن طلق امرأته وله منها ولد، فإن كان مليًّا فعليه أن يخدم، والسكنى عليه وعليها، وقال أيضا فيمن طلق امرأته وله منها ولدان: أنه ليس عليه لهما إلا النفقة، وليس عليه أن يكتري لهما. وسئل أشهب عمن طلق امرأته وله منها ولد يلزمه كراء منزل لولده، قال: نعم، وقال ابن القاسم: وإن لم يكن له ما ينفق على ولده منها إلا دارا، فإن كان فيها فضل، وإلا فلا نفقة عليه"([36]).وأما الشافعية والحنابلة فقد اعتبروا السكنى من النفقة، فمن تجب عليه نفقة الحاضنة يجب عليه إسكانها([37]).
حيث جاء في نهاية المحتاج:"ومؤنتها -ومنها السكنى- على من تلزمه نفقتها"([38]).
ويتحصّل من مجموع أقوال الفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أوجه: وجه يقضي للحاضنة المطلقة بالسكنى مطلقا، وفق ما جاء في المدونة، ووجه آخر يقضي لها بعدم وجوب المسكن للحاضنة على رأي ابن وهب، والوجه الثالث أن لها ذلك إذا لم يكن لها مسكن، وهذا هو الأرجح عند فقهاء الترجيح في المذهب الحنفي على رأي ابن عابدين([39])؛ لأن المتتبع لعبارات الفقهاء يجدها تكاد تتفق حول إعداد المسكن للحاضنة التي لا تملك مسكنا، وأما التي لها مسكن، فلا يُلزم المطلق بإسكانها وهو الراجح في مذهب الحنفية والمالكية، وهذا الذي مال إليه من المعاصرين الشيخ أبو زهرة والسيد سابق ومصطفى شلبي ومحمد بلتاجي وغيرهم([40]).
وعلى هذا فجملة الملاحظات التي يمكن إبداؤها بشأن ما ورد في الفقرة الثانية من المادة 72 التي نصت على أنه" تبقى الحاضنة في بيت الزوجية إلى غاية تنفيذ الأب للحكم القضائي المتعلق بالسكن"، فهي كالآتي:
أولا: إن النصوص الفقهية الواردة في هذه المسألة، وخاصة وفق مذهب الحنفية المالكية كما هو قول ابن عابدين" لكن هذا إن لم يكن لها مسكن"، صريحة في الكلام عن الحاضنة التي ليس لها مسكن، وهي التي على الأب سكناها هي ومحضونها، أما المشرع فلم يقيد حق الحاضنة في الاستقلال بمسكن الزوجية بهذا القيد المهم، إنما أطلق القول بأنه للمطلقة الحاضنة هذا الحق، ولم يفرق -كما ذهب إلى ذلك الفقهاء- مع أن هذا التفريق مهمّ جدا في الحالات التي يكون للمطلقة مسكن آخر غير مسكن مطلقها، حيث يعفي ذلك الزوج من الخروج من مسكنه الذي قد لا يكون في استطاعته الحصول على غيره.
ثانيا: أغفل المشرع الحالات التي يكون فيها المحضون ذا مال يمكن معه اسئجار منزل الحضانة له ولحاضنته، ذلك أن نفقة الصغير إنما تجب على الأب إذا لم يكن للصغير مال، أما إذا كان فالأصل أن نفقة الإنسان في ماله صغيرا كان أو كبيرا. ومما لا شك فيه أن المطلقة لا حق لها بذاتها في مسكن الزوجية بعد انتهاء الصلة بينها وبين الزوج، فإنما يأتي حقها في مسكن الزوجية باعتباره من نفقة المحضون على أبيه، فإذا كان للمحضون نفسه مال فنفقته أصلا من هذا المال، ولا حق له أو لحاضنته عندئذ في مسكن الزوجية السابقة، وهنا كان الأولى بالمشرع إبقاء المادة على ما كانت عليه قبل التعديل، وهو الأمر الذي عليه جمهور الفقهاء([41]).
ثالثا: لا يمكن تصور بقاء المطلقة في بيت مطلقها بعد صدور حكم الطلاق، إذ أصبحت بذلك أجنبية عليه، فكيف يعقل بقاؤهما في بيت واحد إلى غاية تنفيذ الحكم المتعلق بالسكن الذي عادة ما تطول مدة تنفيذه. ولا تسمى حينئذ بيت الزوجية؛ لأن الزوجية لم تعد قائمة، بل تسمى بيت مطلّقها.
وقد فصّل الرّملي ذلك وهو في سياق الحديث عن سكنى المعتدة من طلاق بائن بقوله:"و لو كان في الدار حجرة سكنها أحدهما، وسكن الآخر الحجرة الأخرى من الدار، فإن اتحدت المرافق -كمطبخ ومستراح- اشترط محرم، وإن كان في الدار بيت-يقصد حجرة واحدة- فإنه لا يجوز له أن يساكنها ولو مع محرم؛ لأنها لا تتميز من المسكن بموضع إلا إذا بنى بينهما حائلا، وبقي لها ما يليق بها سكن جاز، وإلا بأن لم تتحد المرافق بل اختصت كل من الحجرتين بمرافق فلا يشترط المحرم إذ لا خلوة"([42]).
وعلى هذا فإرادة المشرع غير واضحة في هذه المسألة، إذ يلزم من ذلك إما توفير سكن مستقل لها عن مسكنه إذا توفر لديه مسكن آخر-وهذا على خلاف الغالب- وإما أن يتخلى لها عن مسكنه الوحيد، فيقع بذلك المطلّق في الضيق والحرج، وهذا تجاوز كبير لم يقل به أحد من الفقهاء.
وحل هذه الإشكالية يكمن في تقديري:
أولا: في سرعة الفصل في قضايا الحضانة على وجه الاستعجال، وهذا ما استدركه المشرع من خلال نص المادة 57 مكرر:"يجوز للقاضي الفصل على وجه الاستعجال بموجب أمر على عريضة في جميع التدابير المؤقتة ولا سيما ما تعلق منها بالنفقة والحضانة والزيارة والمسكن"([43]).
ثانيا: إذا ثبت للقاضي أن الحاضنة لا مأوى لها إطلاقا، فهنا تقدم مصلحة المحضون، وتبقى الحاضنة في بيت مطلّقها إلى غاية تنفيذ الأب للحكم القضائي المتعلق بالسكن. أما إن كان لها مسكن خاص أو أهل تأوي إليهم، فإنها تمكث في بيتها أو في بيت أهلها وتستحق بدل الإيجار منذ انتهاء عدتها وخروجها من بيت مطلقها إلى غاية تنفيذ الأب الحكم القضائي، هذا إن تعذر عليه توفير سكن ملائم للحاضنة قبل تنفيذه للحكم القضائي.
فكان الأولى بالمشرع أن يجعل بدل الإيجار مقدّما على توفير السكن للحاضنة، لأنه يكون في مقدور المطلّق توفيره لها حال صدور الحكم بإيجابه. وقد سئل ابن حجر الهيثمي عن الأم الحاضنة إذا طلبت أجرة المسكن الذي تحضن فيه أولادها هل يجب على الأب استئجار المسكن أو لا، وهل تسقط حضانتها إذا لم يكن لها مسكن أم لا، وهل يدخل في مؤنة الحضانة أجرة المسكن أم لا؟ فأجاب بقوله:" الأم الحاضنة إن كانت في عصمة الزوج الأب فالإسكان عليه، وإلا فليس لها إلا أجرة الحضانة فتستأجر منها مسكنا إن شاءت ولا تسقط حضانتها بعدم ملكها أو نحوه لمسكن"([44]).
كما أن بدل الإيجار يكون الأفضل بالنسبة للحاضنة القاصر التي لا يكون بمقدورها الانفراد بسكن مستقل عن أهلها، وحتى لو أمكنها قانونا فإن العرف والواقع يأبيان ذلك، لما قد ينجر عنه من مفاسد قد تلحق الحاضنة وتضيع بذلك مصلحة المحضون.
[1]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"الأم أولى بحضانة ولدها ثم أمها ثم الخالة ثم الأب ثم أم الأب ثم الأقربون درجة مع مراعاة مصلحة المحضون في كل ذلك..".
[2]- لا يتسع المقام لذكر ترتيب المستحقين للحضانة من النساء والرجال.انظر في ذلك:ابن قدامة:المغني،11/ 422 وما بعدها. عبد الله الموصلي: الاختيار لتعليل المختار، 4/14-15. الغرياني: مدونة الفقه المالكي، 3/162 وما بعدها. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 7/719 وما بعدها.
[3]- الكاساني: بدائع الصنائع، 4/41. السرخسي: المبسوط، 5/207.
[4]- انظر، ابن القيم: زاد المعاد، 5/535. الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2000، 1/564-565.
[5]- الدارقطني: كتاب النكاح، باب الحضانة، حديث رقم 3808. 4/468.
[6]- السرخسي: المصدر نفسه، 5/207.
[7]- ابن قدامة: المغني، 11/413.
[8]- إذا اجتمعت أم الأب والخالة، فأم الأب أحق وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد وحكي ذلك عن مالك وأبي ثور، وروي عن أحمد أن الأخت والخالة أحق من الأب، فعلى هذا يحتمل أن تكون الخالة أحق من أم الأب، وهو قول الشافعي في القديم، والصحيح عند الحنابلة أن الأم لأب مقدمة على الخالة. ابن قدامة: المغني، 11/422. الشربيني: مغني المحتاج، 3/592.
[9]- ليس معنى كون الحضانة لأحد الوالدين خلوّ الطرف الآخر عن رعاية المحضون ومباشرة مصالحه التي يجب عليه القيام بها أو التي يحتاج إليها المحضون، وكذلك ليس معنى كون الحضانة للجدة -سواء أكانت لأم أو لأب- انفضاض يد الوالدين عن حقهما في رعاية المحضون والنصح له والقيام بمصالحه التي لا يقوم بها إلا هما، وكذلك بعد انتهاء سن الحضانة واختيار المحضون لالتحاقه بأحد أبويه.
[10]- الإمام مالك: الموطأ، كتاب الوصية، باب ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد، حديث رقم:2230 ، 2/317.
[11]- الباجي: المنتقى، 8/149.
[12]- انظر، عبد العزيز سعد: نفس المرجع السابق، ص 140.
[13]- ابن قدامة: المغني، 11/414.
[14]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 11/ 426.
[15]- ابن قدامة: المصدر نفسه، 11/ 427.
[16]- ملف رقم 135640: المجلة القضائية، العدد الأول، 1997، ص 39.
[17]- ملف رقم 256629: المجلة القضائية، العدد الثاني، 2004، ص 421.
[18]- عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:" تسقط الحضانة باختلال أحد الشروط المرعية شرعا في المادة 62 أعلاه. غير أنه يجب مراعاة مصلحة المحضون في الحكم المتعلق بالفقرة أعلاه".
[19]- ملف رقم 245156: المجلة القضائية، عدد خاص، 2001، ص 188.
[20]- هذا الموقف من المشرع يدل على الاتجاه السياسي في تعزيزه لحرية المرأة في العمل، وطريق إلى تحقيق مساواتها بالرجل في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، كما يلحظ هذا الاتجاه من خلال المادة 19 من قانون الأسرة التي تجيز لها اشتراط العمل أو الاستمرار فيه، وبناء على تخلف شرطها بعد الزواج، فلها الحق في طلب التطليق بناء على الفقرة التاسعة من المادة 53. غير أن الدور الحقيقي للمرأة لا يظهر أثره إلا في تربية النشء، وكفاية الولد من الرعاية والعناية وعاطفة الأمومة التي يفتقر إليها الولد في دار الحضانة بعيدا عن أمه لفترة طويلة.
[21]- انظر، عبد العزيز سعد: نفس المرجع السابق، ص 142.
[22]- ملف رقم 274207: المجلة القضائية، العدد الأول، 2004، ص 262.
[23]- انظر، الشيخ نظام: الفتاوى الهندية، 1/565-566.
[24]- انظر، البهوتي: الروض المربع، ص 629-630.
[25]- السرخسي: المبسوط، 5/207.
[26]- الشيخ نظام: المصدر نفسه، 1/566.
[27]- النووي: روضة الطالبين، 6/506.
[28]- ابن عابدين: رد المحتار، 3/603.
[29]- شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام، ص 764. الصابوني: نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام، مكتبة وهبة، القاهرة، ط9، 1983، ص 279.
[30]- أبو زهرة: الأحوال الشخصية، 407.
[31]- محمد عقلة: نظام الأسرة في الإسلام، عمان، مكتبة الرسالة الحديثة، ط 2، 1990، 3/370.
[32] - عدلت بالأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وحررت في ظل القانون 84-11 كما يلي:"نفقة المحضون وسكناه من ماله إذا كان له مال، وإلا فعلى والده أن يهيئ له سكنا وإن تعذر فعليه أجرته".
[33] - يسقط حق الحاضنة في المسكن إذا اختلعت من زوجها على أن يكون البدل الذي تلتزم الزوجة بدفعه هو بدل إيجار المسكن أو نفقتها على الولد -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- وأما في حالة التطليق فالضرر واقع بالمرأة ويوجب لها التعويض، ويكون من حقها كذلك المسكن إذا كانت حاضنة، ويختلف الأمر في اللعان بأن نفى المطلق أبوته لابنه وانتفى النسب فلا نفقة ولا سكنى. انظر، العمراني: البيان في مذهب الشافعي، 10/25. ابن قدامة: المغني، 11/405.
[34] - ابن عابدين: رد المحتار، 3/562.
[36] - أبو زيد القيرواني: النوادر والزيادات، تحقيق محمد عبد العزيز الدباغ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1999، 5/58-59.
[37] - العمراني: البيان في مذهب الشافعي، 11/230-232. ابن قدامة: المغني، 11/402.
[38] - الرملي: نهاية المحتاج، 7/225.
[39] - ابن عابدين: رد المحتار، 3/562.
[40] - انظر، أبو زهرة: الأحوال الشخصية، 410.السيد سابق: فقه السنة، 2/221. شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام، ص 769. محمد بلتاجي: دراسات في الأحوال الشخصية، ص 196 وما بعدها.
[41] - انظر، الماوردي: الحاوي الكبير، 11/478. ابن قدامة: المغني، 11/372 وما بعدها.
[42] - الرملي: نهاية المحتاج، 7/163.
[43] - مضافة بموجب الأمر 05-02 المؤرخ في 27/2/2005. وقد وضع المشرع هذه المادة لتسهيل الأمر على الزوجة عند طلبها نفقة مؤقتة سكن مؤقت أو زيارة وغيرها من الأحكام المنصوص عليها في المادة، وذلك بأن يكون الطلب على ذيل العريضة تقدمه لرئيس المحكمة أو رئيس قسم شؤون الأسرة للحصول على أمر واجب التنفيذ. ولا إشكال من حيث القاضي المختص بذلك كما يرى بعض المحضرين القضائيين، فقد يكون رئيس المحكمة أو رئيس قسم شؤون الأسرة.
[44] - ابن حجر الهيثمي: الفتاوى الكبرى الفقهية، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1983، 4/216.
-